على عكس ما يمكن للقارئ أن يتوقعه حول نشاط وحضور المرأة السورية في القرن الماضي، فإن لها تاريخًا يمتد لما قبل الحكم العثماني لسوريا بكثير، إذ تنوعت أشكال الحراك الذي تبنته حينها فكانت صحفية تكتب المقالات وتؤسس الصحف والجرائد وتفتح الصالونات الأدبية لتناقش آراءها وتسمع من حولها، كما طالبت بنيل حقوقها في ساحات العمل والمشاركة السياسية وساعدت حتى في المعارك والتصدي للاحتلال الفرنسي فجهزت الطعام ونقلت الذخائر والوثائق السرية وعملت على مداواة الجرحى من الجنود.
إلا أن النشاط المجتمعي والسياسي الذي يعتبر الركيزة الأقوى، ظل مقتصرًا في بعض جوانبه على الطبقة الأرستقراطية الغنية من بنات العائلات المعروفة بتحررها من قيود المجتمع وامتلاكها المال والسلطة، فنجد أن نتائج مساعيها وجهودها في تحرير المرأة السورية البسيطة وتنويرها في التعليم والحقوق والواجبات لم يتحقق إلا بعد وقت طويل جدًا نتيجة انحساره في بقعة ضيقة وملاحقته من السلطات المختلفة تبعًا لكل فترة، بالإضافة إلى تقلب الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد التي فرضت تبعاتها خمودًا أو فناءً أبديًا للكثير من المشاريع والخطط.
نشاط متنوّع
يرتبط نضال المرأة السورية ارتباطًا وثيقًا بالمقاومة على أرض الواقع ولا يمكن فصله عن شقه الآخر، فهو نشاط كامل المعالم متعلق بوضعها والحقوق التي كانت تنالها أو تُحرم منها في البلاد كالتعليم وفرص العمل والحقوق المدنية، فعلى سبيل المثال أثناء الحكم العثماني تمثل نشاطها في التعليم والمدارس و الصالونات الأدبية للبقاء جنبًا إلى جنب مع نضال الرجال الصامت المتمثل في المحافظة على الهوية واللغة العربية.
فكانت النساء تحرص على تأسيس الجمعيات وإطلاق المجلات وكانت الجهود تصب في نهر واحد مثل مساعي نازك العابد في تأسيس عدة جمعيات منها جمعية لمساعدة ضحايا الثورة السورية الكبرى وهي “نور الفيحاء” التي صدر عنها لاحقًا مجلة مسخّرة للنهوض بالمرأة السورية عام 1920، تلاها تأسيس أول نادي نسائي في الشام ضم نخبة من السيدات المتنوّرات، كما تم تعيين أول امرأة كرئيسة لفرع الصليب الأحمر الدولي في سوريا وهي نازك العابد التي أبعدها والي الشام إلى إسطنبول 1920 ومن ثم إلى الأردن بسبب نشاطها السياسي وكتابتها المقالات والرسائل ضد الحكم العثماني ولم يُسمح لها بالعودة إلا بعد أن تعهدت بعدم المشاركة السياسية.
نازك العابد
عملن أيضًا في بناء جمعيات معنية بتوعية المرأة والأخذ بيدها لأداء دورها في المجتمع، فوجدت جمعية دار كفالة الفتاة لتقديم المساعدة لبنات الشهداء الذين كانوا ضحية العدوان الفرنسي على البرلمان السوري، وجمعية رعاية الجندي وجمعية نقطة الحليب وجمعية النساء القوميات.
أيضًا لا يمكن أثناء الحديث عن النشاط النسوي في سوريا في القرن الماضي إلا أن نستذكر فلك الطرزي، الكاتبة الثورية التي كان همها الأول هدم القناعات الزائفة والتقاليد البالية وبناء المجتمع، كان لها حضورها الاجتماعي والسياسي في الثلاثينيات من القرن العشرين، وطالبت السياسيين أن يعتمدوا على الطبقة الكادحة لأنها أساس المجتمع وركنه المتين.
ما بعد الاستقلال
عمقت التجربة النضالية للمرأة السورية من اتساع اطلاعها على العالم، وساهمت التجمعات النسائية بأشكالها المتنوعة إلى جانب السعي الفردي والجماعي المستمر طوال سنوات الماضية من دفعها للسعي نحو أهدافها الشخصية، مما أدى في نهاية المطاف إلى خروجها من إطار الصالونات الأدبية والجمعيات وبدأت بتسجيل تقدم ليس بالقليل في السياسة ونيل حقوقها المدنية.
فبعد الاستقلال عن فرنسا وعودة المؤسسات والحركات إلى نشاطها استعادت النساء حراكهن فأسسن عام 1943 أول جمعية نسائية ذات طابع سياسي وهي “جمعية نساء العرب القوميات” طالبت حينها بالحقوق السياسية النسائية للمرأة، ثم تبعتها جمعيات أخرى كجمعية رعاية الجند وأسرهم، إضافة إلى جمعيات أخرى كانت تُعنى بنشر الوعي السياسي للمرأة، وقيام الاتحاد النسائي العربي “اتحاد الجمعيات النسائية” في دمشق عام 1944 الذي ترأسته عادلة بيهم الجزائري. وصولًا إلى عام 1948 ونشوء الجمعية النسائية للخدمات الاجتماعية، ترأستها “سامية المدرس” وأيضًا جمعية مواساة لاجئي فلسطين.
أثمرت الجهود نهايةً في حصول النساء على حق الانتخاب والترشح عام 1949 بعد انقلاب حسني الزعيم.
شاركت نخبة من الفتيات السوريات المثقفات ما بين 1943- 1945 في لقاءات كانت تقيمها منظمات نسائية حول العالم حتى وصلن إلى مؤتمر شيكاغو الشهير المعنيّ بتنظيم لقاء سنويّ لنساء رائدات في مجتمعهن بهدف تناقل الخبرات ومناقشة حقوقهم المدنية والسياسية. ويذكر أن نساء سوريا شاركن في السنة الأولى مشاركة حيّة وفي السنة التالية تقدمن بإرسال مجموعة كبيرة من الأعمال اليدوية اللاتي صنعتهن نساء سوريات تم بيعهن في سوق المؤتمر الخيري.
أثمرت الجهود نهايةً في حصول النساء على حق الانتخاب والترشح عام 1949 بعد انقلاب حسني الزعيم، قام حينها بتخفيض سنّ الانتخاب إلى عمر 18 للذكور وأعطى النساء حق الانتخاب. ويعود الفضل بهذا إلى ثريا الحافظ التي كانت واحدة من أولى النساء اللائي وضعن نصب أعينهن حق المشاركة في الانتخابات السياسية على عكس الكثيرات ممن اقتصر نشاطهم على العمل المجتمعي فكانت هي المجتهدة في لفت نظر النساء من حولها دائمًا نحو حق الانتخاب والترشح في كل خطاباتها، إذ كانت خطيبة قوية متميزة ومعروفة بخطبها في المظاهرات النسائية ضد الانتداب الفرنسي. وجهت النساء لممارسة حقهن المشروع في الانتخاب ومن ثم الترشح حتى أنها أوّل إمرأة سورية ترشح نفسها للانتخابات النيابية عام 1953 لكنها لم تنجح بسبب عدم ثقة المجتمع بقدرتها على القيام بدور كهذا.
تضييق رقعة النشاط
يمكننا القول إن النشاط النسائي الحقيقي توقف هنا بالتحديد، لأنه ومع عودة الحياة النيابية إلى سوريا عام 1954 تقلصت مساحة العمل نتيجة عدم منح التراخيص لأي من هذه النشاطات وهو ما تسبب بانقطاع كبير وخمود في المشاركة الثقافية والسياسية، ومنذ انقلاب عام 1966 الذي قاده صلاح جديد جديد مرورًا بانقلاب حافظ الأسد عام 1970 ومن ثم استلام بشار الأسد للحكم عام 2000 كان موقف السلطة من هذه التجمعات أو الحركات بكل أشكال نشاطها إما الحظر أو الاحتواء تحت ظل المراكز الثقافية أو النسائية التي لا تتمتع بأي استقلالية بل تعتبر واحدة من مؤسسات الدولة.
فتم حصر وجودهن فيما يسمى “الاتحاد النسائي” الذي كان منظمة حكومية شكلًا ووظيفةً ومهمته الأولى التصفيق والتهليل لإنجازات السلطة والاطلاع على أي محاولة لنشاط لا يصب في صالح حزب البعث أو يهدد وجوده فلم يقدم أي مساعدة حقيقية على أرض الواقع، ومن الجدير بالذكر أن هذا الاتحاد تم حله عام 2017 بقرار رئاسي، لتحل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل مكانه بكل ما له من حقوق وما عليه من التزامات.
وقد تسبب هذا الاحتكار والتهميش بضرر كبير للحركة النسوية في سوريا وأضاع الكثير من الجهود، إذ منعهن من الانضمام أو مجاراة الحركة النسوية العالمية الثانية التي انطلقت في بداية الستينيات حتى الألفية، لكن هذا التراجع لم يكن في سوريا فقط بل أضرّ بكل الحراك النسوي العربي نتيجة سيطرة الأنظمة الاستبدادية عليها.
كان هناك الكثير من المحاولات المخبّئة لحركات نسائية منذ بداية الألفية متخفيين تحت عباءة الاتحاد النسائي فعملن على إدخال المنظور الجندري لسوريا، حيث اعتبر بالنسبة للحركة النسوية السورية نقلة نوعية من الحديث عن حقوق النساء للانتقال إلى الحديث عن المساواة بين الجنسين أيضًا، ربما أبرز أحداث هذا التقدّم حملة “جنسيتي لي ولأسرتي” عام 2002 التي نظمتها رابطة النساء السوريات المؤسسة عام 1948، إذ طالبوا حينها بتغيير المادة التمييزية في قانون الجنسية. ورغم جمعهن لكل الوثائق والأوراق المطلوبة لتعديل القانون لكن شيئًا لم يحدث، لكنها حفّزت المهتمين لإنشاء جمعيات منها ما استطاع أن يأخذ ترخيصًا ومنها ما عمل دون ترخيص ومنها ما عمل تحت عباءات مختلفة.
كل ما سلف هو مجرّد نظرة قصيرة على تاريخ النشاط النسائي أو الحركة النسوية السورية ربما، إذ يصعب تلخيصها، فالكثير من المساعي التي بقيت مخبئة ساهمت في الوصول إلى ما تم تحقيقه سواء في حق الانتخاب أو الترشح أو حتى في الحملات التي تمت من وراء سلطة حكم حزب البعث. وما زالت الجهود مستمرة حتى اليوم طالما أن المرأة السورية جزء لا يتجزأ من سوريا تطالب بحقوقها في المواطنة والمساواة.