تحديات كبيرة فرضتها جائحة فيروس كورونا المستجد على اقتصاد قطاع غزة الذي يعاني أصلًا من أوضاع صعبة ويعمل تحت ضغط تعقيدات وعقبات مختلفة التفاصيل ومتشابكة الأطراف، فرضها عليه الحصار الإسرائيلي الخانق والمتواصل على القطاع منذ ما يربو على 14 عامًا حُرمت بموجبه القطاعات الاقتصادية الغزّية من الكثير من الموارد التجارية والمواد الأساسية للتصنيع والإنتاج، تحت ذرائع وحجج أمنية إسرائيلية وإقليمية وتحوطات وخطط سياسية واقتصادية كان أشدها ضررًا على الاقتصاد الغزي حزمة العقوبات التي فرضها الرئيس الفلسطيني محمود عباس على القطاع منذ أبريل 2017 وشملت خصومات تتراوح بين 40% و50% من رواتب موظفي السلطة وإحالة الآلاف إلى التقاعد المبكر الإجباري وتقليص كمية الكهرباء المخصصة لغزة، وهو ما ضاعف أزمات غزة وزاد من تكلفة الإنتاج والتصنيع، ناهيك بالدمار الهائل الذي لحق بالقطاعات الاقتصادية كافة نتيجة الحروب والعدوان العسكري الإسرائيلي المتكرر على القطاع.
البنك الدولي نشر بتاريخ 1 من يونيو/حزيران 2020 بيانًا صحفيًا جاء فيه أنه “قبل تفشي جائحة فيروس كورونا، كان أكثر من ربع الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر، ومن المتوقع الآن أن ترتفع نسبة الأسر الفقيرة إلى 64% في قطاع غزة، وإلى 30% في الضفة الغربية”، والأكثر إثارة للدهشة – على حد وصف التقرير – هو نسبة معدل البطالة بين الشباب 38%، وهو ما يتجاوز كثيرًا المتوسط السائد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وكان المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان قد ذكر في تقرير له نهاية يناير الماضي “أن نصف سكان القطاع فقراء، فيما يتلقى 4 أشخاص من بين كل 5 مساعدات مالية”، وقد أعلن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن عدد العمال (نساء ورجال) في فلسطين، تجاوز المليون، منهم 261 ألفًا في قطاع غزة، غالبيتهم يعملون مقابل الحد الأدنى للأجور.
في حديث خاص لـ”نون بوست” قال الدكتور محمود صبرة أستاذ الاقتصاد المشارك بجامعة الأزهر: “اقتصاد قطاع غزة والحركة التجارية فيه تعتمد على مجموعة من الموارد المالية والاقتصادية التي من أهمها تحويلات العاملين في الخارج والمساعدات الخارجية القادمة لتمويل المشاريع الإغاثية والإعمار سواء تلك التي تأتي بشكل رسمي عبر المؤسسات الدولية ومنها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الأونروا، أم الدول والحكومات كالمنحة الأميرية القطرية، أم تلك التي تأتي عبر نشاط الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، وكذلك ما تنتجه القطاعات الخاصة المحلية والمشاريع الإنتاجية كالورش والمصانع والمزارع”.
موضحًا أن تحويلات السلطة المالية لقطاع غزة المتمثلة في رواتب موظفيها كانت من أهم الروافد الاقتصادية في القطاع، لكن تأثيرها تراجع بسبب الاستقطاعات العقابية.
وأضاف الدكتور صبرة أن مستوى الدخل المحلي في قطاع غزة متردٍ جدًا ونتج عنه تدني متوسط دخل الفرد، والموارد المالية للقطاع لا تستطيع النهوض بالاقتصاد، وهي بالكاد تستطيع تحريك عجلة الإنتاج وتلبية حاجات المواطن الحياتية اليومية والأساسية اللازمة لاستمرار الحياة في قطاع غزة.
بسبب جائحة كورونا تعطل ما يزيد على 45 ألف عامل في القطاعات الاقتصادية المختلفة عن العمل، وانخفضت إنتاجية غالبية القطاعات
وأصدرت وزارة الداخلية في قطاع غزة بتاريخ 22 من مارس/آذار 2020، أسوة بالخطوات المتخذة في كثير من دول العالم للحد من تفشي فيروس كورونا ومحاصرته، قرارًا حاسمًا يقضي بإغلاق الأسواق الشعبية الأسبوعية وصالات المطاعم والمقاهي وصالات الأفراح والاستراحات والمتنزهات، ومنعت إقامة الحفلات وبيوت العزاء، وكذلك أغلقت المساجد وعلقت الدوام الرسمي لمعظم الوزارات وإغلاق كل مؤسسات التعليم الأساسي والجامعي، وحثت المواطنين على ضرورة التزامهم البيوت وعدم مغادرتها إلا للضرورة.
ما أدى إلى تعطل وتوقف عجلة الإنتاج في مختلف القطاعات التجارية والاقتصادية، وأثر ذلك بشكل سلبي على الدخل اليومي للعامل الفلسطيني، وكذلك على مشاريع الدخل الصغيرة والمؤسسات التجارية والصناعية في القطاع الخاص على حد سواء، وقدرت اللجنة الشعبية الفلسطينية لمواجهة الحصار في بيان لها أن “اقتصاد القطاع تكبد خسائر شهرية تصل إلى نحو 200 مليون دولار بسبب إجراءات مواجهة جائحة فيروس كورونا”.
ماهر الطباع مدير العلاقات العامة والإعلام بغرفة تجارة وصناعة محافظة غزة قال لـ”نون بوست”: “بسبب جائحة كورونا تعطل ما يزيد على 45 ألف عامل في القطاعات الاقتصادية المختلفة عن العمل، وانخفضت إنتاجية غالبية القطاعات الإنتاجية وتوقفت أنشطة قطاعات اقتصادية أخرى بشكل تام، من أهمها القطاع السياحي وشركات السفر وشركات الحج والعمرة والاستيراد والتصدير بسبب إغلاق المعابر والمنافذ التجارية، وقطاع النقل والمواصلات بسبب توقف الجامعات والمدارس والتعليم الخاص ورياض الأطفال بالإضافة إلى قلة حركة المواطنين داخل المدن، وشهدت القطاعات الصناعية وشركات المقاولات وتكنولوجيا المعلومات تراجعًا حادًا”.
وأضاف الطباع أن القدرة الإنتاجية للقطاع التجاري انخفضت بعد كورونا بنسبة تتراوح بين 60 و70% وذلك بسبب انعدام القدرة الشرائية للمواطنين وتوجههم إلى القطاعات الأكثر احتياجًا التي تمثلت في المواد الغذائية ومواد التنظيف والوقاية والمستلزمات الطبية، وتراجعت القطاعات التي لم تعد ذات أهمية للمواطنين في ظل جائحة كورونا التي تمثلت في محلات بيع الملابس والأحذية، مما تسبب بخسائر فادحة لأصحاب المنشآت الاقتصادية دفعهم لتسريح العمال أو خفض ساعات العمل أو الأجور.
سارعت دولة قطر بتقديم مساعدة مالية بلغت 150 مليون دولار لدعم جهود القطاع في مكافحة تفشي الفيروس
على ما يبدو ووفقًا للتطورات الميدانية المستجدة أن الأيام القادمة لن تكون أفضل حالًا من سابقتها ليس على غزة فقط بل وعلى الضفة الغربية، حيث أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتية في لقاء عقده في مكتبه برام الله بتاريخ 9 من يونيو/حزيران 2020 أن الحكومة “لن تكون قادرة على دفع رواتب الموظفين العموميين حتى نهاية شهر يونيو الحاليّ”، وكانت وزارة المالية في حكومة غزة قد كشفت عقب إعلانها صرف رواتب موظفيها بتاريخ 3 من يونيو/حزيران 2020 أنها “وفرت راتب شهر مايو/أيار بعد الاستدانة من البنوك المحلية”.
وتعقيبًا على ذلك قال الدكتور محمود صبرة لـ”نون بوست” أنه يجب على الحكومة الفلسطينية المحافظة على تدفقات الدخل والنقد للمواطنين، سواء من خلال الاستدانة أم من خلال توفير أي شكل من أشكال الموارد، مؤكدًا أنه من الضروري جدًا في ظل الجائحة الانتباه لعملية الإنفاق الحكومي والحفاظ على مستويات الدخل الموجودة لدى الفرد بل والعمل على تحسينها قدر المستطاع وباستخدام كل الوسائل الممكنة، واتخاذ ما يلزم من إجراءات من أجل تحصين وحماية الاقتصاد الفلسطيني في وجه التحديات الجسام التي تواجهه، والحيلولة دون انهيار الاقتصاد بدعم قطاعاته المختلفة وتعزيز صمودها وقدرتها على مقاومة عوامل الانهيار، خاصة أننا نتحدث عن جائحة عالمية لم يتم بعد اكتشاف لقاح لها ومن المتوقع أن تستمر لفترة طويلة.
ومن الجدير بالذكر أنه بعد إعلان وزارة الصحة بقطاع غزة بتاريخ 21 من مارس/آذار 2020 اكتشاف أول حالتين مصابتين بفيروس كورونا بين المحجورين في مراكز الحجر الصحي، سارعت دولة قطر بتقديم مساعدة مالية بلغت 150 مليون دولار، لدعم جهود القطاع في مكافحة تفشي الفيروس، فيما صرفت وزارة العمل مساعدات مالية شملت 35 ألف عامل وعاملة ممن تأثر دخلهم بإجراءات مكافحة جائحة كورونا، وبحسب التقرير اليومي الصادر عن وزارة الصحة في قطاع غزة بتاريخ 8 من يونيو/حزيران 2020 بلغ عدد الحالات المؤكد إصابتها بفيروس كورونا 70 حالة، شُفي منها 41 حالة، بينما 28 حالة نشطة، فيما تم تسجيل حالة وفاة واحدة.