“لقد أصدرت أوامري لكافة أقسام الحكومة الاتحادية لمساعدة الضحايا وأسرهم ولإجراء تحقيق شامل لمعرفة ومطاردة مرتكبي هذا العمل، الإرهاب ضد أمتنا لن يتوقف، والآن أدعوكم للوقوف معي دقيقة صمت”.
بهذه الكلمات ابتدأ بوش الابن خطابة الأول بعد أحداث 11 سبتمبر، بعد ساعات من الحدث، وجهت الولايات المتحدة أصابع الاتهام إلى تنظيم القاعدة وزعيمها أسامة بن لادن، ادعت القوات الأمريكية حينها أنها عثرت على شريط في بيت مهدم جراء القصف في جلال آباد في نوفمبر 2001 يظهر بن لادن وهو يتحدث إلى خالد بن عودة بن محمد الحربي عن التخطيط للعملية.
حدثت تغييرات كبيرة في السياسة الأمريكية عقب هذه الأحداث، والتي بدأت مع إعلانها الإرهاب وأدت هذه التغييرات لحرب على أفغانستان وسقوط نظام حكم طالبان والحرب على العراق وإسقاط نظام صدام حسين.
في ذلك الوقت بادرت الكثير من الدول للدخول سريعًا في الحلف الأمريكي للحرب على الإرهاب وتقديم الدعم اللازم لذلك وعلى رأسها الدول العربية خاصة دول الخليج.
الحلف الأمريكي ضد تنظيم داعش
لم تمض سوى ساعات على ظهور شريط مصور يبث مقتل الصحفي الأمريكي “ستيفين سوتلوف” ذبحًا على أيدي تنظيم داعش (بالرغم من أن كثيرًا من المختصين شككوا في صحة ما ورد في التسجيل) إلا أنه بدأت سلسلة من التصريحات النارية لممثلي السياسة الأمريكية وعلى رأسهم جون كيري وباراك أوباما.
حملت التصريحات الكثير من رسائل التهديد والوعيد وإظهار الخطر الذي يحدق بأمريكا والعالم من هذا التنظيم المتطرف وتبع ذلك تصريحات لدول أوربية موالية لأمريكا حول ضرورة مواجهة التنظيم لما يشكله من خطر على العالم.
بعد أيام قليلة تم إعلان حلف ما يسمى (الائتلاف الدولي لمواجهة خطر تنظيم الدولة الإسلامية) وبدأ الوزير كيري بجولة واسعة حول العالم والوطن العربي للحشد لذلك الحلف والذي انضم له ما يزيد على 40 دولة منها 10 دول عربية.
بين المشهدين
قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بشكل رسمي أواخر عام 1991 كانت تحكم العالم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القطب الشيوعي (الاتحاد السوفيتي)، القطب الأمريكي، ودول عدم الانحياز، بعد انهيار القطب الروسي أصبحت سياسة القطب الواحد هي من تحكم العالم حتى أن الكثير من دول عدم الانحياز سابقًا اتخذت موقفًا منحازًا لصالح أمريكا حفاظًا على مصالحها.
أدى ذلك بالضرورة إلى تسابق الدول النامية وما دون العظمى لنيل رضى رأس القطب (أمريكا) ومحاولة بناء مصالح مشتركة طويلة الأمد معها.
في سبتمبر 2001 جاءت دعوة بوش الأبن للحرب على الإرهاب بمثابة حقل اختبار للولاءات التي ترتبط مع الحلف الأمريكي وصكوك غفران لمن عادى ويعادي أمريكا بسياسة معلنة أو خفية.
في ذلك الوقت كانت أمريكا الضحية المعلنة، فهي التي خسرت في نظر العالم برجي التجارة العالمي وما يزيد عن 2600 ضحية نتيجة فعل إرهابي آثم بغض النظر عن مرتكبه (والذي لم يبدو واضحًا حتى الآن).
نتج عن الحلف العالمي لمحاربة الإرهاب أن أمريكا خلقت المبرر للتدخل في معظم سياسات الدول وحتى خلق قواعد عسكرية لها في الشرق الأوسط من أجل حماية أمنها القومي وبالتالي حماية العالم من الإرهاب، وكان دخول الدول في حلف الحرب على الإرهاب خاصة العربية من باب كسب الرضى الأمريكي وضمانًا لمصالح فئوية لحكامها أكثر منه إيمانًا بضرورة مواجهة الإرهاب، المصطلح الذي بدا عريضًا ومطاطًا بيد السياسة الأمريكية تسقطه على من ترى أنه يعادي مصالحها في أي مكان.
هذا الحلف بدأت فعاليته بالاندثار بعد حرب غزو العراق وبيان السياسة الهوجاء التي اُتبعت من أمريكا وقتها والتي أحرجت الحلفاء قبل الأصدقاء.
مع أحداث الثورات في العالم العربي وإثر التغيير السريع والمتكرر لملامح المنطقة الجغرافية والسياسية والاجتماعية؛ واجهت سياسة أمريكا مخاطر وعقبات كبيرة في منطقة الشرق وبتنا نشهد تفلتًا لكثير من حلفائها الدوليين وبالتالي خسارة كبيرة لمصالحها في أهم مناطق العالم المتنازع عليها.
كان أهم تلك العقبات:
1- عودة الدب الروسي (العدو القديم) لمنطقة الشرق الأوسط بقوة وتناغمه مع الحلف المعادي لسياسة القطب الأمريكي (أمريكا اللاتينية والصين وإيران).
2- ظهور قطب تركي جديد صاعد له أهداف إقليمية عظمى في الشرق الأوسط وأوروبا ويمتلك أوراق ضغط وقوة كبيرة من الناحية السياسة والاقتصادية.
هنا كانت الحاجة ملحة أمريكيًا لإيجاد مسبب مرتبط بسياستها العالمية لمحاولة حشد الحلفاء من جديد في منطقة الشرق الأوسط دون الدخول إليها بشكل مباشر كما حصل في العراق عام 2003 حتى لا تتكرر التجربة التي دفعت ثمنها غاليًا على الصعيد السياسي والعسكري.
كان تنظيم داعش هو الأداة الأقرب والأظهر لتحقيق أهداف أمريكا في هذا الشأن وبالفعل أُنشئ الحلف وبدأت الدعوة للانضمام إلية.
في هذا المشهد وعلى عكس مشهد الانضمام لحلف بوش الابن في الحرب على الإرهاب لم نشهد تهافتًا على الانضمام للحلف الأمريكي وخصوصًا من الدول المعنية وما زلنا نرى جون كيري يجول في العالم العربي للحشد للحلف بشكل أكبر.
الحلف والأثر المترتب:
قديمًا قالوا: يعرف أحجام الناس بحجم أعدائهم
ولأن تنظيم داعش كان الخيار الوقتي الوحيد المناسب في وجه أمريكا في المنطقة، استخدمت الأخيرة كل الوسائل الإعلامية والسياسة لتضخيم حجم هذا العدو الافتراضي لها وخلق هالة من الوهم والغموض حول قوته وحجم انتشاره وقدارته العسكرية وأصبح ذكرخطره لا يفارق لسان الرئيس أوباما في أي خطاب له كما أصبح العنوان الرئيسي والأهم لكل زيارات الوزير جون كيري إلى دول العالم.
عنون أوباما ووزيره كيري مواجهة داعش باستراتيجية عريضة تتخلص في مجالين (عسكري وفكري).
أما الأول فصرح أوباما أن بلاده لن تخوض فيه حرب مباشرة بل من خلال الحلفاء في المنطقة والثاني صرح كيري أنه سيكون بالتعاون المباشر مع الدول الأعضاء في الحلف مما يعني فرض توجه أمريكا الفكري بشكل مباشر بحجة تصحيح فكر التطرف.
على الصعيد العسكري تدرك أمريكا أن الحرب على داعش لن تكون سببًا في إنهاء هذا الخطر التي ساهمت في صنعه وبل ربما تعطي التنظيم أسباب نفوذ وبقاء أقوى من ذي قبل، لكنها تأمل أن ينعكس أثر هذا الحلف على الصعيد السياسي بما يخدم مصالحها بحيث تشغل به المنطقة لسنوات قادمة وبحيث يبقى هذا التنظيم (البعبع) الذي تهدد بخطره الأطراف المتصارعة دينيًا وسياسيًا في المنطقة لتضمن تحقيق أكبر قد من الولاءات وبالتالي تحقيق مصالحها.
في نهاية المطاف أتوقع أن النجاح لن يكتب لهذا الحلف ولن يحقق ما يصبو إليه بسبب اختلال ميزان القوى السائد بين الدول العظمى وظهور أقطاب دولية أخرى تمتلك أوراق قوة لا تعتبر نفسها حليفًا لأمريكا وبسبب سرعة تجدد الأحداث على الأرض في اتجاهات مختلفة يصعب تحديد وجه لها، وأيضًا ظهور أطراف أخرى على الأرض السورية تحارب التنظيم بعيدًا عن العباءة الأمريكية.
ومما لا شك فيه أن ظهور الحلف بشكله الحالي سيعطي تنظيم داعش أسباب قوة وبقاء وانتشار أكبر ليس من الناحية الجغرافية بل الفكرية بسبب منهجية التطرف الفكري في معاداة ما أسمته أمريكا التطرف ومحاولة فرض شكل التوسط الذي تراه ويتماشى بطبيعة الحال مع سياستها الدولية.