الأحد الـ7 من يونيو 2020: “بُنيت آيا صوفيا، ككنيسة خلال العصر البيزنطي عام 537 ميلادية، وظلت لمدة 916 سنة حتى احتل العثمانيون إسطنبول عام 1453، فحولوا المبنى إلى مسجد. وفي عام 1934، تحولت آيا صوفيا إلى متحف بموجب مرسوم صدر في ظل الجمهورية التركية الحديثة”.
الإثنين الـ8 من يونيو 2020: “ما يتعلق بفتح القسطنطينية فهو فتح إسلامي عظيم بشر به النبي صلى الله عليه وسلم وتم على يد السلطان العثماني الصوفي العظيم محمد الفاتح أما أردوغان فلا صلة له بمحمد الفاتح”.
فتوتان متناقضتان لا يفصل بينهما إلا أقل من 24 ساعة فقط، تعكس حالة التخبط التي تحياها دار الإفتاء المصرية التي تجاوزت وظيفتها الدستورية لتصبح منبرًا سياسيًا يخدم أهواء النظام الحاكم عبر إلباس المواقف السياسية لباس الدين بما يعزز حجم ووضعية القوى الناعمة التي توظفها السلطات الحاكمة لترسيخ كيانها وحضورها.
ما كانت تتوقع الدار هذا الجدل الذي أثارته فتواها حين وصفت الفتح الإسلامي لمدينة القسطنطينية (إسطنبول) بالاحتلال العثماني، وهي الفتوى التي عرضتها لموجة انتقادات عارمة، داخل مصر وخارجها، ما دفعها تحت وطأة هذه الضغوط إلى التراجع عنها بعد ساعات قليلة، لتؤكد أن فتح القسطنطينية هو فتح إسلامي عظيم.
تاريخ طويل من الجدل أثارته ولا تزال دار الإفتاء المصرية بسبب فتاويها التي تحولت في الآونة الأخيرة إلى بيانات سياسية أكثر منها إبداء لموقف ديني، وهو ما أوقعها في مستنقع الخلط بين الدين والسياسة، لتواصل نزيف شعبيتها لدى الكثير من المصريين ممن فقدوا الثقة فيها وما يصدر عنها بعدما تبين بُعد الدار والقائمين عليها عن الهدف الأسمى التي أنشئت من أجله.
تاريخ من الموالاة
في أطروحته المقدمة لنيل درجة الدكتوراه التي جاءت تحت عنوان “إسلام الدولة المصرية: مفتو وفتاوى دار الإفتاء” كشف الباحث الدنماركي جاكوب سكوفجارد-بيترسون، أنه منذ نشأة دار الإفتاء المصرية وحتى اليوم، ولها دور محوري في خدمة سياسات الدولة وترسيخ أركان أنظمتها الحاكمة.
ظلت دار الإفتاء في مصر منذ نشأتها في 4 من جمادى الآخرة 1313هـ/21 من نوفمبر 1895م ضلعًا رصينًا لتنفيذ أهداف النظم الحاكمة، مسخرة كل جهودها لترسيخ أركان الحاكم والتماشي معه فيما يتبناه من أجندات، بصرف النظر عن توافقها مع المرجعية الدينية من عدمه.
ويعود خضوع الدار لأهواء النظام الحاكم في المحروسة إلى عصر محمد علي باشا، بداية القرن الـ19 الميلادي، حيث تحولت إلى بوق كبير لخدمة الوالي، غير أنها ظلت في جزء كبير من تحركاتها إلى جانب الشعب المصري، وهو ما أدى إلى نشوب بعض الصراعات بداخلها بين الحين والآخر.
علماء الاجتماع السياسي في تفسيرهم للعلاقة بين الدار والدولة قسموها إلى سيناريوهات ثلاث: الأول كونها أنشئت بهدف ترسيخ أركان النظام بجانب المؤسسات الدينية الأخرى كالأزهر الشريف ووزارة الأوقاف، أما الثاني فيتعلق بتوظيفها لمنافسة أي نفوذ ديني آخر يهدد عرش الحاكم، وهنا كان يقصد بها أنها مركز ديني داخل الحكومة، يقف منافسًا للأزهر بهدف تقليل قوة شيخه حال تغريدة خارج السرب المرسوم من النظام.
فيما يأتي السيناريو الثالث وهو الأطول أمدًا على مر تاريخ الدار، ويتمحور حول إضفاء مؤسسات الدولة صبغة دينية في مواجهة العلمانية، وهي الوظيفة التي حولت الدار إلى إحدى الأدوات الناعمة لتجميل صورة النظام لدى الشعب المتدين بطبيعته، هذا بجانب لي الدين لخدمة الأجندة السياسية.
الأمر تخطى حاجز الفتاوى الدينية إلى إبداء الرأي في الأعمال الفنية الدرامية، حيث أوصت الدار بتحريم مشاهدة الدراما التركية، تعليقًا على الشعبية الكبيرة التي حققها مسلسلا “وادي الذئاب” و”قيامة أرطغرل” وذلك في 8 من فبراير 2020
سياسة في لباس الدين
لم تكن جدلية الفتح والاحتلال المتعلقة بالقسطنطينية هي حالة التسييس الوحيدة التي وقعت دار الإفتاء المصرية في شركها، فهناك سوابق كثيرة تعكس أن ما حدث لم يكن استثناءً عارضًا، بل منهج وعقيدة راسخة ونوايا مبيتة سلفًا للسير في هذا الاتجاه حتى ولو على حساب الثوابت التاريخية والدينية.
في 22 من مارس 2020 وجهت الدار عبر الصفحة الرسمية لـ”مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة” التابع لها هجومًا حادًا على العملية العسكرية التي قامت بها القوات التركية في إدلب السورية، محذرة مما أسمته “التصعيد التركي في الأراضي السورية يخدم مصالح الجماعات والتنظيمات الإرهابية”.
وحذرت من أن هذا التدخل “يمثل انتهاكًا صريحًا وصارخًا للشرعية والقانون الدوليين، خاصة في ظل تدني الأوضاع الإنسانية وانتشار الأمراض والأوبئة وعدم توافر الأدوية في الأراضي السورية”، وذلك دون الإشارة لا من قريب أو بعيد للانتهاكات الممارسة من قوات نظام الأسد بحق السويين على مدار السنوات الماضية.
وفي 14 من فبراير 2020 أثارت الجدل مجددًا عبر إصدار فتوى بتحريم الهتاف لنصرة الأقصى في الحرم المكي، وذلك تعليقًا على الهتافات التي رددها بعض المعتمرين خلال طوافهم بالبيت الحرام، مرددين هتاف “بالروح بالدم نفديك يا أقصى”، حيث أوضحت الدار أنه “لا يجوز الزج به في العمل السياسي، وينبغي على المسلمين كافة الحفاظ على تلك المقدسات من تدنيسها بالأجندات السياسية المختلفة للدول”.
الأمر تخطى حاجز الفتاوى الدينية إلى إبداء الرأي في الأعمال الفنية الدرامية، حيث أوصت الدار بتحريم مشاهدة الدراما التركية، تعليقًا على الشعبية الكبيرة التي حققها مسلسلا “وادي الذئاب” و”قيامة أرطغرل” وذلك في 8 من فبراير 2020، حين أكد المؤشر العالمي للفتوى التابع للدار أن “الرئيس التركى رجب طيب أردوغان لم ولن يتوانى عن إحياء حلمه باستخدام كافة القوى، سياسيًّا أو دينيًّا أو حتى عبر القوى الناعمة عن طريق الأعمال الثقافية والفنية”.
دعم النظام.. منهج وعقيدة
يعد مفتي مصر الحاليّ شوقي علام أحد أبرز الداعمين لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي على مدار تاريخ من تقلدوا منصب “المفتي” طيلة العقود الطويلة الماضية، فالرجل لم يترك مناسبة إلا ويثبت حضوره إما بفتوى أو تصريح يرسخ أركان الحكم ويشوه كل المعارضين له، في الداخل كان أو الخارج.
فبعيدًا عن توقيعه المثير للجدل على أحكام الإعدام بحق مئات المعارضين المصريين، فرض علام نفسه على ساحة الأضواء بمواقفه المسيسة التي استطاع خلالها توظيف عباءته الدينية ومقتضيات وظيفته لتمرير مواقف بعضها سياسية، ومن بينها تأكيده رغبة السيسي بألا يقع الطلاق الشفهي إلا بتوثيق وذلك رغم معارضة الأزهر لهذا التوجه.
علام في تصريح له أضاف “أنه بالنظر في الوضع القانوني القائم فإن قانون الأحوال الشخصية الموجود والتطبيق القضائي والإفتائي لا يساعد أبدًا على أن نقول إن الطلاق إذا صدر من الزوج ولم يوثقه بأنه لا يقع، لكن بعد التحقيق والتحري إذا رأينا بأن هذا الطلاق واقع لا محالة فنفتي حينها بأن هذا الطلاق واقع، ونطالب السائل أن يوثقه عند المأذون”، مشيرًا إلى أن القانون المصري يلزم الزوج بتوثيق ذلك الطلاق الذي أوقعه خلال 30 يومًا وإلا وقع تحت طائلة القانون.
جاء المفتي في نوفمبر العام الماضي وبينما كان قطاع كبير من المصريين ينتقد فشل النظام في التعاطي مع الملفات الحياتية المهمة ليفتي بتحريم الحديث في الشأن العام، بدعوى احترام التخصص وأهل العلم
كما أجاز في أغسطس 2017 إخراج أموال الزكاة للإنفاق على قوات الجيش والشرطة التي تحارب الإرهاب، ففي حوار له ببرنامج “حوار المفتي”، بفضائية “أون لايف”، قال: “العلماء القدامى فسروا مصرف في سبيل الله من مصارف الزكاة السبعة، بأن تنفق أموال الزكاة على الأسلحة والجنود الذين يحاربون الأعداء”، معتبرًا أن هذا “كفاح أمني، إلى جانب المواجهة الفكرية للتطرف يستوجب أن ننفق ونصرف عليه من مصارف الزكاة”.
الدعم المطلق للنظام تعزز بصورة أكثر وضوحًا مع الانتخابات الرئاسية التي جرت في فبراير 2018 حين أفتى بتحريم عدم المشاركة في الانتخابات، داعيًا جموع الشعب إلى النزول بـ”كثافة” للمشاركة في العملية الانتخابية، وجاءت فتواه ردًا على دعوات البعض لمقاطعة العملية الانتخابية بوصفها “مسرحية هزلية”.
ثم جاء المفتي في نوفمبر العام الماضي وبينما كان قطاع كبير من المصريين ينتقد فشل النظام في التعاطي مع الملفات الحياتية المهمة ليفتي بتحريم الحديث في الشأن العام، بدعوى احترام التخصص وأهل العلم، مشيرًا خلال كلمته فى الجلسة التحضيرية الثانية لمؤتمر الشأن العام الذي عقد بمؤسسة “أخبار اليوم” في الـ25 من الشهر أن المؤتمر يسعى لإيجاد ثقافة البناء، التى تتبع عدة اتجاهات أهمها مراعاة التخصص الدقيق، متابعًا: “عصر العموميات وإننا نعرف كل شىء ولى وانتهى”.
وهكذا تواصل دار الإفتاء المصرية من المفتي إلى شبكة علمائها مساعيها لخدمة النظام، غير آبهة بالانتقادات الموجهة لها والمحذرة من تداعيات خلط الدين بالسياسة، الأمر الذي أدى إلى تراجع مكانتها لدى الشارع المصري لصالح كيانات دينية أخرى تحافظ قدر الإمكان على الحد الأدنى من الاستقلالية رغم الضغوط الممارسة عليها.