باتت لافتة التقدمات التي أحرزتها حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا، خلال الأيام الماضية التي بدأت بفرض سيطرتها الكاملة على مدن الساحل الغربي الليبي التي تمتاز بأهمية إستراتيجية كبيرة في أبريل الماضي، وجاءت بعد نحو عام من صمودها في مواجهة آلة حفتر التدميرية والمدججة بالأسلحة النوعية والطائرات دون طيار والمرتزقة.
مثلت السيطرة على مدن الساحل الغربي منصة مكنت قوات الوفاق فيما بعد من السيطرة على قاعدة الوطية الجوية، المعقل الرئيس لطائرات حفتر في الغرب والبؤرة التي تنطلق منها عملياته الجوية.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، فبعد أيام قليلة تقدمت قوات الوفاق نحو جنوب العاصمة، ولم تلبث مليشيات حفتر تلتقط أنفاسها حتى تم طردها من كامل الحدود الإدارية للعاصمة، بعد تقدم قوات الوفاق وانتزاعها السيطرة على مطار طرابلس الدولي المطار المدني الأكبر في ليبيا، وبعد أقل من يوم واحد من احتفال الليبيين بالتحرير الكامل للعاصمة، تعود حكومة الوفاق لتعلن إحكام قبضتها على كامل مدينة ترهونة ومن ثم مدينة بني وليد، فيما بدا كأنه انهيار كامل لمليشيات حفتر “المختلطة” في الغرب الليبي.
الكرملين.. الطموح الماكر
وسط زخم عسكري وفي نظرة أوسع للمشهد، يمكن القول إن هذه التطورات الميدانية لم تكسر شوكة حفتر فحسب، بل مثلت صفعة لمشروعه العسكري الاستبدادي الذي حاكته له دول داعمة في مقدمتها الإمارات كجزء من رؤيتها الديكتاتورية لشكل المنطقة التي باتت واضحة للجميع.
أثبت المارد الروسي أنه قادر على تحقيق مكاسب إستراتيجية عسكرية واقتصادية بأقل الخسائر وربما على نفقة دول أخرى كما هو الحال في ليبيا
في الحقيقة لم يعد خافيًا على أحد أسماء الدول الداعمة لحفتر وحجم تورطها وإيغالها في دماء الليبيين، لكن لا بد من تسليط الضوء هنا على الداعم “الضبابي” الذي أجمع جل المراقبين والخبراء الدوليين على أنه الطرف الظاهر الخفي واللاعب الأخطر في المسرح الليبي.
الحديث هنا عن الكرملين الطموح الذي استشعر انكفاء الولايات المتحدة ومن خلفها الدول الأوروبية، وبدأ أسلوبًا جديدًا في تعاطيه مع صراعات المنطقة يقوم على إرسال المرتزقة وشن حملات ممنهجة إعلامية على وسائل التواصل الاجتماعي، وصل تأثيرها وفق تقارير دولية إلى الولايات المتحدة مرورًا بالدول الإفريقية وعلى رأسها ليبيا، بالإضافة إلى استخدامه تكتيكات الضرب والإنكار والظهور بمظهر الطرف تارة والوسيط تارات أخرى، في نهج قال عنه موقع “ميديل إيست مونيتور” البريطاني إنه يمثل إسترايجية “الحرب الهجينة” التي تقوم على طمس الخط الفاصل بين الحرب والسلام والاقتيات على الصفقات الاقتصادية التي لا يمكن أن تتم إلا بتنصيب الديكتاتوريين على رأس السلطة، وهذا ما يظهر جليًا الآن في سوريا ومن قبلها أوكرانيا وما يمكن أن يتم في ليبيا.
أثبت المارد الروسي أنه قادر على تحقيق مكاسب إستراتيجية عسكرية واقتصادية بأقل الخسائر وربما على نفقة دول أخرى كما هو الحال في ليبيا، حيث كشفت تقارير أن الإمارات من تدفع أجور المرتزقة الروس في ليبيا.
إذًا لا بد من التيقظ لهذا الخطر والتنبه إلى لعبة “النفس الطويل” التي مكنت موسكو، بعد سنوات من تدخلها في سوريا، من حصر قوات المعارضة في مدينة إدلب بعد أن كانت تسيطر على مساحات واسعة من الأراضي السورية ووصولها، عندما كانت في ذروة قوتها، إلى داخل العاصمة دمشق على بعد كيلومترات معدودة عن القصر الجمهوري.
روسيا تقفز نحو الأمام
صحيح أن التدخل الروسي مختلف في طبيعته وشكله في ليبيا عنه في سوريا، لكن يبدو أن استشعار موسكو قرب هزيمة حفتر دفعها ولأول مرة لإرسال طائرات حربية مقاتلة إلى شرق ليبيا قبل عدة أيام، بحسب ما كشفته القيادة الأمريكية العسكرية في إفريقيا، بالإضافة إلى ما كشفته رويترز أمس من أن موسكو زادت من عمليات تجنيد مقاتلين في سوريا في مايو الماضي، ما يوحي بأن الكرملين ماضٍ نحو الأمام في ليبيا لضمان عدم خروجه من المعادلة خالي الوفاض إذا انهار حفتر بشكل كامل.
ربما هذا بالإضافة إلى اعتبارات ومصالح سياسية وعسكرية ودولية تدركها جيدًا أنقرة، الداعم الشرعي الوحيد للشرعية في ليبيا، جعلها تؤكد مرارًا وتكررًا ضرورة الحل السياسي، كان آخرها تأكيد أردوغان في مؤتمر صحفي جمعه بالسراج في العاصمة أنقرة بعد تحرير مطار طرابس الدولي، ضرورة إيجاد مرحلة سياسية جديدة ودعم المبادرات الدولية لتحقيق السلام.
بالطبع يحق لكل الليبيين ولكل الأحرار الاحتفال بانتصارات الوفاق، كما يحق لهم المطالبة بأن تبسط الأخيرة سيطرتها الكاملة على الأراضي الليبية، وطرد الديكتاتور حفتر وداعميه من كامل البلاد، إلا أن الحسابات والمصالح الدولية والإقليمية المتداخلة تذهب بمسارات متداخلة ومتشابكة لا يمكن أن تنحني لتلتقي إلا باتفاق سياسي يضمن مستقبل مصالحها الجيوسياسية في البلاد، وإن كانت بنسب متفاوتة تستند إلى إمكانية الحسم على الأرض.
وسط كل هذه التجاذبات والمعطيات الجديدة بات لزامًا على مؤسسات المجتمع المدني والنخبة السياسية والمثقفة وجميع مكونات الشعب الليبي أن تدرك أن المرحلة القادمة مرحلة تفاهمات واتفاقات سياسية
حفتر.. الرهان الخاسر
أضف إلى ذلك ما بدأ يظهر للدول الداعمة بأن الرهان على حفتر، رغم الدعم بالمال والسلاح النوعي والمرتزقة المحترفين منهم والتقليديين وأساطيل من الطائرات المسيرة، كان خاسرًا منذ البداية عندما أعلن هجومه على العاصمة وظن حينها أنه قادر على دخول طرابلس خلال أيام معدودات، ليتبين أن ساعات الصفر والحسم التي أعلنها لاحقًا، وأظهرته بمظهر الأخرق أمام داعميه قبل منافسيه، ليست على توقيت طرابلس.
يقول بديع الزمان الهمذاني: “وسوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار”، ورغم أن سحب الغبار التي خلفتها مليشيات حفتر بعد طردها وهروبها ما زالت على مشارف مطار طرابلس وترهونة وبني وليد يبدو أن هيئة “الحمار” قد تكشفت للدول الداعمة والولايات المتحدة الأمريكية من خلف غبار الصراع، فسارعت الأخيرة عن طريق سفيرها في ليبيا ريتشارد نورلاند، وهي التي تغاضت عن هجوم حفتر على العاصمة بل إنه تم بمباركة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، للتأكيد بعد السيطرة على مطار طرابلس الدولي أن رهان مصر على الرجل كان فاشلًا، ما ينسحب بالضرورة على جميع داعميه.
أهمية المسار السياسي “الشروط”
هنا تبرز أهمية أن تنتهز حكومة الوفاق فرصة الانتصارات النوعية على الأرض وحالة التخبط التي تعصف بداعمي حفتر التي يمكن رصدها بوضوح على محطاتهم الإعلامية، بالإضافة إلى حالة الشك والتشرذم التي تستشري الآن في جميع التكتلات العسكرية والسياسية في الشرق لإبرام صفقة سياسية برعاية أممية ووفق شروط المنتصر، فأي اتفاق سياسي تقدم عليه حكومة الوفاق والحال كما عليه الآن لم يعد ترفًا يستطيع حفتر المهزوم وداعموه ضربه بعرض الحائط كما فعلوا دائمًا.
وسط كل هذه التجاذبات والمعطيات الجديدة بات لزامًا على مؤسسات المجتمع المدني والنخبة السياسية والمثقفة وجميع مكونات الشعب الليبي إدراك أن المرحلة القادمة مرحلة تفاهمات واتفاقات سياسية تسير بالتوازي مع التطورات العسكرية وبحجمها، لذلك يجب على حكومة الوفاق أن تقطع الطريق أمام أي طرف يحاول خلق ظرف جديد وأن تغتنم المتغيرات المستجدة لفرض مسار سياسي يتلاءم وتطلعات الشعب الليبي.