“عذراء.. هيفاء.. تقيد النظر من العابدات السائحات الزاهدات.. إن أسهبت أتعبت وإن أوجزت أعجزت وإن أفصحت أوضحت.. شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء.. علمها عملها. عليها مسحة ملَك وهمة ملِك”، هكذا وصف العالم الأندلسي الصوفي الشهير محيي الدين بن عربي معلمته وشيخته التي نهل على يديها علوم الزهد والورع.
أغلب المهتمين بتاريخ التصوف لا يسمعون كثيرًا عن فاطمة بنت المثنى القرطبية، تلك المرأة التي أثرت فؤاد العارفين بالله، فأركعتهم في محرابها، طالبين التزود مما أفاض عليها ربها من علوم الدين والحياة، فكانت قبلة العلماء من كل حدب وصوب، ورمزًا للعلم والتعبد.
لم يترك لنا التاريخ الكثير من الشواهد والكتب التي توثق حياة الشيخة العابدة، كما أنها رحلت دون أن تخلف بناءً مشيدًا ينسب لها كغيرها من العلماء والأقطاب، غير أن ما ذكره ابن عربي في مؤلفاته عنها وعن كراماتها كان كفيلًا بأن يخلد اسمها في سجلات أعلام الصوفية والزهد، يكفي أنها كانت السبب في أن ينظر للمرأة نظرة مغايرة، فكانت علامة فارقة في مسار فكره وحياته.. فماذا نعرف عن فاطمة القرطبية ذات الصفات الأبيّة والشواهد النقية؟
في رحاب الزهد
في إحدى ضواحي قرطبة، ولدت فاطمة بنت المثنى لأسرة فقيرة الحال، عرف عنها منذ نعومة أظفارها الزهد والتقشف والإكثار من العبادة، فكانت أنموذجًا في الالتزام والتصوف، عملت بالحياكة (الخياطة) وكانت تتكسب قوت يومها من عمل يدها، حتى تزوجت في سن صغيرة لتأخذ حياتها منحى آخر.
أصيب زوجها بمرض “الجذام” في السنوات الأولى من الزواج، فلم تتركه، وظلت بجواره قرابة 25 عامًا في خدمته، تقوم على أمور يومه، من مأكل ومشرب وملبس ودواء، وظلت هكذا حتى وفاته، وبعدها أبتليت هي الأخرى في يديها، ما تسبب في عجزها عن أداء عملها، ولم يكن لديها من يعولها.
أبت فاطمة سؤال الناس، فمكثت في مكانها المعدم من مقومات الحياة، وباتت تتلقى قوت يومها من بقايا الطعام في الشوارع وأمام الأبواب، فتأخذ ما يكفيها وتترك الباقي، كانت تتمتع بزهد غير معهود في هذا الوقت، إلا أنها وفي غضون سنوات قليلة باتت حديث المدينة، وتحولت إلى قبلة الباحثين عن الزهد والتعبد في قرطبة.
في موسوعته الكبيرة “الفتوحات المكية” روى مولانا ابن عربي اللحظات الأولى التي قابل فيها العابدة الزاهدة، لافتًا أنه في طريقه إلى قرطبة التقى بسيدة عابدة تعبر الطريق، وحين سأل عنها قيل له إنها فاطمة بنت المثنى، وهنا يقول: “خدمت بنفسي امرأة من المحبات العارفات بإشبيلية يقال لها فاطمة بنت ابن المثنى القرطبي، خدمتها سنتين وهي تزيد في وقت خدمتي إياها على خمس وتسعين سنة، وكنت أستحي أن أنظر إلى وجهها وهي فى هذا السن من حمرة خديها وحسن نعمتها وجمالها تحسبها بنت أربع عشرة سنة، وكان لها حال مع الله، وكانت تؤثرني على كل من يخدمها من أمثالي، وتقول ما رأيت مثل فلان – تقصد ابن عربي – إذا دخل علي دخل بكله لا يترك منه خارجًا عني شيئًا وإذا خرج من عندي خرج بكله لا يترك عندي منه شيئًا”.
يقر محيي الدين وطلابه الذين خلفوه من بعده، أن فاطمة المثنى كان لها الدور الأكبر في تغيير نظرة مولانا للمرأة
شيخة ابن عربي
رغم تلقي ابن عربي تعاليم دينه على أيدي العديد من العلماء وأقطاب الصوفية، فإن بنت المثنى كان لها التأثير الأعمق في نفسه رغم قصر الفترة التي تلقى فيها العلم على يديها والتي لم تتعد العامين، إلا أنهما أثرا فيه بصورة جعلته يفرد لها المساحات الكبيرة في مؤلفاته وكتبه.
يذكر العالم الصوفي في مؤلفه أن خدمته للقرطبية وانتفاعه بما أفاض الله عليها من علمه كان أحد أسباب تكلمه بعلم الحروف “علم الأولياء” مقرًا بولادته المعنوية منها دون سواها، وفي هذا يقول: “تصبح المرأة ـ فيما لو أصبحت قطبًا خليفة ـ هي صاحبة الوقت وسيدة الزمان، خليفة اللّه في أرضه، ونائبة سيد المرسلين في أمته، وارثة للاصطفاء والاجتباء والخصوصية الآدمية”.
ويقر محيي الدين وطلابه الذين خلفوه من بعده، أن فاطمة المثنى كان لها الدور الأكبر في تغيير نظرة مولانا للمرأة، وهي القناعة التي عبر عنها بقوله إنه لا مانع تكوينيًا أو كونيًا من وصول المرأة إلى أعلى مراتب الولاية.. وإن كان قد قال أنه لم يقع ضمن خبرته لقاء امرأة في موقع القطب، صاحبة الزمان، الغوث الخليفة. لكنه يرى أن النساء والرجال، يشتركون في جميع مراتب الولاية حتّى في القطبية؛ فكل ما يصح أن ينال الرجل من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن يكون لمن شاءَ اللّه لها من النساء؛ لذلك فطريق الولاية أمام المرأة مفتوح.. لا سقف يحدّها إلا مرتبة النبوة وشخص النبي (صلى الله عليه وسلم)، فالمرأة وإن لم تظهر بالفعل في دنيا الناس في موقع القطبية إلا أنّه في قدرتها ذلك، وبالتالي في عالم الروح تتساوى الحظوظ بين المرأة والرجل، وينعكس هذا التساوي في نظرة أعلام الصوفية لها.
كرامات
عُرف عن بنت المثنى كراماتها التي أثارت انتباه واهتمام وإعجاب أهل قرطبة والمدن المحيطة بها، فقصدها الكثير من كل حدب وصوب، فكانت لا ترد أحد دون أن تلبي له مطلبته، وكانت علاقتها بربها هي الخيط الذي تستجيب من خلاله لمطالب مريديها، فما قصدها قاصد إلا وعاد مجبورًا.
وكانت فاتحة الكتاب وسيلتها لخرق العوائد كما يروي ابن عربي الذي أشار أنها كانت تؤمن بأن من يملك الفاتحة فلا مشكلة لديه، وكل الأبواب الموصدة ممكنة الفتح طالما قرأ هذه السورة القصيرة، وهنا يقول العالم الصوفي وصفًا لكراماتها في موسوعته الشهيرة: “… فبينا نحن قعود إذ دخلت امرأة فقالت لي: يا أخي إن زوجي في شريش شذونة – بلدة أندلسية – أخبرت أنه يتزوج بها فماذا ترى؟ قلت لها: وتريدين أن يصل؟ قالت: نعم.. فرددت وجهي إلى العجوز، وقلت لها: يا أم ألا تسمعين ما تقول هذه المرأة؟
قالت: وما تريد يا ولدي؟ قلت: قضاء حاجتها في هذا الوقت وحاجتها أن يأتي زوجها، فقالت: السمع والطاعة إني أبعث إليه بفاتحة الكتاب وأوصيها أن تجيء بزوج هذه المرأة وأنشأت فاتحة الكتاب فقرأتها وقرأت معها فعلمت مقامها عند قراءتها الفاتحة وذلك إنها تنشيها بقراءتها صورة مجسدة هوائية فتبعثها عند ذلك فلما أنشأتها صورة سمعتها تقول لها: يا فاتحة الكتاب تروحي إلى “شريش” وتجيئيني بزوج هذه المرأة ولا تتركيه حتى تحضريه، فلم يلبث إلا قدر مسافة الطريق من مجيئه فوصل إلى أهله”!
وبينما هي على مشارف المئة، غادرت فاطمة القرطبية الحياة في هدوء، تاركة خلفها إرثًا من الزهد والتقشف والعبادة، أورثته طلابها ممن تتلمذوا على يديها، ليخلدوا بأقلامهم ومؤلفاتهم حياتها الثرية، التي رغم ما كانت عليه من بساطة وهدوء، كانت ثرية بما فيها من معانٍ ودلالات ورسائل نهل منها كبار العلماء وعلى رأسهم محيي الدين بن عربي.