لم تمض أيام قليلة على إعلان تونس خروجها من قائمة أوروبية للبلدان ذات المخاطر العالية في مجال مقاومة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، حتى تفجرت فضيحة جديدة أبطالها أطباء وسياسيون قاموا بشراء منازل فاخرة بإحدى المدن الإسبانية السياحية دون المرور بالبنك المركزي التونسي.
قضية فساد
يناير/كانون الثاني الماضي، تقدم مُبلّغ عن الفساد إلى النيابة العمومية بالقطب القضائي الاقتصادي والمالي بتونس وأبلغ عن شبهات فساد بخصوص اقتناء تونسيين لشقق فاخرة في مدينة “أليكانتي” التابعة لكوستا بلانكا في جنوب شرق إسبانيا.
إثر وصول هذه المعلومات إليها، أجرت النيابة العمومية أعمالًا أولية للتأكد من مدى جدية موضوع التبليغ، قبل الإذن إلى فرقة من الضابطة العدلية المختصة بإتمام إجراءات الأبحاث الأولية، وفق ما أفاد به نائب وكيل الجمهورية، رئيس وحدة الإعلام والاتصال بالمحكمة الابتدائية بتونس، محسن الدالي.
تفيد المعلومات التي وصلت مكتب الادعاء العام، أن تونسيين يملكون عقارات فاخرة في منطقة فخمة من مدينة أليكانتي التي تقع في منطقة كوستا بلانكا الإسبانية وتقدر أثمانها بملايين الدولارات، حيث أن الصناعة السياحية متطورة للغاية.
أجرت الحكومة التونسية عدة إصلاحات تشريعية لتجاوز النقص في أنظمة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب
تعد كوستا بلانكا، المعروفة باسم “الساحل الأبيض”، الوجهة الأكثر شعبية على مدار العام في إسبانيا، حيث تضم شواطئ رملية خلابة وقرى ساحرة والكثير من المنتجعات السياحية النابضة بالحياة التي تقع على البحر الأبيض المتوسط، لذلك يحبذ الكثير من المشهورين الاستثمار فيها.
قامت النيابة العمومية بالاتصال والتعاون مع السلطات الإسبانية، ومن ثم استجوبت المتهمين (لم تكشف هوياتهم) فيما يتعلق بأصل المبالغ الكبيرة بالعملة الأجنبية التي مكنت من شراء هذه العقارات في “مدينة الأغنياء” دون أن يتم التصريح بأي شيء لدى البنك المركزي التونسي.
جدير بالذكر أن تحركات الادعاء العام في تونس، جاءت بعد وقت قليل من بدء الشرطة المالية والشرطة الوطنية والحرس المدني حملة لمكافحة غسيل الأموال وتجارة المخدرات، اتضح أن أغلب المشبوه فيهم مغاربة وجزائريون وتونسيون لهم أنشطة مشبوهة في إسبانيا وفي بلدانهم.
تبييض وغسل أموال؟
بعد استكمال الأبحاث الأولية، قررت النيابة العمومية بالقطب القضائي الاقتصادي والمالي بتونس نهاية الأسبوع الماضي، الاحتفاظ بأربعة أشخاص من المشمولين بالبحث في قضية اقتناء الشقق بإسبانيا، عن طريق إحدى الشركات دون المرور بالبنك المركزي التونسي.
الأشخاص الأربع المحتفظ بهم “هم من جملة نحو 35 شخصًا شملتهم الأبحاث في القضية ذاتها، بسبب جرائم صرفية لعدم تعاملهم عن طريق البنك المركزي التونسي، إضافة إلى وجود شبهة تبييض وغسل أموال بالنسبة إلى الشركة التي توسّطت في عملية اقتناء هذه الشراءات”، وفق النيابة التونسية.
وينص القانون الإسباني منذ عام 2013، على منح الأجانب حق الحصول على تصريح إقامة في إسبانيا إذا اشتروا عقارًا بأكثر من 500 ألف يورو أو استثمروا مليوني يورو في وصولات الخزينة، وهو ما مثل منفذًا لشبكات الجريمة المنظمة لتبييض وغسل الأموال.
تعد إسبانيا، وفق تقارير عديدة ملجأ لعدد كبير من العصابات الإجرامية المنظمة التي تشارك بشكل رئيسي في غسيل وتبييض الأموال والاستثمارات العقارية وتجارة الكوكايين والحشيش ومخدرات الأمفيتامين غير القانونية.
ويمنع القانون التونسي تحويل أموال إلى الخارج دون العبور على المسالك البنكية التونسية، ويعد هذا الأمر جريمة صرفية، حيث يجرّم القانون “الحصول على مكتسبات بالخارج دون اتباع الإجراءات القانونية المعمول بها في التحويلات المالية ودون إعلام البنك المركزي”.
وتقدر المبالغ المالية موضوع شبهة الفساد، مبدئيًا بـ25 مليون دينار، ورغم عدم كشف هوية المتهمين، فقد أكدت تقارير عدة وجود أطباء وسياسيين ومحامين ورجال أعمال ضمنهم، وقد استغلوا الأزمة الاقتصادية التي تمر بها إسبانيا لشراء العقارات هناك.
جريمة رائجة
هذه القضية ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فغسيل وتبييض الأموال في تونس جريمة رائجة رغم الترسانة القانونية والمؤسساتية لمنع غسيل الأموال وتمويل الإرهاب في البلاد التي تعزّزت مع صدور قانون 2015 مكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال.
وتنتعش ظاهرة غسل الأموال في تونس، منذ تفشي الفساد في البلاد، واحتلت تونس المرتبة 74 في التصنيف العالمي لمكافحة الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، من مجموع 180 دولة، ويعود تأخر ترتيب تونس في مؤشر مدركات الفساد أساسًا إلى تواصل ظاهرة الإفلات من العقاب وتواصل السياسة الانتقائية في تحريك ملفات الفساد بالإضافة إلى غياب تطبيق قانون حماية المبلغين.
تعتبر جريمة غسل وتبييض الأموال من الجرائم الأكثر رواجًا في تونس، في ظل تواصل ثقافة الإفلات من العقاب
وسبق أن أدرجت مجموعة العمل المالي (منظمة حكومية دولية مقرها باريس تأسست سنة 1989 وتهدف إلى محاربة غسل الأموال وتمويل الإرهاب) والبرلمان الأوروبي تونس، ضمن القائمة السوداء لغسل الأموال وتمويل الإرهاب.
كما سبق أن أدرج وزراء مالية الاتحاد الأوروبي، تونس في الـ5 من ديسمبر/كانون الأول 2017، على قائمة سوداء تتعلّق بالملاذات الضريبية الآمنة على مستوى العالم، تضمنت 17 دولة، قبل مراجعة التصنيف في 23 من يناير/كانون الثاني 2018، ليتم إدراجها ضمن القائمة الرمادية، بعد تعهّد حكومي حينها بإجراء العديد من الإصلاحات.
وتقول الحكومة التونسية إنها أجرت عدة إصلاحات تشريعية لتجاوز النقص في أنظمة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، على غرار تركيز السجل الوطني للمؤسسات إلى جانب إصدار المعايير المهنية المتعلقة بالتزامات الخبراء المحاسبين فيما يتعلق بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وإعداد أدلة للمراقبين المعنيين بالرقابة على المهن المالية وغير المالية، فضلًا عن إصدار القائمة الوطنية للعناصر الإرهابية والتنظيمات الإرهابية وتجميد أموال وأصول تلك العناصر.
رغم كل ذلك، تبقى جريمة غسل وتبييض الأموال من الجرائم الأكثر رواجًا في تونس، في ظل تواصل ثقافة الإفلات من العقاب وعدم وجود إرادة سياسية للقضاء على هذه الآفة التي أضرت بصورة البلاد في الخارج وباقتصادها الذي يعاني أزمات متعددة.
وسبق أن أطلق رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (حكومية) شوقي الطبيب، صيحة فزع أكد خلالها أن “الفساد انتشر بشكل وبائي وتونس قد تتحول إلى دولة مافيات، ما لم نفعل شيئًا لمكافحته”، وشدد على أن “بارونات الفساد اخترقوا وزارة الداخلية ووزارة المالية والجمارك والقضاء ووسائل الإعلام ومجلس النواب والأحزاب السياسية”، مشيرًا إلى أن قرابة ملياري دينار تونسي (نحو مليار دولار) تُستنزف من ميزانية الدولة نتيجة غياب الحوكمة والتصرف الرشيد في مؤسساتها.
قضية شراء مساكن فاخرة في إحدى المدن السياحية بإسبانيا دون المرور بالمسالك المالية الرسمية، من شأنها أن تسلط الضوء مجددًا على قضايا الفساد في تونس وملف غسل الأموال، خاصة في ظل تعهد الحكومة الحاليّة بمحاربة الفساد دون انتقائية أو تمييز لدفع عجل اقتصاد البلاد.