يشهد الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط تصاعدًا واضحًا رغم انشغال العالم بجائحة كورونا التي أثّرت بشكلٍ كبيرٍ على دول العالم، ففي ليبيا تمكنت حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من الأمم المتحدة وتدعمها تركيا، من تحقيق انتصارات كبيرة متتالية على قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر المدعومة من مجموعة دول على رأسها مصر والإمارات وفرنسا، كما أجرى وزير الخارجية التركي اتصالًا هاتفيًا مع نظيرته السودانية أسماء عبد الله تناولا فيه العلاقات الثنائية بين البلدين، وأشار بيان للخارجية السودانية إلى أن وزير الخارجية التركي أوغلو “نقل عزم بلاده تقديم حزمة مساعدات طبية للسودان لاحتواء جائحة فيروس كورونا”، وفي اليمن كذلك يتصاعد الدور التركي عبر الجانب الإنساني من خلال المساعدات التي قدمتها منظمات تركية للشعب اليمني خاصة في محافظات شبوة وحضرموت ومأرب وعدن وتعز.
إذا أردنا أن نتطرق بشيء من التفصيل إلى هذه النقاط، ومقارنتها بأدوار الدول التي تتصارع مع تركيا على النفوذ في المنطقة والمصالح، فإننا نجد فوارق كبيرة بين الجانبين، إذ نجحت أنقرة في انتزاع تفوقٍ واضحٍ على منافسيها، ففي ليبيا تمكنت تركيا من قلب موازين القوى على الأرض لصالح حليفتها “حكومة الوفاق الوطني”، وفي اليمن اقتصر دور تركيا حتى الآن على تقديم المساعدات الإنسانية، ولم تتدخل بشكل مباشر في الصراع الداخلي الذي مُني فيه التحالف السعودي الإماراتي بهزيمة غير متوقعة رغم إنفاقهما مليارات الدولارات واستعانتهما بقوة عسكرية ضاربة من مليشيا الجنجويد السودانية.
طائرات الدرونز حسمت المعركة
تصنف تركيا حاليًّا كقوة كبرى في عالم الطائرات دون طيار “الدرونز”، لدرجة أن بعض الخبراء يعدونها القوة الثالثة بعد الولايات المتحدة و”إسرائيل” على مستوى حِرَفية تشغيل الدرونز في العمليات العسكرية بتزامنات دقيقة سواءً كانت مسلحة أم للمراقبة والرصد والاستخبارات، ولا يوجد دليل أكبر مما فعلته طائرات أنقرة في سماء ليبيا بتدميرها منظومة “بانتسير إس 1” الروسية.
كان التفوق في السماء الليبية بادئ الأمر لقوات حفتر وحلفائه، قبل أن تقلب الدرونز التركية المعادلة عبر ما شاهده كثيرون الشهر الماضي من تدمير لمنظومة “بانتسير إس 1” وما صاحبه من تقدم عسكرّي لقوات حكومة الوفاق في طرابلس بعد سيطرتها على قاعدة الوطية الجوية أحد المواقع الإستراتيجية في مشروع حفتر للانقلاب على الشرعية في ليبيا.
وبفضل الدعم التركي كذلك، تمكنت حكومة الوفاق عبر عملية “عاصفة السلام”، من إحكام سيطرتها خلال اليومين الماضيين على عدة مواقع في الغرب الليبي، بعد أن أمّنت كل أجزاء محافظة طرابلس العاصمة، لتصبح العاصمة أكثر أمانًا حيث كانت تتعرض لهجمات متفرقة وقصف جوّي شبه يومي، إلا أن عملية “عاصفة السلام” التي أطلقتها حكومة الوفاق مدعومة بطائرات تركية دون طيار نهاية مارس الماضي، أصبحت المنطقة الممتدة من العاصمة طرابلس غربًا وصولًا إلى معبر رأس جدير الحدودي مع تونس، تحت سيطرة قوات حكومة الوفاق الوطني بالكامل.
لم ينته طموح الحكومة الشرعية في ليبيا عند هذا الحد، فقد أكدت عملية “بركان الغضب” التابعة لقوات الوفاق في بيان أصدرته مساء الجمعة، أن “أعيان مدينة سرت عرضوا تسليم المدينة” لقواتها، بينما انطلقت في ميدان الشهداء بالعاصمة الليبية احتفالات بالانتصارات التي حققتها قوات حكومة الوفاق، بعد أكثر من عام من المواجهات المسلحة مع قوات حفتر.
هذا عن التدخل التركي في ليبيا الذي جاء بعد تفاهمات مع حكومة الوفاق، شملت توقيع اتفاقية بحرية بين البلدين مقابل توقيع اتفاقية دفاع أمني تحمي حكومة السراج أمام حفتر المدعوم بقوة. التطور التركي الجديد جاء بهدف منع إسقاط حكومة الوفاق بأي ثمن، في وقتٍ اقتربت فيه قوات حفتر من جنوب طرابلس، حيث المدن الآهلة بالسكان، بعدما كانت المعارك متركّزة في الصحراء المكشوفة.
التدخل التركي لم يأت من فراغ، فمنطقة شرق البحر المتوسط تزخر بثروة هائلة من الغاز الطبيعي غير المُكتشفة جعلت دول المنطقة تتصارع سعيًا للحصول على حصة منها عبر توقيع اتفاقات ترسيم الحدود في المناطق المُشتعلة المُتنازع عليها، وفي عام 2010 قدّرت هيئة المسح الجيولوجية الأمريكية ثروات مياه شرق البحر المتوسط من الغاز الطبيعي والنفط بنحو 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، و1.7 مليار برميل من احتياطات النفط، جميعها غير مكتشفة حتى الآن.
السودان.. سفير جديد ومبادرة تركية إنسانية
عندما سقط نظام الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير تخوّف كثيرون من إمكانية تضرر تركيا من ذهابه، فرغم أن البشير أخذ يتقلب في مواقفه بين المحور السعودي الإماراتي من جانب والمحور التركي القطري من الجانب الآخر، فإنه احتفظ بعلاقات جيدة مع الرئيس رجب طيب أردوغان الذي قام بزيارة تاريخية إلى السودان أواخر العام 2017 تم خلالها الاتفاق على تخصيص جزيرة سواكن إلى تركيا لفترة معينة، وعقب سقوط نظام البشير نشرت وسائل إعلام سعودية وإماراتية أخبارًا تزعم أن حكومة السودان ألغتها رغم عدم وجود قرار رسمي بذلك، حتى نفت الخارجية التركية صحة هذه الأنباء.
الحكومة التركية لم تكن تشعر بالثقة تجاه نظام الحكم السوداني الحاليّ الذي جاء نتيجة لاتفاق دستوري بين المجلس العسكري (المحلول) وقوى إعلان الحرية والتغيير خاصة أن قيادات المجلس العسكري معروفون بولائهم الشديد للإمارات والسعودية، كما أن أحزاب الحرية والتغيير أغلبها ذات توجه يساري لكنها “الأحزاب” حرصت – رغم ضغوط الرياض وأبو ظبي – على إبقاء التواصل مع تركيا، إذ رشّحت لحكومة أنقرة عادل إبراهيم ليكون سفيرًا فوق العادة ومفوضًا لجمهورية السودان لدى تركيا، وقد تلقّت الخارجية السودانية موافقة رسمية من الجانب التركي على الترشيح.
أنقرة بادلت الخرطوم التحية بمثلها، فقد أجرى وزير خارجيتها مولود تشاووش أوغلو اتصالًا هاتفيًا بنظيرته السودانية أسماء عبد الله، أعلن فيه عزم بلاده تقديم حزمة مساعدات للسودان تتضمن أجهزة تنفسٍ صناعي ومستلزماتٍ طبيةٍ أخرى للمساعدة في جهود الحكومة السودانية لاحتواء جائحة فيروس كورونا والتغلب عليها.
ترشيح الحكومة السودانية الجديدة سفير جديد لدى أنقرة وإجراء وزير الخارجية التركي اتصالًا هاتفيًا بنظيرته السودانية يؤكد استعداد البلدين لبناء علاقة طبيعية على الأقل، خاصة أن سفير تركيا في الخرطوم يتحرك بصورة جيدة، وقد كشف الصحفي حاتم درديري أن السفير التركي عرفان نذير عرض على والي الخرطوم المكلف يوسف الضي إمكانية استبدال المخابز البلدية بأخرى آلية تحل مشكلة ندرة الخبز التي تؤرق البلاد منذ عهد الرئيس المخلوع.
تركيا وجدت فرصة في الشرخ الذي حدث بين التحالف السعودي الإماراتي وأبرز حلفائه المحليين في اليمن متمثلًا بحزب الإصلاح، كي تتمكن من توسيع نفوذها إلى جنوب الجزيرة العربية
اليمن.. دور إنساني كبير لتركيا تمهيدًا لأدوار سياسية
منذ العام 2018، كثفت تركيا من تقديم المُساعدات الإنسانية للمتضررين من حرب اليمن، عبر هيئة الإغاثة الإنسانية التركية، التي أعلنت آنذاك، تقديم مساعدات إنسانية للمحتاجين في مدن مأرب والجوف وسيئون، وتكرر تقديم المساعدات التركية خلال العامين الماضيين، ثم افتتحت الهيئة التركية ووكالة التنسيق والتعاون 11 مركزًا صحيًّا في اليمن بقدرة استيعابية 250 ألف مريض سنويًّا، وعشرات المراكز الصحية التي تتوزع بين محافظاتها، وغيرها العديد من المشروعات الصحية والتنموية، وذلك على حد قول المتحدث الرسمي للهيئة.
ووفق مقال للكاتب عمرو أحمد، كانت المنطقة الحاضنة للمساعدات التركية هي جنوب اليمن، وبالأخص عدن الجنوبية، الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية المُعترف بها دوليًّا، حيث سهَّل حزب التجمع اليمني للإصلاح (الذي يعد فرع جماعة الإخوان المسلمين باليمن)، وهو أبرز القوى السياسية التي تعارض الحوثي والقريبة من الرئيس اليمني المُقيم بالرياض عبد ربه منصور هادي، الكثير من توزيع المساعدات الغذائية التركية، رغم المعارضة الإماراتية لهذا الدور.
من جانبها، ذكرت مصادر صحفية أخرى أن تركيا وجدت فرصة في الشرخ الذي حدث بين التحالف السعودي الإماراتي وأبرز حلفائه المحليين في اليمن متمثلاً بحزب الإصلاح، كي تتمكن من توسيع نفوذها إلى جنوب الجزيرة العربية وباب المندب والممرات المائية الدولية.
وقالت مصادر موقع المساء برس “التحركات التي قادها مسؤولون بحكومة الشرعية نحو تركيا التي تمثلت بتوقيع اتفاقيات مشتركة ولقاءات متعددة رسمية بين مسؤولي الشرعية ونظرائهم من المسؤولين الأتراك، تهدف للتمهيد للتدخل التركي في اليمن”، مشيرةً إلى أن التدخل قد يبدأ على المستوى الاقتصادي ثم السياسي، ولم تستبعد المصادر أن يتطور الوضع لأن يتحول التدخل التركي إلى تدخل عسكري مباشر بالنظر إلى حملة الترويج للتدخل العسكري التركي في اليمن التي بدأ بها ناشطو وإعلاميو حزب الإصلاح خلال الأيام الماضية. حسب الصحيفة.
الهدف الأكبر من تدخل تركيا في اليمن هو وضع قدم لها على السواحل اليمنية، ليأتي استكمالًا لمشروعها الهادف إلى توسعة نفوذها في المنطقة
كما نقلت وكالة أنباء الأناضول، عن وزير النقل اليمني صالح الجبواني قوله في وقت سابق: “تركيا عادت بقوة إلى الساحة العالمية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان”، وألمح في تغريدة على تويتر إلى الدور التركي المتصاعد في اليمن، وذلك في أعقاب سلسلة لقاءات جمعت الوزير بمسؤولين أتراك في أنقرة، من بينهم وزير النقل والبنية التحتية جاهد طورهان ونائب رئيس حزب العدالة والتنمية نعمان قورتولموش.
صحيح أن مصدر في الحكومة اليمنية المعترف بها، هاجم فيما بعد الاتفاقيات التي وقعها وزير النقل لكن من الواضح أن ذلك يعود إلى حالة الانقسام الداخلي في حكومة الرئيس هادي، فقد استمرّت اللقاءات بين عدد من قيادات الحكومة اليمينية والحكومة التركية.
المواقف الضعيفة للرئيس اليمني ورئيس حكومته من التوجهات والمخططات السعودية والإماراتية والصراع الذي اندلع بين الحليفين، في ظل تهميش رجال هادي الأقوياء، ربما سيسرع من ولادة تيار جديد من داخل الشرعية، وهو ما تعول على تركيا بالإضافة إلى حزب الإصلاح.
توجه تركيا نحو اليمن لن يكون من أجل الحرب وإعادة “الإمبراطورية العثمانية” كما تزعم بعض وسائل الإعلام الممولة من الرياض وأبو ظبي، بل هدفها لا يزيد على أهداف دول العالم التي تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة، وفي الوقت نفسه تقدم ما يمكن تقديمه للسكان المحليين وفق قاعدة “رابح.. رابح” .
ويمكن أن نخلص إلى أن الهدف الأكبر من تدخل تركيا في اليمن هو وضع قدم لها على السواحل اليمنية، ليأتي استكمالًا لمشروعها الهادف إلى توسعة نفوذها في المنطقة، بالقرب من المضائق والممرات الحيوية في البحر الأحمر، الذي بدأته بتركيز وجودها في الصومال ثم جزيرة سواكن السودانية، وصولًا إلى مساعيها للوجود في محافظتي تعز وشبوة لتكون قريبة من باب المندب وبحر العرب.