نقل المؤرخون عن الصحابي الجليل عثمان بن عفَّان، ثالث الخلفاء الراشدين، أنه كتب في وصيته: “إن القسطنطينية تفتح من قبل الأندلس، وإنكم إن فتحتم ما أنتم بسبيله؛ فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر”، وعليه ركزت الفتوحات الإسلامية منذ بدايتها لا سيما المتجهة صوب الشمال الإفريقي، على الوصول إلى الضفة المقابلة للبحر المتوسط، ناحية أوروبا، ومنها إلى القسطنطينية.
ونجحت الجيوش الإسلامية في تحقيق العديد من الفتوحات نحو الممالك الشمالية، حتى وصلت إلى الأندلس (البرتغال وإسبانيا) وكادت أن تتوغل أكثر وأكثر نحو عمق القارة الأوروبية عبر بوابة فرنسا، لكن لأسباب متعددة فشلت في تحقيق هذا الحلم، ليسدل الستار على حلم فتح أوروبا بعد أن هُزم المسلمون في معركة “بلاط الشهداء“.
نشبت هذه المعركة التي تحتل مكانة كبيرة في القارة العجوز، وتسمى في الإنجليزية “معركة تور”، فيما يطلق عليها الفرنسيون معركة “بواتييه”، في أكتوبر 732 بمنطقة تقع بين مدينتي بواتييه وتور الفرنسيتين، بين جيش المسلمين المنضوي تحت لواء الدولة الأموية بقيادة والي الأندلس عبد الرحمن الغافقي من جهة، والجيش الفرنسي المطعم بالأوروبيين بقيادة شارل مارتل، وانتهت بانتصار الجيش الفرنسي بعدما استشهد قائد جيوش المسلمين.
مؤرخو أوروبا يعتبرون أن “بلاط الشهداء” كانت السبب الأبرز لإيقاف الزحف الإسلامي نحو فرنسا، ومن بعده إلى سائر أوروبا، وأنها حكم إلهي لصالح الإفرنجة، فيما بالغ آخرون ممن رأوها المحطة التي حفظت المسيحية والمسيحيين من الفناء، فما تفاصيل تلك المعركة؟ ولماذا خسرها المسلمون؟ وما الدروس المستفادة منها؟
خلفية تاريخية
حين فتح المسلمون الأندلس (92 هـ – 711م) في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك على يد طارق بن زياد وموسى بن نصير، تحولت البلاد إلى ولاية إسلامية خالصة تابعة لدولة الخلافة الأموية، وتم أسلمة الحكم والإدارة في الولاية الجديدة، وتحولت مع مرور الوقت إلى إحدى أكبر قلاع التنوير والنهوض في أوروبا بأكملها.
ومع مرور الوقت وجه المسلمون أنظارهم صوب العمق الأوروبي لمواصلة استمرار الفتوحات، فلم تمض سنوات قليلة حتى فتح جيش المسلمين جنوب فرنسا، التي كانت تعرف في ذاك الوقت بـ”الأراضي الكبيرة” وذلك بفضل جهود القائد المسلم السمح بن مالك الخولاني، والي الأندلس آنذاك، الذي كان يتمتع بخبرة كبيرة في السياسة والحروب.
بعد وفاة الخولاني شهدت الأندلس موجات من الفتنة والتمرد، وتقلد حكمها 6 حكام لم ينجح أي منهم في إمساك زمام الأمور مرة أخرى
في كتابه “تاريخ العلماء والرواة بالأندلس” يشير ابن الفرضي إلى أنَّ السمح كان أول من غزا بلاد أوروبا، بدأها بالسيطرة على أربونة، ثم واصل الزحف حتى وصل إلى طولوشة “تولوز”، غير أنه استشهد في تلك المعركة بعدما حقق نجاحات عدة لعل أبرزها سيطرته على إقليم سبتمانيا وإقامة دولة مسلمة به، التي كانت باب الانطلاق نحو فرنسا.
ورغم الهزة النفسية التي تعرض لها جيش المسلمين بعد استشهاد الخولاني، فإنه واصل فتح المدن الفرنسية الأخرى، على يد القائد الفذ عنبسة بن سحيم الكلبي، وذلك خلال عامي 724 و725 ميلاديًا، حينها عبر جبال البرانس وواصل سيره حتى نهر السين الفرنسي، كما ذكر عبد العزيز العبيدي في كتابه “من معارك المسلمين في رمضان“.
الفتوحات الإسلامية تتواصل
بعد وفاة الخولاني شهدت الأندلس موجات من الفتنة والتمرد، وتقلد حكمها 6 حكام لم ينجح أي منهم في إمساك زمام الأمور مرة أخرى، حتى تولى عبد الرحمن الغافقي أمور الولاية (112هـ – 730م) وكان يمتلك مؤهلات سياسية وعسكرية أهلته لأن يفرض سيطرته على أمور البلاد.
ومن المسائل التي أثارت حفيظة الوالي الجديد التحركات التي قادتها جيوش الإفرنجة لمهاجمة بعض المواقع الإسلامية في البلاد، فجمع لهم جيوشه في “بنبلونة” شمال الأندلس، وفي 732 عبر جبال ألبرت ودخل فرنسا، ثم اتجه إلى الجنوب لمدينة “آرال” الواقعة على نهر الرون، وفتحها بعد معركة حامية الوطيس بين الجيشين.
وغربًا حقق نصرًا كبيرًا في دوقية أقطاينا “أكويتين”، ما دفع حاكمها الدوق أودو أن يفر بقواته نحو الشمال تاركًا عاصمته “بردال” (بوردو) ليدخلها المسلمون فاتحين، ثم توجه بعدها إلى مدينة “تور” ثاني مدائن الدوقية، حيث نجح المسلمون في الاستيلاء عليها، الأمر الذي عزز قوة المسلمين في مقابل بث الرعب في نفوس جيوش الإفرنجة.
وأمام قوة المسلمين اضطر الدوق أودو إلى طلب النجدة من الدولة الميروفنجية التي كانت تقع تحت قبضة القائد شارتل مارتل الذي لم يأخذ وقتًا طويلًا في التفكير، حيث لبى النداء وأسرع بنجدته، وهو الذي كان قبل ذلك لا يهتم لأمر الفتوحات الإسلامية بسبب خلافاته المستمرة مع أودو.
بلاط الشهداء.. المعركة الفاصلة
وجد مارتل في هذا العرض فرصته الثمينة لإحكام قبضته على أقطانيا التي وقعت في يد غريمه الدوق، ومن جانب آخر بحث عن مجد شخصي في وقف المد الإسلامي الذي كان يعتبره التهديد الأكبر له ولبلاده، فأسرع في تجييش الجنود وجمع شملهم وتعزيز عتادهم وقوتهم حتى نجح في بناء جيش قوي مؤهل لخوض المعارك الفاصلة.
وبينما كان الجيش الإسلامي يواصل زحفه بين ميدنتي بواتييه وتور، كان جيش مارتل قد انتهى إلى نهر اللوار وهي المنطقة القريبة من مناطق تمركز المسلمين، وحين أراد قائد جيوش المسلمين مواصلة الزحف نحو النهر فوجئ بجيش جرار يفوق عدده المسلمين بصورة أربكت الغافقي الذي اضطر إلى الانسحاب تكتيكيًا والارتداد إلى السهل الواقع بين المدينتين، وفي هذا الوقت كان جيش الإفرنجة قد عبر اللوار ليعسكر بجيشه على بعد أميال قليلة من جيش المسلمين.
اندلعت المواجهات بدءًا من آخر شعبان 114/أكتوبر 732 واستمرت قرابة 9 أيام شهدت خلالها موجات مد وجذر بين الجيشين، غير أنها لم تسفر عن انتصار ساحق لأي من الطرفين، وبينما كان يمني المسلمون أنفسهم بالانتصار في اليوم العاشر، إذ بفرقة من فرسان جيش مارتل تخترق صفوف المسلمين.
أثارت معركة بلاط الشهداء جدلًا بين المؤرخين، حيث انقسموا حيالها إلى قسمين
نجحت هذه الفرقة التي اخترقت الصفوف على حين غرة في تقسيم الجيش إلى قسمين، حتى وصلت إلى موضع الغنائم، الأمر الذي أصاب جيش عبد الرحمن الغافقي بالفزع، خاصة بعد فشله في إعادة تنظيم صفوفه، حتى أصابه سهم فقتله، وهو ما كان له أسوأ الأثر في نفوس الجنود الذي اشتد بينهم الخوف والفزع.
ومع قدوم الليل ارتأى جيش المسلمين التوجه نحو سبتمانيا وتفضيل خيار التراجع، إلا أن ذلك لم يطمئن جيش الإفرنجة الذي ظن أنها خدعة من المسلمين، فتريثوا قبل اقتحام المدينة يومًا كاملًا، وما دخلوها إلا اليوم التالي حين وجدوا الغنائم ملقاة دون وجود للجنود المسلمين فأيقنوا أن جيش الغافقي غادر المكان.
بين التهويل والتهوين
أثارت معركة “بلاط الشهداء” جدلًا بين المؤرخين، حيث انقسموا حيالها إلى قسمين: الأول يرى أنها كانت معركة فاصلة في تاريخ أوروبا، وأن شارل مارتل أنقذ المسيحية وأوروبا من فتح إسلامي كان بمقدروه أن يخضع كل شيء في القارة العجوز تحت السيطرة، ويمثل هذا الرأي المؤرخ إدوارد جيبون الذي يقول في كتاب “اضمحلال الإمبراطورية الرومانية” عن هذه المعركة: “أنقذت آباءنا البريطانيين وجيراننا الفرنسيين من نير القرآن المدني والديني، وحفظت جلال روما، وشدت بأزر النصرانية”.
أما القسم الثاني فيرون أن المعركة لم تكن ذات أهمية مطلقة بالنسبة للمسلمين، ويمثل هذا الرأي المؤرخ برنارد لويس الذي قال تعليقًا على هذه المعركة: “المؤرخون العرب، إذا ما ذكروا هذا الاشتباك [يعني المعركة] بصفة عامة، يذكرون أنها كانت مناوشات طفيفة”، والرأي ذاته أشار إليه غوستاف جرونبوم بقوله: “هذه الانتكاسة قد تكون مهمة من وجهة النظر الأوروبية، لكن بالنسبة للمسلمين في ذلك الوقت، لم يروا فيها أي خطر كبير، وبالتالي لم تكن لها أهمية أكبر من ذلك”.
وبعيدًا عن آراء الطرفين العازفة على وتري التهويل والتهوين، فإن تلك المعركة كانت وبحق علامة فارقة في تاريخ أوروبا، حيث كتبت شهادة وفاة حقيقية لتمدد الفتح الإسلامي لقلب القارة، وما تلاها من بث روح الفرقة والانقسام بين صفوف المسلمين في الأندلس، الأمر الذي أدى مع مرور الوقت إلى خسارة الخلافة لواحدة من أهم معاقلها في أوروبا.