في شهر أبريل من العالم الحاليّ، أعلنت شركة أسيلسان التركية نجاحها في تنصيب نسخة وطنية من نظام تمييز الأهداف، الوضع 5 “identificationof friend and foe systems -IFF” في طائرات الـF16 الأمريكية الذي أعلنت تطويره محليًا في فبراير عام 2019. خبر قد يكون عاديًا ضمن سعي تركيا لتطوير صناعاتها العسكرية والتقنية، لكن في ثناياه، يخفي صراعًا مخابراتيًا طويلًا سقط فيه مجموعة من مهندسي المشروع واحدًا تلو الآخر في ظروف غامضة أخرت المشروع لسنوات!
ما هي أنظمة تمييز الأهداف IFF؟
هي وسيلة تحديد هوية الطائرات في أثناء القتال لأغراض الدفاع الجوي، بدأ تطويرها منذ الأربعينيات، بعدما كان الطيارون يعتمدون على نظرهم المجرد في تحديد الأهداف الجوية والأرضية، وتُستعمل التقنية التي تتكون من جزئين “جهاز وبرنامج” أيضًا في تنظيم الاتصال بين القاعدة الأرضية والطائرة في أثناء التحليق.
كانت التقنية تعاني من مشاكل كبيرة في تحديد الأهداف المعادية خاصة في حالة دخول نفس الأنواع من الطائرات في اشتباك مباشر، لكن التقنية حققت تقدمًا كبيرًا مع إدخالها لطائرات الإيواكس عام 1997، ثم تطورت التقنية أكثر ودخلت الاستخدامات المدنية والعسكرية معًا، ليكون استخدامها في 5 أوضاع “5- modes”:
– الوضع 1 – استخدام عسكري: تحديد رمز المهمة وتحديد هويات الطائرات.
– الوضع 2 – استخدام عسكري: يحدد رقم ذيل الطائرة.
– الوضع 3 – استخدام مدني: يحدد هوية الطائرة برج المراقبة في المطارات المدنية.
– الوضع 4 – استخدام عسكري (خاص بحلف الناتو): شفرة خاصة بتحديد هويات الطائرات المعادية.
– الوضع 5 (S) – استخدام عسكري (خاص بحلف الناتو): شفرة مطورة وسرية لتحديد هويات الطائرات والأهداف المعادية في البر وتحت البحر “submarine” وتأمين الاتصال الأرضي.
يمثل الوضع الخامس من استخدام هذه الأنظمة التطور الأخير والأكثر تأثيرًا، إذ يرتبط بأنظمة توجيه الصواريخ والتشويش على الأهداف المعادية ضمن نطاق الرادار وتمييزها، فيوجه الطائرة لتفادي الصواريخ الاعتراضية والتشويش عليها، إضافة للنوع “S” من هذا الوضع، الذي يضمن عدم اختراق الاتصال مع القاعدة الأرضية، وبالتالي فالطائرة قادرة على العمل بكفاءة عالية في كل المناطق العسكرية والمدنية دون الخطأ بالهدف.
تستخدم طائرات إف 16 العاملة ضمن حلف الناتو، الأجهزة التي يزودها الجيش الأمريكي للطائرة ويبرمجها، وهنا تبدأ المشكلة! فالولايات المتحدة تضع شروطًا خاصة تضمن خلالها عدم استخدام أسلحتها بما يتعارض مع سياستها، كما تضمن استمرار صفقات الصيانة وتطوير الأجهزة، وبالتالي تقوم هي ببرمجة هذه الأجهزة وتشغيلها بما يتيح لها التحكم الكامل بالأسلحة التي تبيعها.
بالطبع، لا مشكلة لدول الناتو ممن تستخدم الإف-16 مع قيادة القوات الجوية الأمريكية لأن نطاق الأعداء لا يخرج كثيرًا عن نطاقها، كما أنها بكل الأحوال تملك إمكانية لتطويرها محليًا، لكن المشكلة تحصل مع الدول العربية التي تعتمد تمامًا على التشغيل الأمريكي للأجهزة، ما يعني أن الطائرات الأمريكية لا يمكن استخدامها “تقنيًا” ضد أي عدو لا توافق عليه الولايات المتحدة ولا ضد “إسرائيل” بالطبع على افتراض حصول الإرادة السياسية لذلك!
خلف الأسوار المغلقة
في العام 2004 بدأت تركيا محاولة تطوير هذا النظام ضمن مشروع كبير للاستقلال الذاتي في عدة قطاعات، من خلال الاعتماد على مهندسيها المحليين، حيث تولت شركة أسيلسان المهمة وأطلقت برنامجًا خاصًا لهذا الموضوع، لكن ومنذ أن بدأ البرنامج بالعمل، مات العديد من مهندسي الشركة المشاركين بهذا البرنامج وبرامج التشفير الجوية المماثلة في ظروف تبدو طبيعية لولا أنها جميعًا عكس ذلك!
– 7 من أغسطس 2006، عُثر على المهندس حسين باشبيلن (31 عامًا) “منتحرًا” بقطع وريد معصمه داخل سيارته حيث نزف حتى الموت، بعد يوم واحد من تقديمه مشروعًا للشركة.
– 26 من يناير 2007 عُثر على المهندس أفريم يانتشكان (26 عامًا)، منتحرًا من شقته بالدور السابع، بعد عام من انضمامه للشركة في مشروع تشفير أنظمة الطائرات.
– 16 من أغسطس 2007، المهندس عليم أونصال أونال، (30 عامًا) المختص بتشفير منظومة الطائرات في الشركة تعرض للقتل بطلق ناري في الرأس.
– 7 من أكتوبر 2007 عُثر على المهندس برهان الدين فولكان “منتحرًا بطلقة في الرأس” في أنقرة بغرفته داخل مدرسة بادو.
– 10 من مايو 2008، توفي المهندس زافر أولوك في حادث تماس كهربائي بشقته، وأولوك كان مختصًا في برامج تشفير الطائرات المقاتلة.
– 25 من أكتوبر 2012، تعرض المهندس هاكان أوكسوز لحادث سيارة خارج مدينة أسكيشهير أفقده حياته، حيث تعرض لسرقة حاسوبه الشخصي بعد الحادث بعدما كان يعمل في برامج تشفير المقاتلات بالشركة.
– في 16 من يناير 2015، وُجد المهندس أردم أوغور (28 عامًا)، ميتًا بتسرب غاز في منزله بأنقرة، وكان يعمل ضمن الشركة في برامج تشفير الطائرات.
– 21 من نوفمبر 2017، عُثر على المهندس “كرم بارلندار” منتحرًا بعد سقوطه من الدور الـ14 من البناية التي يسكن بها، وهو يعمل في برامج تشفير الطائرات بالشركة.
ليست مجرد مخزن للذخيرة!
لم يتم الإعلان حتى الآن عن الجهة المسؤولة عن هذه العمليات، لكن يبدو واضحًا أنها تريد أن لا تكون تركيا مستقلة بصناعتها وبالتالي بقرارها عن الولايات المتحدة!
إن هذا المشروع ليس إلا حلقة واحدة من سلسلة أحداث كثيرة عبر التاريخ الحديث، حاولت من خلالها دول عدة الاستقلال بقرارها عن طريق امتلاك التكنولوجيا قبل امتلاكها للسلاح، استقلال تكنولوجي تسعى واشنطن دومًا دون حصوله لضمان سيطرتها على الدول المشترية للسلاح ولضمان إبقاء التوازن العسكري ضمن ما يوافق الأمن القومي الأمريكي في العالم وبالأخص “إسرائيل” في الشرق الأوسط.
في تقرير أعده معهد كاتو للدراسات، يقول الباحث تريفور ثرال: “منذ عام 2002 حتى عام 2018، باعت الولايات المتحدة أسلحة إلى 167 دولة بقيمة 197 مليار دولار، والهدف من ذلك ليس الربح فقط، وإنما لضمان التحكم بسلوك تلك الدول من خلال شروط استخدام تلك الأسلحة”، وتبين تقارير أخرى أن الولايات المتحدة تبذل جهودًا كبيرةً تصل حد العبث أحيانًا بمراقبة كل قطعة من الأسلحة المصدرة لضمان عدم خروج التكنولوجيا عن إطار استخدامها الذي وضعت فيه، فهي تفحص كل قطعة منفردة في الطائرات المقاتلة لضمان عدم تسرب التكنولوجيا.
من الممكن أن تركيا قد خسرت مجموعة من أكفأ مهندسيها في هذا المشروع وغيره، لكنها في طريقها لأن تكسب استقلالًا يريحها من عبء طلب الإذن في كل مرة تحتاج فيها قواتها المسلحة استخدام سلاح أو ذخيرة أمريكية! كما أنها تعرف أن استقلالها التكنولوجي سيزيح عنها عبء سلسلة الطلبات والأثمان الأمريكية التي لا تنتهي – سياسيًا واقتصاديًا – عند كل مفاوضات أسلحة أو ذخيرة أو صيانة أو معدات تطوير!
إن التقدم العلمي الذي تحرزه أنقرة ودول أخرى، يمثل درسًا للدول العربية التي تتصدر دومًا قوائم مشتريي الأسلحة بضرورة تغيير إستراتجيتها للأمن القومي أولًا، في الاعتماد على نفسها وامتلاك قرارها بخطط متوسطة وطويلة، بدل التحول إلى عميل دائم لتصريف أسلحة يفرض البائع قوائمها ومواصفاتها، ويحدد هو شروط استخدامها، ثم يضمن تقنيًا أنها لن تستخدم ضد حلفائه حتى لو حصلت معجزة وقرروا فعل ذلك: جهاز تمييز الأهداف IFF أنموذجًا!