زاد الصندوق السيادي السعودي – على عكس المعمول به في مختلف دول العالم في هذا التوقيت الحرج – من استثماراته الخارجية بصورة لم يشهدها من قبل، حيث بلغت قيمة أسهمه المدرجة في البورصات الأمريكية مع نهاية الربع الأول من 2020 قرابة 10 مليارات دولار مقارنة بملياري فقط بداية العام، بحسب البيانات الصادرة عن لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية.
وقد أظهرت تلك البيانات أن الصندوق السعودي اشترى حصصًا في 24 شركة أمريكية خلال الأشهر الأربع الأولى من العام الحاليّ، أبرزها “بوينج” و”سيتي جروب” وفيسبوك” و”ووالت ديزني” و”بنك أوف أمريكا”، فيما توزعت الاستثمارات على عدد من المجالات منها الطيران والنقل والتكنولوجيا والسياحة والإعلام والترفيه والأدوية والأغذية والمشروبات.
تأتي تحركات الصندوق السيادي الاستثمارية في الخارج في إطار تعزيز رؤية ولي العهد محمد بن سلمان، “2030” لتنويع مصادر الدخل، من خلال تدشين اقتصاد مواز بعيد عن ريع النفط، لا سيما بعد الضربات الموجعة التي تلقاها خلال السنوات الأخيرة بسبب تأرجح أسواق النفط العالمية.
العديد من التساؤلات فرضت نفسها مع إعلان أرقام الاستثمارات الكبيرة للصندوق، أبرزها ما يتعلق بمدى ملاءمة هذا التوقيت لمثل تلك الممارسات في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد العالمي من ركود واضح على القطاعات كافة، هذا بخلاف مدى نجاح تلك الاستثمارات في تحقيق العائد منها في أسرع وقت بينما تعاني المملكة من عجز كبير في موازنتها العامة على مدار السنوات الستة الماضية.
فورة إنفاق
في قراءة سريعة للبيانات الصادرة عن الكيانات الأمريكية يلاحظ أن الجزء الأكبر من الاستثمارات السعودية تمحور في شراء حصص في أسهم عدد من الشركات الغربية، بعيدًا عن الاستثمار في المجالات الإنتاجية عبر تبني مشروعات بعينها، وهو التوجه الذي يسيطر على العقلية الاستثمارية بالمملكة.
اللافت للنظر هذه المرة أن حزمة الاستثمارات الجديدة التي أطلقها صندوق الثروة السيادي تضمنت مساعٍ للاستحواذ على حصص في أندية رياضية شهيرة مثل “نيوكاسل يونايتد” النادي الإنجليزي المعروف، الأمر الذي دفع بعض الخبراء إلى التساؤل عن دوافع هذا النوع من الاستثمارات وعلاقته بالسياسة أو بالأصح بتحسين صورة المملكة عالميًا.
مسألة اختيار أمريكا على وجه التحديد لتعزيز الاستثمار فيها بدأ التفكير فيها بداية 2019 حين أعلن مسؤولو الصندوق عن خطط جديدة لتوسيع وجودهم في الولايات المتحدة من خلال فتح مكاتب جديدة لهم في نيويورك وسان فرانسيسكو، وإن كان هذا لا ينكر وجود استثمارات للصندوق في أمريكا قبل ذلك.
ففي 2016 حصلت شركة “أوبر” على 3.5 مليار دولار من صندوق الاستثمار العام السعودي عام 2016، في حين تلقت “تسلا” نحو ملياري دولار في 2018، كما خصص الصندوق في العام ذاته 45 مليار دولار لصندوق رؤية “سوفت بنك” بقيمة 100 مليار دولار، الذي أفاد عن خسائر بقيمة 18 مليار دولار بعد تدوين تقييمات العديد من أصوله.
وتأتي “فورة الإنفاق السعودي” كما يصفها متابعون للشأن الاقتصادي بالمملكة، للاستثمار في مؤسسات أمريكية، في وقت تعاني فيه المملكة من أزمات اقتصادية حادة، جراء تراجع أسعار النفط وزيادة الإنفاق من أجل مواجهة جائحة كورونا، بجانب توتر العلاقات بين الرياض وواشنطن، وهو ما يضفي عليها صبغة سياسية إلى حد ما.
نكهة سياسية
انتقادات عدة قوبلت بها هذه الطفرة الكبيرة في حجم الاستثمارات المليارية السعودية بالخارج في بداية الانكماش الاقتصادي العالمي بصفة عامة والسعودي على وجه التحديد، هذا في الوقت الذي تتراجع فيه توقعات تحقيق تلك الاستثمارات العائد المتوقع على المدى القصير.
ورغم ما يعتبره مسؤولو الصندوق بأن توجهاتهم ذات خصوصية مغايرة عن بقية التوجهات الاستثمارية الأخرى، كون الصندوق السيادي مستثمرًا ذا أفق طويل المدى نسبيًا، إلا أن تساؤلات عدة أثارت نفسها أمام هذا التوجه أبرزها: لماذا تحرص المملكة على ضخ استثمارات جديدة في الشركات السعودية التي تعاني من أزمة وكأنها تحاول إنقاذها قبل فوات الأوان، وذلك على النقيض تمامًا مما يحدث مع شركات المملكة؟
المحلل الاقتصادي روبرت موجلنيسكي أجاب عن هذا التساؤل بقوله: “في حين أن المكاسب الاقتصادية هي هدف أساسي لأنشطة الصندوق، إلا أن الأجندات السياسية تعد عاملًا مهمًا آخر يؤثر في الاستثمار”، موضحًا أن التوسع في صناعة الترفيه والاستثمارات الخارجية في التكنولوجيا هدفًا رئيسيًا لـ”2030”.
موجلينسكي في تقرير له منشور على موقع معهد دول الخليج العربية في واشنطن تحت عنوان “صندوق الاستثمارات العامة السعودي يواصل الإسراف في الإنفاق” أوضح أن الهدف الأساسي لصندوق الثروة السيادي، تقديم أشكال جديدة من مناطق الجذب السياحي ودفع المملكة إلى خريطة السياحة الدولية.
ويختتم الباحث المقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن تقريره بأن جزءًا كبيرًا من الإنفاق السعودي من المحتمل أن يمتد إلى الشركات الأمريكية ما يخلق تجمعات مد تجارية حيث يمكن لارتفاع المد الاقتصادي أن يرفع القوارب السعودية والأمريكية معًا، ورغم عدم ضمان تحقيق عوائد قوية من وراء هذا الاستثمار، فإن البعد السياسي سيكون حاضرًا وبقوة.
مغامرة محفوفة بالفشل
حذرت وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية في تقرير لها، من تداعيات ما أسمته “المغامرات السعودية المالية في الخارج”، لافتة إلى أن التخوف الأبرز من وراء الهرولة نحو الاستثمارات الخارجية يتمثل في عدم الاستقرار، خاصة في ظل موجات المد والجذر التي تضرب المنظومة الاقتصادية العالمية خلال الآونة الأخيرة.
التقرير نوه بأنه ما كان للمملكة الاعتماد على صندوق الثروة السيادية في ظل ما تواجهه من تذبذب كبير في أسعار النفط، موضحًا أن الرياض لم تنجح بعد في تنويع مصادر دخلها، وهو ما أدى في النهاية إلى تراجع الاقتصاد وتعرضه للعديد من الهزات في ظل الاعتماد على النفط كمورد وحيد للاقتصاد.
وتوقعت الوكالة السعودية وصول الدين العام في السعودية إلى 19% هذا العام، على أن يرتفع إلى نحو 27% في العام المقبل، كاشفة أن مخاطر الائتمان ربما تهدد السعودية في الفترة المقبلة، على غرار دول مثل الهند وروسيا وإندونيسيا، مختتمة تقريرها بأن الرياض في حاجة ماسة وبأقصى سرعة إلى البدء في ترتيب أمورها وفق ما هو متوافر لديها بدل الاستدانة.
ومن زاوية أخرى يتهم خبراء اقتصاد ألمان المسؤولين عن الصندوق السيادي السعودي بإهدار مليارات الدولارات من خلال الدخول في صفقات استثمارية فاشلة، واختيار الوقت غير المناسب لضخ تلك الاستثمارات، منددين ببيع الصندوق أسهمه في شركة تسلا الأمريكية التي تقدر بـ8 ملايين سهم قبل بضعة أشهر، حيث عرضها ذلك لخسارة فادحة.
الكاتب الاقتصادي ألكسندر ديمينغ، أشار في مقال له منشور بصحيفة “هاندسبلات” الاقتصادية، في 5 من فبراير 2020 أن صندوق الثروة السيادي السعودي “يستثمر مليارات الدولارات في شركات ذات توجه مستقبلي، غير أنه يرتكب في ذلك كل الأخطاء التي يمكن ارتكابها”.
المقال استعرض تجربة الصندوق السعودي مع أسهم شركة تسلا الأمريكية، ذاكرًا أن أسهم الشركة ارتفعت في نهاية سبتمبر 2019 من 221 دولارًا للسهم الواحد ليصل في ذروته إلى 887 دولارًا قبل أن يتراجع إلى 735 دولارًا حاليًّا، غير أن المسؤولين السعوديين باعوا أسهمهم وهي في حدودها الدنيا.
وأضاف أنه لو كانت لديه حسابات دقيقية وقراءة موضوعية لحركة الأسهم صعودًا وهبوطًا، لحقق مكاسب قدرها 5.5 مليار يورو حال بيعها بسعر 887 دولارًا للسهم، أو على الأقل 4.2 مليار يورو حال البيع بعد تراجع سعر السهم إلى 735 دولارًا، وهو ما يعني أن الإدارة الحاليّة للصندوق وفق ما تتبناه من إستراتيجيات وسياسات إدارية كبدت المملكة خسائر بالمليارات.
وهكذا يبدو أن السياسة هي ما تحرك مسار الصندوق السيادي للمملكة خارجيًا، وهو ما يتماشى مع التوجه العام للسعودية منذ صعود نجم محمد بن سلمان الذي لا يتوانى مطلقًا عن تسخير كل إمكانات الدولة ونفوذها المالي والسياسي لتحقيق حلمه في خلافة والده على عرش المملكة، حتى لو كان ذلك على حساب مستقبل الشعب السعودي ومقدراته.