آثار الأزمة الاقتصادية السورية المستمرة بدأت تظهر كارثيتها على الأوضاع في البلاد بمختلف المناطق، إن كانت تحت حكم نظام بشار الأسد أو تحت سيطرة المعارضة أو المناطق التي تحكمها الوحدات الكردية، يعكسها تدهور الليرة السورية إلى أدنى مستوياتها حيث وصل سعر صرف الدولار الواحد إلى 3500 ليرة سورية وهو ما لم يكن يتخيله أيّ سوري بحال.
في مناطق الشمال السوري، حيث يقطن نحو 4 ملايين نسمة جلهم نازحون، بدأ الحديث عن ضرورة إيجاد حلول للتخفيف من الآثار الكارثية لما يحصل من أزمات اقتصادية، خاصة أن هذه المناطق ليست بمنأى عن انتكاسات النظام وأزماته، بل متأثرة بشكل كبير كونها تتعامل بنفس العملة وما زالت بعض المعابر التجارية مفتوحة مع النظام.
علم “نون بوست” من مصدر مطلع رفض كشف هويته أنه جرى في الأيام الأخيرة اجتماع بين مسؤولين من تركيا ومسؤولين في الشمال السوري في معبر باب الهوى الحدودي، حيث ناقش المجتمعون إمكانية طرح العملة التركية في المناطق المحررة واستبدال العملة السورية بها بناء على اقتراح السوريين، إلا أن ذلك لم يقرّ تركيًا بحسب المصدر، خاصةً أن قرارًا من هذا القبيل يحتاج إلى إرادة سياسية من الحكومة التركية والرئاسة، ولكن سُمح بصورة غير رسمية بتداول فئات محددة من الليرة التركية، الأمر الذي ظهر جليًا في الأيام الأخيرة بتداول العملات التركية ذات الفئات الصغيرة.
بدء التداول بالعملة التركية
في هذا السياق، دعت عدّة مجالس محلية في ريف حلب شمالي التجار والأهالي للتعامل بالعملة التركية والدولار عوضًا عن الليرة السورية، وقال بيان للمجلس المحلي في مدينة مارع: “الانهيار المتسارع في قيمة الليرة السورية أمام باقي العملات، وما يحدثه هذا الانهيار من خلل في الاتفاقات المالية، وصعوبة في عملية تداول السلع والخدمات بين المواطنين، هو ما دفعه لدعوة أهالي المدينة وريفها إلى تثبيت أسعار البضائع بالليرة التركية”.
وأكد مدير مؤسسة الحبوب بالمعارضة السورية، حسان محمد، أن تسعير الخبز بالمناطق المحررة سيكون بالليرة التركية، وسيحدد سعر ربطة الخبز بليرة تركية واحدة، مبررًا القرار باستمرار تهاوي سعر صرف الليرة السورية وتباين التسعير اليومي الذي أخذ الشكل الكيفي بين الباعة بالمناطق المحررة، بسبب اختلاف سعر الليرة السورية مقابل الدولار والعملات العالمية، كل ساعة.
كما بدأت مراكز البريد الحكومي التركي (PTT) التي توجد في ريف حلب وهي المناطق التي توجد بها القوات التركية بضخ كميات من العملة التركية، بفئات صغيرة، وذلك بهدف توفيرها بيد المواطنين ومساعدتهم على قضاء حاجياتهم في الأمور التي تتطلب التعامل بالليرة التركية، وتم ضخ العملة في مراكز عفرين وأعزاز والراعي ومارع وجرابلس والباب، وهناك إقبال من الأهالي لاستبدال الفئات الصغيرة بالكبيرة.
هذا التداول أكدّه وزير الاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة، عبد الحكيم المصري، وقال في حديث لـ”نون بوست”، “تم ضخ العملات من الفئات الصغيرة وهي موجودة بمراكز البريد التركي الموجودة شمالي سوريا، وذلك بهدف حماية استقرار المنطقة والحفاظ عليها من انعكاسات أزمات النظام المتتالية”.
الليرة التركية أصبحت ضرورة
وفقًا للوزير المصري فإن الحكومة السورية المؤقتة أجرت بين شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان دراسة لمؤشر أسعار السلع الرئيسية، وبين هذين الشهرين ارتفعت الأسعار بنسبة 43.5% بحسب الليرة السورية، بينما بالعملة التركية لم تتغير قيمة الأسعار وظلت ثابتة، وهو الأمر الذي يدفع باتجاه تداول تلك العملة.
الباحث الاقتصادي خالد تركاوي يرى في حديث لـ”نون بوست” أن “الناس أصبحت مجبرة على التعامل بعملة جديدة”، ويعرّف التركاوي العملة بأنها أداة للتداول وهي مقياس للقيمة، مشيرًا إلى أنه كي تستطيع تحقيق التداول وقياس القيمة فالأمر بحاجة لشيء ثابت يتعارف عليه الناس وتتعامل به، موضحًا “الناس أصبحت مجبرة على استخدام الدولار واليورو والليرة التركية وهي المرجحة”.
يرى الدكتور أسامة قاضي رئيس مجموعة عمل سوريا أن “كل الدول التي مرت بظروف مشابهة من تدهور العملة والتضخم الجامح ومراحل انتقال مهمة في حياتها يلجأ تجارها إلى تسعير المواد بسعرين: العملة الوطنية وعملة دولة المستقرة وعادة ما تكون الدولار”، ويشير القاضي في حديثه لـ”نون بوست” قائلًا: “في الوضع السوري ممكن أن يكون الدولار أو الليرة التركية، لكن بشرط أن يكون إلى جانبها بقاء العملة الوطنية بسبب أنه ما زال هناك مواطنون سوريون يقبضون بالليرة السورية ويتعاملون بهذه العملة”.
يذكر أن العملة التركية ليست حديثة التداول في الشمال السوري، خاصةً أن كثيرًا من رواتب الموظفين في الجمعيات والمنظمات الإنسانية تكون بالليرة التركية، كما أن رواتب مقاتلي الجيش الوطني تكون بالعملة التركية، وهذا ما يزيد من وجودها في السوق ومحلات التجارة والصرافة.
يؤكد خالد تركاوي هذا الكلام بقوله: “العملة التركية متداولة بقوة في الشمال السوري بكثير من المعاملات، وعليه يستبعد أن تقوم أنقرة بشكل رسمي بهذا الأمر لأنها تحتاج إلى قرارات سياسية وفنية وتدخل للبنك المركزي التركي”، ويرى تركاوي أن الإيجابية في تداول العملة التركية هي وجود الاستقرار وأنها تطمئن الناس نسبيًا، بأن العملة لن تفقد قيمتها بين يوم وليلة، ويستطيع الناس الشراء والتداول.
“يجب أن لا نلغي الليرة السورية الآن” هكذا يعتقد أسامة القاضي، الذي يرى أن على التجار في هذه المرحلة “اللجوء إلى تسعير البضائع بسعرين”، ويقول القاضي “ضخ الليرة التركية أمر جيد وإيجابي ويجب أن يكون هناك ضخ حتى في مناطق الإدارة الذاتية والسيطرة الأمريكية سواء ليرة تركية أم دولار وضخ أجزاء العملة لأنه هذه الأجزاء مفيدة لتسهيل عملية التداول، ومثال ذلك العملة المعدنية التركية كلها يجب أن تتوافر”.
كما يقترح القاضي على التجار في مناطق النفوذ الروسي التسعير بالروبل الروسي والليرة السورية، على الرغم من أن الروبل ليس عملة قوية ولكنه أكثر استقرارًا من الليرة السورية، مشيرًا إلى أنه بات واضحًا وجود “انهيار تام بالاقتصاد السوري ولم يعد يوجد شيء اسمه اقتصاد سوري أو إدارة للوضع السوري لذلك يصعب الاعتماد على العملة السورية”.
مشاكل محتملة
لا يستطيع كل من في الشمال المحرر التعامل بالليرة التركية فجأة أو فورًا، خاصةً أن الكثيرين لا يملكون السيولة المالية، وبهذا الصدد يرى خالد تركاوي أن “أهم المشاكل التي ممكن تنتج عن تداول العملة التركية، أنها غير مخصصة لهذا البلد، بمعنى أنك إذا أخذت أدنى ورقة مطبوعة بالليرة التركية وهي فئة الـ5 ليرات وهي ذات قيمة جيدة بالنسبة لليرة السورية، فلن تستطيع التعامل بسهولة في تعاملات البيع والشراء خاصة أن العملات المعدنية صعبة الإدخال بكميات كبيرة، ويمكن أن تكون أكبر المعضلات التي ستواجه العملة التركية في الشمال السوري”.
أسامة القاضي يرى أن السلبيات التي من الممكن أن تواجهها أي حكومة انتقالية قادمة هي “إعادة العملة الوطنية للتداول، ولكن مع الانتقال إلى حكومة ذات كفاءات ولها وجود عالمي وعربي يكون ذلك الأمر غير صعب، ولكنه في نفس الوقت ليس بتلك السهولة، طالما أن العملة متدهورة بهذا الشكل وليس لها أي حامل”.
أما انخفاض وارتفاع العملة يسبب مشكلة وهي أن الناس تفقد ثقتها بتداول العملة، فيصبح هنالك مشكلة تسعير كبيرة، فتتوقف النشاطات الاقتصادية لأن التجار والبائعين لا يستطيعون معرفة تسعير السلع بشكل حقيقي.
يتحجج النظام السوري بأن أزمة الليرة نتيجة لقانون العقوبات الأمريكي “قيصر” الذي سيتم تفعيله قريبًا ويلقي بحمل الأزمة الاقتصادية الكارثية عليه، إلا أن أسامة القاضي يقول: “قانون قيصر لا علاقة له بما يحدث”، مشيرًا إلى أن هذه الأزمات المتلاحقة إنما هي “أزمة داخلية محضة، بين بشار الأسد ورامي مخلوف”، والقانون رقم 3 الذي يمنع تداول غير العملة السورية وهو ما عطل النشاط الاقتصادي في البلاد وهو أكبر مرسوم كارثي حصل بالنسبة للاقتصاد السوري، ومن أهم الأسباب، وغير ذلك من الأسباب هي ثانوية.