في الذكرى السادسة لسقوط الموصل.. واقع أليم لا يزال شاخصًا

كانت أيامًا شداد تلك التي شهدتها الموصل في مثل هذه الأيام قبل ست سنوات، ففي ساعات الفجر الأولى من يوم الـ5 من يونيو/حزيران 2014، هاجم عشرات المسلحين من تنظيم الدولة “داعش” مدينة الموصل من جانبها الغربي، وخلال خمسة أيام فقط سقطت ثاني كبريات مدن العراق بيد التنظيم بعد أن انهارت القطعات الأمنية الماسكة للمدينة.
أيام لا يزال الموصليون يذكرونها ويستذكرون معها ما حل بهم من ويلات لا تزال تبعاتها حاضرة حتى الآن، “نون بوست” وفي الذكرى السادسة لسقوط الموصل بيد داعش، يقرأ في هذه الذكرى ويكشف معها معلومات قد تكون تعرض لأول مرة على القارئ العربي.
هل كان سقوط الموصل متعمدًا؟
تشير الأحداث العسكرية التي حدثت في الموصل إلى أن كثيرًا من الشبهات لا تزال غامضة بشأن سقوط الموصل، إذ يقول الخبير الأمني رياض العلي في حديثه لـ”نون بوست” إنه وعلى عكس جميع الحروب التي جرت بالعالم في العصر الحديث، لم تتمكن مجموعة مسلحة غير منظمة من السيطرة على أي مدينة بالسرعة التي سيطر بها تنظيم داعش على مدينة الموصل.
ويضيف العلي أن خمسة أيام كانت كفيلة بهزيمة 3 فرق عسكرية تضم أكثر من 20 ألف جندي وضابط في مختلف الصنوف العسكرية وبكامل تسليحها، معتقدًا أن سقوط الموصل لم يكن ليتم لولا التواطؤ من قادة الأجهزة الأمنية في المدينة والحكومة الاتحادية في بغداد.
ويكشف العلي أن القوات الأمنية والعسكرية في المدينة لم تصمد إلا ليومين فقط، وكان الفضل الأكبر في هذا الصمود لقوات الشرطة المحلية لمحافظة نينوى، إذ استطاعت الشرطة المحلية صد التنظيم وعرقلة مقاتليه في مناطق غرب مدينة الموصل وتحديدًا في أحياء مشيرفة و17 تموز والرفاعي، ويرى العلي أن قيادة عمليات نينوى لم تكن مهتمة ومستوعبة للموقف الأمني، مؤكدًا أن ما جرى لا يخرج عن كونه عملية تسليم واستلام لا غير.
من جانبه، يكشف محافظ نينوى الأسبق أثيل النجيفي في حديثه لـ”نون بوست” أن ملف سقوط الموصل كان بتدبير من حكومة المالكي التي أرادت بأوامر إيرانية إخضاع مناطق المكون السني لإيران، كاشفًا أن حكومة المالكي كانت تعاقب أي ضابط يتواصل مع ديوان محافظة نينوى حتى قبل أشهر من سقوط المدينة.
وعن الدور الأمريكي في سقوط الموصل، يكشف النجيفي أنه التقى يوم 8 من يونيو/حزيران 2014 خلال المعارك بين مقاتلي داعش والقوات الأمنية بمبعوث الرئيس الأمريكي للعراق بريت ماكغورك وذلك في القنصلية الأمريكية بأربيل قبل أن يعود للموصل مجددًا، ويضيف أنه طلب من ماكغورك الضغط على حكومة المالكي لإنقاذ الموقف في الموصل وحماية المدينة، إلا أن النجيفي أضاف “أبلغني ماكغورك أنهم على ثقة بأن المالكي والحكومة العراقية ستقوم بما هو لازم لإنقاذ المدينة”.
مشيرًا إلى أن الإدارة الأمريكية كانت على علم مسبق بسقوط الموصل، وربما سهلت على إيران تسليم المدينة لداعش، وكان ذلك ضمن الاتفاق النووي الأمريكي الإيراني في السماح لإيران بالتمدد في جميع أنحاء العراق.
خسائر فادحة
مكث تنظيم داعش في الموصل لثلاث سنوات كاملة، شهدت فيها المدينة ما لم تشهده أي مدينة أخرى منذ الحرب العالمية الثانية، إذ وخلال هذه الفترة فقط، خرجت الموصل ومحافظة نينوى من معادلة المدن، وباتت تحكم بالحديد والنار وشهدت مقتل الآلاف على يد مقاتلي التنظيم.
الحكومة العراقية خسرت ما يقرب من 200 مليار دولار كانت حصيلة الخسائر في البنى التحتية في هذه المدن
لم تنته القصة هنا، فما جرى في المدينة أروع وأفدح من ذلك، إذ عمد التنظيم إلى تدمير كل معالم المدينة التاريخية والحضارية، فدمرت المساجد والكنائس وفجرت مدن الحضر والنمرود وجامع النبي يونس والجامع النوري والخضر والإمام الباهر وغيرها الكثير.
وخلال العمليات العسكرية التي بدأت في الـ17 من أكتوبر/تشرين الأول 2017 واستمرت لـ9 أشهر، دمرت العمليات العسكرية والتنظيم والقصف الجوي الجزء الأعظم من البنى التحتية للمدينة من مستشفيات وجسور وطرق ودوائر الدولة الخدمية والأسواق وأكثر من 15 ألف منزل في المدينة.
وكان المتحدث باسم وزارة الصحة الدكتور سيف البدر قد أكد في حديث سابق لـ”نون بوست” أن 18 مستشفى في المدينة دمر كليًا وجزئيًا إضافة إلى عشرات المراكز الصحية و6 مراكز طبية تخصصية لأمراض القلب والسرطان والسكري والكلى والثلاسيميا وغيرها.
وبعد مرور 3 سنوات على تحرير المدينة وعودتها إلى كنف الحكومة الاتحادية، لا تزال أوضاع المستشفيات على حالها، إذ لم يعاد إعمار إلا جزء بسيط من المستشفيات التي تضررت جزئيًا مثل مستشفى الخنساء وابن الأثير للأطفال، واستعيض عن بقية المستشفيات بأخرى كرفانية مؤقتة كانت تبرعًا من بعض المنظمات الدولية.
من جانب آخر، لا تزال بقية البنى التحتية على حالها، إذ يقول مدير بلديات نينوى عبد القادر الدخيل إن العمليات العسكرية شهدت تدمير عشرات الجسور والمجسرات الرئيسية والفرعية في محافظة نينوى ومئات الكيلومترات من الطرق، ومنها الجسور الخمس الرئيسة الواصلة بين شطري الموصل الأيمن والأيسر اللذين يفصل بينهما نهر دجلة.
ويضيف الدخيل أن ما تم إعماره من هذه الجسور حتى الآن 2 فقط هما الجسر الحديدي القديم وجسر الحرية الثاني، لافتًا إلى أن الجسور الثلاث الأخرى لا تزال على حالها وعملت الحكومة على الاستعاضة عنها بتجسير حديدي صغير إضافة إلى جسور عائمة على نهر دجلة لا تغطي زحمة المرور في المدينة.
تشير التقديرات الاقتصادية والخسائر التي نجمت عن سقوط الموصل وبقية المدن العراقية إلى أن الحكومة العراقية خسرت ما يقرب من 200 مليار دولار كانت حصيلة الخسائر في البنى التحتية في هذه المدن والسلاح والذخائر التي تركتها القوات الأمنية خلال انسحابها من الموصل وبقية المدن فيما بعد.
وتشير تقديرات المنظمات الدولية إلى أن ما يقرب من 409 آلاف مدني قضوا خلال فترة سيطرة التنظيم على المدينة والعمليات العسكرية التي رافقت عمليات التحرير، وأن كثيرًا من الذين قتلوا أو فقدوا لم يعثر على جثثهم حتى الآن.
تبعات لا تزال قائمة
تعد محافظة نينوى كبرى المحافظات العراقية بتعداد سكان لا يقل عن 4 ملايين نسمة، وكانت تعد الشريان والعصب الاقتصادي لمناطق شمال العراق، إلا أن المعارك والدمار الذي شهدته المحافظة أخرجها من تلك المعادلة.
يقول عضو مجلس محافظة نينوى السابق عبد الرحمن الوكاع إن ما يقرب من 11 ألف منزل في مدينة الموصل وحدها دمر نتيجة الحرب، وغالبية هذه المنازل تقع في جانب الموصل الغربي (الأيمن) وتحديدًا في المدينة القديمة التي شهدت حربًا شعواء استمرت 3 أشهر.
ويضيف الوكاع في حديث سابق لـ”نون بوست” إن مدينة الموصل القديمة التي كانت عصب الحياة الاقتصادية للموصل بما تضمه من أسواق كبيرة ورئيسية للبيع بالجملة والتجزئة دمرت كليًا وخرجت عن الخدمة، ما أدى إلى أن يضاف آلاف الموصليين إلى شريحة العاطلين عن العمل بعد أن فقدوا كل شيء.
تلكؤ حكومي
مع إعلان تحرير المدينة من تنظيم داعش في يوليو/تموز 2017 أعلن رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي في مؤتمره الصحفي الذي أعلن فيه النصر على التنظيم أن عمليات إعادة البناء والإعمار ستبدأ فورًا والموصل ستعود أفضل مما كانت.
هي وعود أطلقها العبادي وحكومته منذ 3 سنوات إلا أنها لم تر النور ولم ير الموصليون حقيقتها على أرض الواقع، فالدمار لا يزال شاخصًا في المدينة ووعود التعويضات تبخرت مع مرور الأشهر والسنوات.
وفي السياق، كشف قائمقام قضاء الموصل في حديثه مؤخرًا لإحدى وسائل الإعلام أنه وعلى الرغم من وجود قرابة الـ30 ألف معاملة تعويض مكتملة لدى لجنة التعويضات المركزية في بغداد للمواطنين المتضررين من تنظيم داعش والعمليات العسكرية، إلا أن 1500 مواطن فقط حصلوا على التعويض الحكومي، ولا يزال البقية بانتظار الأمل الذي قد يساعدهم على تدارك ما حصل معهم.
أما المحلل الاقتصادي محمد الحمداني فيضيف أن المدن المحررة من تنظيم داعش – ومن ضمنها الموصل – لن تشهد أي عمليات إعمار أو بناء في ظل استمرار العملية السياسية العرجاء التي أدت إلى سقوط الموصل، ويعتقد الحمداني أن الموصل بحاجة إلى ما لا يقل عن 10 مليارات دولار حتى تعود إلى ما كانت عليه قبل عام 2014، فالمستشفيات لا تزال مدمرة والجسور كذلك، إضافة إلى مطار الموصل الدولي والبيوت والأسواق التجارية والتعويضات.
هي مأساة ونكبة حلت بالموصليين في مثل هذه الأيام قبل 6 سنوات، غير أن تبعات هذه النكبة لا تزال مستمرة وشاخصة في كل حي في المدينة التي كانت تعرف بأم الربيعين.