ليس سهلًا على اليهود الأمريكان ترك الولايات المتحدة في هذا التوقيت الحرج والبحث عن وطن جديد لهم، لكن إن كان هناك من يساعدهم ويزين لهم الخروج الآمن والتجمع في وطن يهودي الهوية ينهي ما يتعرضون له من متاعب خلال أزمات أمريكا وأجواء عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي وصعود القوميين البيض ومعاداة السامية، فالصورة قد تصبح مختلفة تمامًا.
تنشط المنظمات الإسرائيلية بقوة وسط الاحتجاجات الأمريكية المشتعلة لاستقطاب الخبرات اليهودية وترحيلها إلى “إسرائيل”، ونجحت في مهمتها بشكل غير مسبوق، بعدما تضاعف الطلب على الهجرة ربما أضعاف العقديين الماضيين.
الهجرة.. ما الذي توفره “إسرائيل”؟
الهجرة مفتوحة في “إسرائيل” لأي شخص يثبت عرقه اليهودي، حيث تعتبر نفسها وطنًا لليهود في الشتات، ويعتبر الوافدون اليهود الجدد بالنسبة لها مهاجرين عرقيين عائدين وأعضاء شرعيين في الأغلبية اليهودية العرقية.
ينص قانون العودة المعتمد منذ عام 1950، على توفير الإطار القانوني الذي يمنح الجنسية الإسرائيلية لليهود وأطفالهم فور الهجرة مباشرة، ويستمد القانون نصوصه الرئيسية من الشريعة اليهودية، حيث يعتبر كل شخص وُلِد من أم يهودية أو اعتنق اليهودية ولا ينتمي إلى دين آخر، من حقه الاستفادة من هذا القانون الذي يمنح أحفاده ـ حتى لو منهم من ليس يهوديًا ـ حق الجنسية.
ومعظم المهاجرين الوافدين إلى “إسرائيل” من أصول يهودية، مما عزز الأغلبية اليهودية، وإن كانت التركيبة العرقية تغيرت قليلًا منذ منتصف التسعينيات، لكن اليهود يشكلون حتى الآن نحو ثلاثة أرباع مجموع السكان.
والهجرة اليهودية هي أهم قضية ديمغرافية في “إسرائيل” منذ تأسيسها، وتاريخيًا هناك دولتان مسؤولتان عن تزايد أعداد الإسرائيليين من جراء الهجرة وهما روسيا وأوكرانيا، وعمليًا ينظر في “إسرائيل” إلى تسريع وتيرة الهجرة إليها، على أنها أدق مقياس لنجاح المشروع الصهيوني.
يمكن القول إن التحول والاهتمام الكبير بالبوصلة الأمريكية، يعود إلى رغبة الجهات الإسرائيلية المعنية في استقدام عناصر قوية تفيد المجتمع، فأكثر من نصف المهاجرين الذين وصلوا في السنوات الأخيرة من دول الكتلة السوفيتية ليسوا مؤهلين بالمرة سواء للاندماج أم للاستفادة منهم.
تحفز المنظمات العاملة في أمريكا الدوافع اليهودية أولًا لمن يريد المغادرة إلى “إسرائيل”، خاصة بعد تفاقم التفاوت الهوياتي، لدرجة أن مئات الآلاف من الإسرائيليين ولمجرد رفضهم بعض القوانين والتقاليد الدينية التي تطبق، وتختلف عما اعتادوه في بلدانهم الأم، ينظر إليهم الآخرون باعتبارهم مواطنين درجة ثانية ومنبوذين.
تنمي المؤسسات العاملة في أمريكا ما يسمى بحس الأخوة اليهودية، لزيادة مناعة الهوية وعدم انقسام المجتمع إلى مجموعات مختلفة غير قادرة على الزواج من بعضها البعض، مما يخلق صدعًا تاريخيًا لن يكون من الممكن إصلاحه بالضرورة.
وتلتزم “إسرائيل” بشكل صارم، بعمل إدماج ناجح لأولئك الذين يستطيعون السفر بموجب قانون العودة، وتحدد لهم برامج مساعدات مالية خلال عامهم الأول، يشمل أشكال الدعم الأخرى كافة من تعليم عبري مجاني وتمنحهم القروض لشراء المنزل ومنح أخرى لطلاب الجامعات.
تستخدم المنظمات مقاطع الفيديو المنتشرة التي تصور النهب والدمار للممتلكات اليهودية في شوارع أعظم مدن أمريكا
تزايد نشاط التهجير في أمريكا
خلال الشهر الماضي، تقدم الكثير من اليهود الأمريكيين بطلب للهجرة إلى “إسرائيل”، وفقًا لمنظمة Nefesh B’Nefesh وهي منظمة غير ربحية تروج للهجرة اليهودية إلى “إسرائيل”، وكانت نشطة للغاية وسط الأحداث التي تمر بها أمريكا، من أجل استقطاب المزيد من اليهود.
منذ أشهر والمنظمة وغيرها يعملون بمنتهى القوة رغم إلغاء الرحلات الجوية وصعوبة متطلبات الحجر الصحي في “إسرائيل” نفسها بسبب وباء الفيروس التاجي، ورغم ذلك كان لهذه المنظمات اليد العليا في إقناع ما يقرب من 1000 أسرة للتقدم بطلبات رسمية للحصول على الجنسية الإسرائيلية، بالإضافة إلى آلاف الاستفسارات الهاتفية لمعرفة الشروط والإجراءات.
تستغل المنظمات القلق المتزايد بين اليهود الأمريكيين بشأن مستقبلهم في بلد ممزق بالوباء والانحدار الاقتصادي والاضطراب السياسي والاجتماعي، فضلًا عن زيادة معاداة السامية بشكل مسبوق، ولهذا يتوقع الأمين العام للوكالة اليهودية جوش شوارتز، استقبال “إسرائيل” ما يصل إلى 50 ألف مهاجر جديد عام 2021.
وهي زيادة كبيرة مقارنة بالسنوات الأخيرة، في ظل تداعيات جائحة COVID-19 والنجاح الجيد لإدارة “إسرائيل” للوباء مقارنة بالدول المتقدمة التي يعيشون فيها حاليًّا، التي تعيش في حصار قاسٍ بسبب تفشي الفيروس وضربه البنية التحتية لأفضل الأنظمة الصحية في العالم.
ويبدو من خطاب المؤسسات الإسرائيلية التي تروج للهجرة، أنها تستخدم الانكماش الاقتصادي الشديد في أمريكا وتضرر المصالح اليهودية وبحث اليهود عن حلول مختلفة لهذه المشاكل، ما يسهل مهمة توجيههم إلى ضرورة وضع بيضهم كاملًا في السلة الإسرائيلية التي توطن الحلول التكنولوجية وتوفر كل سبل العمل عن بعد حتى من قبل الجائحة، كما تستخدم المنظمات مقاطع الفيديو المنتشرة التي تصور النهب والدمار للممتلكات اليهودية في شوارع أعظم مدن أمريكا، بعد وفاة جورج فلويد الوحشية على يد ضابط شرطة مينيابوليس.
العداء للسامية.. نهاية عصر اليهود بأمريكا
أكثر ما يخدم المشروع الإسرائيلي هو تعاظم مخاوف اليهود الأمريكيين كل يوم، بعدما أصبحوا يشعرون يومًا بعد الآخر أن ظاهرة التفوق الأبيض التي عززها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب – الحليف التاريخي لـ”إسرائيل” – تسير جنبًا إلى جنب مع الارتفاع في الحوادث المعادية للسامية بجميع أنحاء أمريكا.
ولهذا بات لديهم قناعة أن اليمين المتطرف يمثل تهديدًا لليهود أيضًا، بل وربما أكثر من غيرهم، ولن يتركهم بعد أن يتخلص من المسلمين والأفارقة.
المخاوف اليهودية من خيالات النازية الألمانية التي بدأت بروح عدائية كبرت حتى استهدفت العرق نفسه ونظمت لهم مذابح هي الأسوأ في التاريخ من وجهة نظرهم، تبررها الاعتداءات المعادية للسامية في نيويورك والضواحي المجاورة على مدار الأيام الماضية.
ويكشف استطلاع رأي حديث، أن 80% من اليهود على وعي بزيادة الحوادث المعادية للسامية في الولايات المتحدة، وهي مخاوف تؤكدها سجلات رابطة مكافحة التشهير التي دونت زيادة هذه الحوادث بنسبة 150% منذ عام 2018 إذا تمت مقارنتها بالحوادث المسجلة ضد اليهود عام 2013.
وتختلف مبررات الكراهية التي يتعرض لها اليهود، فهم إما رأسماليون استغلاليون أو شيوعيون مدمرون أو دعاة حرب، وهكذا تسير الاتهامات الشعبوية غير المتناسقة لليمين المتطرف الصاعد بجنون على المسرح الأمريكي، وكأنه يستهدف أولًا مناعة البنية الثقافية التي طالما تغنت بالتعددية والتسامح والاحترام المتبادل، باعتبارها من الآداب الأساسية للقيم الأمريكية.
البحث في هذه الردة الغريبة في المجتمع الأمريكي، يؤكد أن خلفها الزيادة الهائلة في استخدام الإنترنت من التقدميين البيض على مدى العقد الماضي، ما زاد من نزعات التطرف، فالمنصات المختلفة التي أُنشئت دون رقيب على شبكة الإنترنت، قدمت الكثير من المعلومات الخاطئة التي شوهت الواقع ودمرت العلاقات بين الأعراق.
كما يتخوف اليهود من أن المجتمع الأمريكي عنصري بطبعه والعنصرية هيكلية ومخبوزة فيه بحسب وصف الرئيس السابق باراك أوباما الذي كان يبني الكثير من قراراته للجبهة الداخلية على خلفيات عنصرية بحسب الكثير من المراقبين، ولهذا صرح أكثر من مرة أن الأمريكيين السود يتعرضون لتهديد مستمر ووجودي من الدولة ومن هيئات إنفاذ القانون أولًا وقبل كل شيء.
في الشوارع المشتعلة بأمريكا اليوم، تظهر كراهية التفوق الأبيض لليهودية بوضوح، خُربت معابد نيويورك ولوس أنجلوس، ونُهب ما يقرب من 75% من المتاجر المملوكة لليهود في بيفرلي هيلز نهاية الأسبوع الماضي، فضلًا عن عشرات الكتابات المعادية لهم على جدران الشركات والشوارع.
مستقبل اليهود في أمريكا
يتمتع اليهود الأقوياء بحماية شديدة في أمريكا بسبب أموالهم ونفوذهم، لكن الضعفاء ليسوا كذلك، ولهذا يشعر الكثير منهم بالقلق المتزايد، وبشكل عام يعيشون مخاوف واسعة لها جذور تاريخية، تجعلهم يقضون وقتًا كبير في فحص أنفسهم بشكل دائم، ويعملون بشكل متواصل على توثيق التراث اليهودي الأمريكي لحمايته من العبث في أي وقت.
ويتوقع اليهود في الغرب عمومًا، حدوث تقلبات متجددة لهم وغير متوقعة في الحياة الجماعية، وأغلب توقعاتهم متشائمة بسبب دورانهم في المعطيات القديمة التي قادتهم إلى المجازر والأفران النازية.
ورغم اختلاف الولايات المتحدة عن بقية دول العالم واحترام الشعب لدستور البلاد وطريقة الحياة الأمريكية المتجذرة كما هي منذ نشأة الدولة، بغض النظر عن بعض التوترات الدائرة، لكن اليهود لهم رأي آخر، حيث لا يستطيعون عزل يهود أمريكا عن بقية يهود العالم من حيث التحديات والمخاوف.
كل هذه الأسباب يعتمد عليها الناشطون في زيادة تحفيز اليهود للسفر إلى “إسرائيل” وتخويفهم من فقدان هويتهم اليهودية من فرط سعي البعض للتغلب على المصاعب والمخاطر، بالتطرف في الاندماج مع المجتمع الأمريكي والتراجع عن الالتزام بالطقوس والموقف اليهودي من الحياة، بما قد يجعلهم في يوم ما مجرد “كنيسة” أمريكية، دار للعبادة يدخلون ويخرجون منها على أساس فردي وليس أكثر، وربما هذا ما يسرع انتقال أغلبهم إلى “إسرائيل” والبقاء فيها.