يوم الجمعة 29 من مايو غرد ترامب تغريدة ربما تكون أقصر تغريداته، لكنها كانت ثقيلة من حيث المعنى، طالب فيها بهز أركان الإنترنت من أساسها وتغيير وجه العالم الذي باتت شبكة الإنترنت جزءًا لا يتجزأ منه.
REVOKE 230!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) May 29, 2020
وصفت المادة 230 من قانون آداب الاتصالات الأمريكي منذ تمريرها في الكونغرس الأمريكي عام 1996 بأنها حجر الأساس لشبكة الإنترنت. وتنص على أن المنصات الموجودة على الإنترنت لا تتحمل مسؤولية قانونية عما ينشره المستخدمون على صفحاتها، كما تمنح هذه الشركات حصانة من أي تبعات لحذفها بحسن نية مواد منشورة في منصاتها، ويرى كثيرون أن إقرار هذه المادة سمح بإنشاء شبكة الإنترنت الحديثة التي نراها اليوم.
لكن هذه المادة لم تسلم من الانتقادات التي زادت في السنوات الأخيرة وخصوصًا عام 2019، حين تعالت الأصوات الغاضبة من شبكات التواصل الاجتماعي وبالتحديد فيسبوك. حين أُقرت المادة، كانت شركات الإنترنت بدائية وتبدو أنها توفر بيئة لحماية حرية التعبير وأنها بحاجة للحماية، لكن هذه الشركات صارت اليوم سيدة الاقتصاد الأمريكي والعالمي، ومن هنا اكتسبت المادة 230 أهميتها القصوى، وصارت درعًا تحتمي فيه هذه الشركات من الدعاوى التي ترفع عليها وفي الوقت نفسه موضع جدال محتدم.
يرى الناقدون اليوم من مختلف الأطياف السياسية أن القانون يمنح شركات التكنولوجيا الكبرى سلطة هائلة في وقت تتحكم فيه هذه الشركات بمصائر وأرزاق عدد كبير من الناس حول العالم، فينتقدها المحافظون لأنها تطلق يد هذه الشركات في الرقابة وحذف المحتوى الذي يؤدي إلى تحيز غير منصف ضد الأفكار المحافظة، في حين ينتقد الليبراليون الحصانة التي تمنحها شركات التكنولوجيا لمستخدميها المسيئين الذين يتسببون بأضرار كبيرة على أرض الواقع.
والحقيقة أن الشركات استغلت حصانة المادة 230 أسوأ استغلال في كثير من الحالات لتنجو من قضايا رفعت ضدها. موقع “Backpage.com” للإعلانات نشر إعلانًا لبيع أطفال بغرض الجنس، وعندما رفعت ضده قضية وقفت المحكمة معه بسبب هذه المادة.
لكن الكونغرس في عام 2018 عدلها رافعًا الحصانة عن ترويج البغاء والاتجار بالبشر بهدف الجنس، وفي عام 2017، رفعت مجموعة من مصانع الأقفال قضية في محكمة منطقة بواشنطن العاصمة ضد “جوجل” و”مايكروسوفت” و”ياهو” اتهمتهم فيها بنشر معلومات كاذبة بشأن الأقفال في نتائج البحث، لتجبر هذه الشركات على دفع مبالغ طائلة لقاء إعلانات تخرجهم من فوضى المعلومات المغلوطة هذه، لكن المحكمة حكمت لصالحهم، وحتى عندما رفعت الشركات القضية إلى محكمة الاستئناف، رفضت المحكمة الدعوى بذريعة المادة 230.
غضب ترامب أشد الغضب عندما عاقبه أعز التطبيقات على قلبه، ففي 26 من مايو، وضع موقع تويتر لأول مرة تحذيرًا على تغريدتين للرئيس الأمريكي أورد فيهما معلومات خاطئة بشأن التصويت عبر البريد، وهي آلية راج الحديث عنها مؤخرًا خاصة بعد أزمة كورونا، حيث وضع تويتر أسفل التغريدة عبارة قابلة للنقر قالت: “احصل على الحقائق عن الاقتراع عبر البريد”.
There is NO WAY (ZERO!) that Mail-In Ballots will be anything less than substantially fraudulent. Mail boxes will be robbed, ballots will be forged & even illegally printed out & fraudulently signed. The Governor of California is sending Ballots to millions of people, anyone…..
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) May 26, 2020
تزعج فكرة التصويت عبر البريد ترامب لمعارضة مؤسسة الحزب الجمهوري لها منذ سنوات، ويحرص الجمهوريون في عدد من المدن والولايات الأمريكية على الحيلولة دون مشاركة شرائح من الناخبين في الانتخابات ليضمنوا أن تصب في صالحهم، ويضمنون ذلك من خلال آليات عديدة مثل رسم خرائط الدوائر الانتخابية وعدم إعلان يوم الانتخابات يوم عطلة رسمي وزيادة صعوبة التصويت.
وبعد فرض الحظر المنزلي بسبب أزمة كورونا، صار لزامًا إيجاد وسيلة بديلة تسهل على المواطنين التصويت مثل الاقتراع عبر البريد الذي تتبناه عدة ولايات وبدأت ولايات أخرى بالتفكير في استخدامه، وهو أمر معاكس لخطة الجمهوريين في كثير من الولايات، لذلك يعارضه ترامب.
تترك المادة 230 السلطة الكاملة في حذف المنشورات للشركات ولا تملك الحكومة حق التدخل فيها، وهذا الأمر أزعج ترامب للغاية عندما وصل البلل لذقنه ووضع تويتر تحذيرًا على تغريداته يقول إنها محملة بالمعلومات الخاطئة، فأصدر أمرًا تنفيذيًا بتعطيل المادة 230 ورفع الحصانة عن شبكات التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يهدد بسيل عارم من القضايا القانونية ضد هذه المواقع من أي شخص أو جهة لم يعجبه منشور أو حتى تعليق على إحدى هذه الشبكات.
يؤكد الخبراء القانونيون أن قرار ترامب لن يكون ملزمًا إلا إذا أصدر الكونغرس قانونًا يكسبه صفة الإلزام، لذلك وصفه بعضهم بالتهديد السياسي، ومن المرجح أن ترامب شعر بالخيانة من التطبيق الذي يقضي عليه ساعات يوميًا، ويبدو أن عشقه له يزيد كل اليوم، فقد باتت متابعة حسابه على تويتر أمرًا مرهقًا، قال ترامب في تصريح من البيت الأبيض: “أظن أنني سألحق أذى بالغًا به (يقصد تويتر) إذا توقفنا عن استخدامه بالكامل، أظن أن لدينا مواقع أخرى نستخدمها، وربما ينبغي أن نؤسس مواقع أخرى”.
المدير التنفيذي لفيسبوك مارك زوكربيرغ لم يفوت فرصة تسجيل هدف في مرمى منافسه، فصرح لقناة فوكس نيوز بأن شركات الإعلام ينبغي أن تخرج من مسألة تعريف الناس بالحقيقة والخطأ، لكن المدير التنفيذي لتويتر جاك دورسي رد عليه قائلًا إن تويتر سيواصل تحذير المستخدمين الذين ينشرون الحقائق المشوهة، مضيفًا “ذلك لا يجعل الموقع متحكمًا بالحقيقة، فهدفنا ربط النقاط في التصريحات المتناقضة وإظهار الحقائق في حالات النزاع ليحكم الناس بأنفسهم”.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا امتدادًا للنزاع السابق بين الاثنين، حين أحرج أعضاء في الكونغرس زوكربيرغ بشأن سياسة فيسبوك التي لا تدقق في صحة المعلومات التي تتضمنها الإعلانات السياسية، فأعلن في حينها دورسي أن تويتر لن يقبل الإعلانات السياسية بعد اليوم.
Fact check: there is someone ultimately accountable for our actions as a company, and that’s me. Please leave our employees out of this. We’ll continue to point out incorrect or disputed information about elections globally. And we will admit to and own any mistakes we make.
— jack (@jack) May 28, 2020