في محاولة لقراءة أوضح وأكبر لشكل التعليم والمدارس وكل ما يندرج تحت هذا المسمى من كلّيات وكتاتيب ومعاهد في سوريا في فترة ما بعد الاستقلال عن فرنسا، ينبغي العودة للوراء إلى زمن الحكم العثماني، فشكل التعليم في سوريا منذ وقوعها تحت حكم الدولة العثمانية امتدادًا لما بعد الانتداب الفرنسي يختلف كثيرًا عمّا قبلها وما بعدها.
ولو بحثنا في المراجع سنجد كثرة في النصوص والمذكرات التي تناولت هذه الفترة وتكلمت بسلبياتها وإيجابياتها وما تبعها من أضرار على الطلاب أو شكل التعليم ككل إلا أن الرفض والمقاومة وشيئًا من القبول القسري لنظام التعليم التركي الذي يفرض اللغة التركية في المناهج الدراسية وحتى على الطلاب فيما بينهم هو الطابع الواضح والرئيسي لكل ما كتب عن تلك الفترة.
ففي كتابه “حاضر اللغة العربية في الشام” لمؤلفه الشيخ سعيد الأفغاني، يقول: “أما المدارس الحكومية فلغتها التركية، وأكثر معلميها أتراك، ومن كان عربيًا منهم ألقى دروسه بالتركية، وتجافى عن الكلام بالعربية مع أن من يخاطبهم عرب، حتى الكلام خارج الدرس في الباحات وضعوا عليه الرقباء، فمنعوا أبناء العرب أن يتحاوروا فيما بينهم بغير العربية. ومن سبق لسانه إلى كلمة عربية صاحوا به”.
تنقسم المدارس في هذه الفترة الممتدة من عام 1880 حتى 1918 أيّ الفترة الأخيرة من الحكم التركي إلى عدة أنواع:
أولًا: المدارس الدينية التي تهتم بها مدارس الأوقاف الإسلامية المنتشرة في حمص وحلب ودمشق وحماة وطرابلس والقدس، وهي وقف من السلاطين والأمراء وأهل الخير على طلبة العلم الديني.
ثانيًا: المدارس الأجنبية التي كانت تحمل أهدافًا لا تخفيها وهي التبشير بالدين المسيحي أو اليهودي والدعاية للدول التي فتحتها، إذ حرصت كل من إنجلترا وروسيا وألمانيا وفرنسا على أن توجد لها فرعًا في كل أنحاء القطر السوري، ومنّيت بيروت والقدس بالنصيب الأكبر.
طالبات المدرسة الإنجليزية (الإنجيلية) في حمص عام 1960
ثالثًا: المدارس الأهلية التي بناها بعض المثقفين والمفكرين بدافع الغيرة على مستقبل اللغة العربية وحرصًا على القومية العربية فكان من بينها المدرسة الكاملية ومدرسة جمعية المقاصد والكلية الأزهرية في بيروت.
أما آخرها فهي المدارس الحكومية التركية التي كان ينضم إليها أبناء عامة الشعب وتقوم على نفقات أهل القرية من تعمير ودفع مخصصات المعلمين حسب نص نظام المعارف الذي كان قائمًا، فكان التعليم إجباريًا ولمدة أربع سنوات يدرس خلاله الطالب العلوم الدينية والقراءة والكتابة باللغة التركية، والحساب والعلوم والجغرافيا والتاريخ. ولا تتضمن هذه المرحلة تعليم أي لغة أجنبية.
في أثناء حكم الانتداب الفرنسي
بعد سقوط الدولة العثمانية وزوال حكمها عن سوريا، نشطت حركة الترجمة وبناء المدارس وإعادة هيكلة المناهج الدراسية بما يناسب اللغة العربية وعلومها ووضعت مواد جديدة تضمّ علوم الشرع الإسلامي وتضافر الفرد والجماعة لاستعادة اللغة العربية، وتركت اللغة التركية فيما طغت روح القومية العربية المعبأة بالأشعار والدواوين والقصائد على حياة الطلاب. ويشبّه الشيخ علي الطنطاوي تلك الفترة في كتابه الأول من سلسلة المذكرات بأنها كانت أشبه “بالعرس الوطني”، لكن الوضع لم يستمر طويلًا على هذا الحال فما لبث أن جاء المستعمر الفرنسي ليبدأ نضالًا جديدًا على جميع الأصعدة القومية والعسكرية.
انشغل القائمون على التعليم والتدريس في تلك الفترة بأولويات أتت مصاحبة لأشكال الاستعمار الثقافي التي فرضتها فرنسا، فكان المحافظة على اللغة والهوية العربية السورية الجامعة هو الشغل الشاغل قبل الالتفات لباقي تفاصيل التعليم وهيكلة المدارس، إذ استخدمت فرنسا أسلوبًا جديدًا، فأولًا فرضت إجباريًا اللغة الفرنسية في الصفوف الابتدائية إلى جانب اللغة العربية مما أدى إلى انشغال الطلاب بتعلم اللغة الجديدة وإهمال لغتهم الأم.
وثانيًا أخذوا المدارس الأهلية التي كانت موجودة بالفعل منذ زمن الحكم العثماني بسياسة الترغيب والترهيب فكانوا يرسلون إليها المفتشين ويفرضون عليها بصرامة شكليات فوق إمكاناتها يتوسمون بذلك تراجع القائمين عليها وإغلاقها لإلحاق الطلاب بالمدارس الحكومية الفرنسية، أو أنهم كانوا يمدونهم بالمال مقابل تعليم اللغة الفرنسية ثم ما يلبثوا أن يتدخلوا في أساليب التدريس ومحتوى المنهاج.
أما ثالثًا فقد أكثرت سلطات الاحتلال الفرنسي من مدّ المدارس الأجنبية التي أتينا على ذكرها سابقًا، فقدمت لها الدعم المادي والمعنوي وصارت تعتمد توظيف خريجيها لقوّتهم في اللغة الفرنسية والأجنبية مما أنتج لاحقًا إقبالًا واسعًا على المدارس الأجنبية وترك الأهلية وغيرها من المدارس التي آلت للزوال أمثال المدرسة الكاملية التي عرفت في بداية النضال بمقاومتها الاستعمار، كما أدارت الجهة المعنيّة أمور المعلّمين بأن رفعت أجور المجيدين منهم للغة الفرنسية وزرعت بينهم وبين الطلاب من يتجسس عليهم لملاحقة المناضلين ضدّ الاستعمار.
طلاب مدارس التجهيز في مظاهرة ضدّ الاحتلال الفرنسي
أما في الصفوف الأعلى كثانوية دمشق فقاوم الطلاب التعليم الفرنسي حتى باتوا يعيّرون المجتهد في اللغة الفرنسية بنقص الوطنية وحب الأرض بينما كان أساتذة اللغة العربية يسرعون إلى التركيز في تعليمهم وجذبهم للغة العربية، كما كانوا ممن ينظمون الاحتجاجات والمظاهرات ويعملون على شكل مجموعات لكتابة الشعارات والأشعار المناهضة للاستعمار مما دفع الفرنسيين لتغيير كوادر التدريس ودسّ الجواسيس بين الطلاب.
وحين نتكلم هنا عن طلاب هذه المدارس فقد كانوا من مختلف الطبقات الاجتماعية الغنية والفقيرة والمتوسطة الحريصة على التعليم والتعلّم، من بين أهم التغييرات الجذرية التي طرأت على مراحل التعليم في ذلك الوقت من عام 1927 إقرار نظام الشهادة الثانوية العامة (البكالوريا) منعًا لتزوير الدرجات والشهادات الذي كان متفشيًا في تلك الفترة.
ما بعد الاستقلال
أخذ الناس في فترة الاستقلال عن فرنسا وصولًا للوحدة مع جمهورية مصر وقتًا للتعافي مما عايشوه في أثناء الاستعمار، فيما كان يترتب عليهم في نفس الوقت الأخذ ببلادهم إلى الأمام، وتحرر الأساتذة والطلبة من التضييق والتهميش وفرض اللغة والثقافة الفرنسية وكانت الدعوات للتخلص من آثار الانتداب وبقاياه الشغل الشاغل لطلاب مرحلة الثانوي والجامعة.
وربما تعتبر هاتان المرحلتان الثانوي (التجهيز) والجامعة من أكثر المراحل الدراسية التي يجب إلقاء الضوء عليها في أثناء الانتداب الفرنسي وما بعده كونها الأكثر تضررًا وتأثرًا، وتضم كل مرحلة فئة الشباب التي شاركت في النضال ضد المستعمر، فحسب الكاتب عمار السمر في كتاب “سيَر عشر جامعات حكومية عربية”، شهدت الجامعة السورية (جامعة دمشق حاليًّا) حركة توسع وتطوير وإصلاحات وازدياد أعداد الطلاب المنتسبين للحركة الطلابية، فتعالت الأصوات بعد الاستقلال من أجل افتتاح فروع جديدة وإعداد خطة للتوسع، فسافر رئيسها، حسني سبح، إلى القاهرة للاطلاع على تجربة جامعة فؤاد الأول لتنظيم المعهد الطبي الذي كان قد افتتح سابقًا في عهد الانتداب الفرنسي، وافتتحت كلية الآداب والمعهد العالي للمعلمين.
أرسلت الجامعة كبار أساتذتها للتخصص في الخارج للاستفادة من تجارب جامعات الدول العربية، واستعانت بأبناء البلاد المقيمين في الخارج مثل قسطنطين زريق الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الجامعة الأمريكية ليصبح رئيسًا للجامعة السورية عام 1949- 1952 بتكليف من حسني الزعيم، فأجرى بتفويض من الأخير الكثير من التصليحات وسن القوانين والمناهج الجديدة.
ابتدأت بعثات الطلاب للخارج عام 1945 لمصر وفرنسا وأمريكا وإنجلترا، وفي عام 1946 ألحق بالجامعة الصف التحضيري لكلية الطب، فما وصلت حتى عام 1948 إلا وكان يتبع لها مجموعة من المستشفيات والمختبرات ومدرسة لطب الأسنان، وافتتحت في حلب كلية للهندسة المدنية تتبع لنفس الجامعة.
خريجات كلية الطب في دمشق عام 1940
أما عن كلية الشريعة الإسلامية التي تأسست عام 1955 بعد أن طرح مصطفى السباعي موضوعها في البرلمان، ثم كان أول عميد لها. عملت الكلية وفق المبادئ العلمية الحديثة بعد أن أوفد السباعي للاطلاع على مناهج الدراسات الإسلامية في جامعات تركيا وبريطانيا وفرنسا، ومما أتى الشيخ علي الطنطاوي على ذكره في كتابه الأول من سلسلة الذكريات أن كان هو وعصام العطار ومصطفى السباعي يتولون الخطابة في مسجدها الذي كان يرتاده آلاف الطلاب.
تمتعت الجامعة بعد الاستقلال بنوع من الاستقلالية، فكان يديرها رئيسها ويساعده مجلس الجامعة الذي يمثل كليات الجامعة ومعهد المعلمين العالي (كلية التربية) مع مندوب لوزارة المعارف، فيما تُدار كل كلية من عميد يساعده فيها أعضاء هيئة التدريس الذي كانت مهمته أيضًا النظر في الخطط والأساليب التي تؤدي لتحقيق أهداف الجامعة، واعتمدت الجامعة على إعانة الدولة لها بشكل أساسي وكانت أيضًا تتقاضى من الطلاب رسومًا سنوية قليلة إلا أن منصب رئيس الجامعة بقي يُشغل بالتعيين لا بالانتخاب.
ختامًا؛ لا يمكن لأيّ محاولة للحديث عن التعليم في سوريا سواء قبل أم بعد الانتداب الفرنسي أن تكون قصيرةً أو محدودة لأن فهم مجريات التغيير والتبديل الحاصل لا يمكن له إلا أن يتمّ ضمن دراسة مسلسلة كاملة تبيّن حجم التغييرات وأسبابها لوضع ما آل إليه شكل التعليم في صورته الصحيحة.