“إكرام الموتى“.. تحت هذا العنوان أطلق عدد من الشباب السوداني مبادرة مجتمعية تستهدف بناء عدد من القبور المخصصة لضحايا جائحة كورونا المستجد، من باب أن تكريم الميت دفنه، في ظل تزايد أعداد الإصابات بالفيروس الذي ينهش في جسد المجتمع السوادني بينما يعاني القطاع الصحي في البلاد من حالة تدهور شديدة.
تتماشى هذه المبادرة مع ما يتمتع به الشعب السوداني من أعمال الخير، وتزايد المبادرات الأهلية التي تحث على التكافل بين أفراد المجتمع لاسيما أوقات الأزمات، ولعل المناظر المؤلمة التي تتناقلها منصات السوشيال ميديا بشأن مراسم دفن المتوفين بالفيروس كانت الدافع الأبرز لإطلاق مثل هذه المبادرات التي تحفظ كرامة ضحايا الوباء.
وقد بلغ إجمالي الإصابات بالفيروس في السودان حتى السبت 7 يونيو قرابة 6081 إصابة، بينها 359 وفاة، تشافى منها 2014 حالة، تتصدر الخرطوم قائمة الولايات الأعلى تسجيلًا للإصابات بنسبة تتجاوز 80% من إجمالي الحالات في عموم البلاد، بحسب الإحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة السودانية.
6 – 8 مقابر يوميًا
الفكرة جاءت لمجموعة من الشباب بالعاصمة الخرطوم، بعد زيادة أرقام الوفيات جراء كورونا، حيث عمدوا إلى حفر القبور والقيام بتجهيزها بما يسمح بدفن الموتى دون عناء، وذلك توفيرًا للمشقة على أهل المتوفى في ظل الحظر الشامل المفروض على الولاية وغلق معظم المستشفيات أبوابها أمام المصابين.
النواة الأولى للمبادرة كان قوامها 30 شابًا سودانيًا، يجتمعون يوميًا عند مقابر “فاروق” الواقعة جنوب وسط الخرطوم، بعد صلاة العصر تقريبًا، حيث يتم الترتيب فيما بينهم على حفر عدد من القبور بصورة دورية بالجهود الذاتية وبما لا يحمل أي من الأهالي تكاليف البناء والتجهيز.
محمد عبد الحميد، أحد الأعضاء المنضمين للمبادرة، يشير في تصريحاته لـ “الأناضول” أنهم يعملون بصفة يومية من بعد صلاة العصر وحتى المساء، حيث ملائمة الجو العام للعمل بعيدًا عن حرارة الجو الملتهبة وقت الظهيرة، مشيرًا أنهم يقوموم بتجهيز ما بين 6 – 8 مقابر يوميًا، آملين في زيادة هذا العدد لاحقا حال انضمام المزيد من الشباب للمبادرة.
الأمر لم يقتصر على الخرطوم، بل كشف بعض المهتمين بالشأن المجتمعي السوداني عن تكرار هذه المبادرة في عدد من الولايات الأخرى خلال الأيام المقبلة، مرجعين اختيار العاصمة كمحطة أولى إلى تصدرها قائمة المناطق الأكثر تسجيلًا في أعداد الإصابات والوفيات.
مخاوف انهيار النظام الصحي
الأزمة تتعاظم مع تدني مستوى الخدمات الصحية المقدمة للمصابين في السودان، وهو ما يرجح زيادة أعداد المصابين خلال الفترة المقبلة، هذا في الوقت الذي يعاني فيها النظام الصحي من أزمات في ظل قلة الموارد المتاحة وهو ما حذرته منه اللجان الطبية في البلاد طيلة الأشهر الماضية.
ففي إبريل الماضي حذرت لجنة أطباء السودان المركزية من انهيار النظام الصحي في حال استمرار الأوضاع، وذلك بعد الإعلان عن توقف العمل بصورة جزئية في 13 مستشفى موزعة على مناطق البلاد المختلفة، وفي بيانها استعرضت أسباب توقف العمل في تلك الهيئات وأرجعتها إلى عدم توفر المستلزمات الطبية اللازمة لحماية الأطقم الطبية، بجانب غياب أجهزة الكشف عن الإصابة بالفيروس.
اللجنة أضافت في بيانها إلى تعرض عدد من كوادرها الطبية للإصابة بكورونا، بسبب عدم وجود أدوات الوقاية الكافية، فضلا عن عدم توفر وسائل النقل وتعطل العمل من أجل التعقيم، محذرة من تداعيات ذلك على زيادة معدل الإصابة لدى المواطنين المدنيين العاديين، فإن كان هذا هو حال الأطقم الطبية فكيف يكون الحال مع المرضى.
وكانت مصادر طبية قد أشارت إلى أن عدد الإصابات بكوفيد 19 يقارب الـ100 وسط الأطباء والكوادر الصحية في السودان، جرًاء مخالتطهم لمصابين بالفيروس دون معرفة إصابتهم، مبدين في تصريحات لهم تخوفاتهم من ظاهرة إخفاء الكثير من المرضى المترددين على المراكز الصحية إصابتهم بكورونا، مما يعرض الكوادر الصحية لخطر حقيقي يتم كشفه بعد أيام قليلة من مخالطة المصابين.
يذكر أنه في 12 مايو الماضي بدأ تجمع التمريض السوداني إضرابا عن العمل، بالتزامن مع يوم التمريض العالمي، في انتظار تلبية مطالبهم التي تقدموا بها لوزارة الصحة، لحمايتهم أثناء أداء عملهم في مواجهة الوباء.
وجاء إضراب الممرضات الجزئي احتجاجًا على ما سموه “ظلم ومضايقات” المستشفيات في ظل عجز إدارتي الوبائيات والعزل الصحي عن معالجة الشكاوى، وقد تزايد عدد المصابين بكورونا من الفرق الطبية الأيام الماضية، حيث دخلوا الحجر الصحي في مدينتي ود مدني وسنار جنوب العاصمة الخرطوم، فيما رفضت بعض المستشفيات تحمل نفقات علاجهم بعدما أصيبوا نتيجة مخالطتهم مصابين بالفيروس، وهو ما أثار حفيظتهم بصورة دفعتهم للاحتجاج والمطالبة بتوفير الإمكانيات اللازمة للتصدي للجائحة.
وتأتي مثل هذه المبادرات الخيرية في وقت يعاني فيه الشارع السوداني من استهتار شديد بشأن مواجهة الوباء العالمي، فرغم تصاعد منحنى الإصابات والوفيات يومًا تلو الأخر، إلا أن شريحة كبيرة من السودانيين تضرب بالإجراءات الاحترازية عرض الحائط حسبما أشار سودانيون في شهادتهم لـ”نون بوست”.
عثمان الفاتح، محامي سوداني يقيم في الخرطوم، يكشف في حديثه إلى أن تراجع حملات التوعية المجتمعية بخطورة كورونا، كان له دور كبير في عدم استجابة نسبة كبيرة من الشارع السوداني مع القرارات الوقائية، لافتا إلى أنه خلال الأيام الأخيرة تصاعد الوعي إلى حد ما بعد تزايد أعداد الإصابة في العاصمة، والذي وصل حتى أول أمس الجمعة 4517 إصابة بما يتراوح ما بين 80-90% من إجمالي الإصابات.
وأضاف أن الأسواق المكتظة بالناس والطرقات العامة التي ما كانت تخلو من الازدحام بدأت هي الأخرى تشهد تراجعًا مؤخرًا بعدما أطلقت وزارة الصحة تحذيراتها بشأن احتمالية انهيار النظام الصحي حال استمر الوضع على ماهو عليه، وهو ما أثار قلق الكثيرين ممن كانوا يتعاملون مع المشهد بصورة أقل جدية بداية الأزمة.
وهكذا يحاول المجتمع السوداني تعضيد مساعي التكافل والتلاحم من أجل مواجهة الجائحة التي تتطلب تضافر كافة الجهود، الرسمية والشعبية، حيث وجد السودانيون أنفسهم في مرمى المسؤولية، في الوقت الذي تعاني فيه الحكومة من مأزق لا تحسد عليه جرًاء عدم وجود التمويل اللازم لدعم المنظومة الصحية التي تعاني من تدهور وتهالك على مدار عقود طويلة مضت.