فرضت المرأة نفسها على ساحات العلم المختلفة خلال فترات مختلفة من التاريخ الإسلامي وعُرفت بدورها في مجالات الفقه والأدب والشعر والفلسفة، كما ارتبط اسمها وقتئذ بتأسيس مؤسسات خيرية وتعليمية ودينية، فمنذ السنوات الأولى للإسلام، كان للنساء أدوار حاسمة في مجتمعهن، حيث ساهمن بشكل كبير في بروز الحضارة الإسلامية وتطوير علومها.
ومن الأمثلة على ذلك زبيدة بنت جعفر المنصور التي أنشأت أول مشروع مائي منذ أكثر من ألف ومئتي عام، وبنت أحواض لسقاية الحجيج خلال رحتلهم من بغداد إلى مكة، إضافة إلى ستيتة المحاملي عالمة الجبر البغدادية، وفاطمة الفهرية التي أسست جامع القرويين في المغرب، الذي يُقال إنه أول جامعة في العالم، وغيرهن الكثيرات من اللواتي علا شأنهن وذاع صيتهن في مجالس العلم.
ورغم فرادة تلك الإنجازات وأهميتها، نجد القليل من المعلومات المتوافرة عنها، وفي محاولة لاكتشاف هذا الجزء من التاريخ الإسلامي، نتناول في هذا الموضوع السير الذاتية لمجموعة من النساء اللواتي كان لهن أدوار ملموسة في حقل الطب والمداواة على وجه الخصوص، ومعظمهن ينتمين للعصر الإسلامي الأول – عصر الرسول والصحابة -.
الطب ورائداته المسلمات
بحسب كتاب “النساء ومهنة الطب في المجتمعات الإسلامية”، فإن النساء تخصصن بصفة عامة في 3 مجالات: جراحة الحروب، القبالة وأمراض النساء، والكحالة وأمراض العيون، فهناك 7 طبيبات من 24 طبيبة تخصصن في جراحة الحروب بينما 11 اشتغلن في القبالة وأمراض النساء، واثنتان فقط عملتا في مجال طب العيون، والبقية لم تحدد تخصصاتهن، ولعل أهمها كان المجال الأول، إذ كان يعتمد على النساء بشكل أساسي في إخراج السهام من جرحى الحروب وتطهير الجروح والمحافظة على نظافتها ووقف النزيف وأحيانًا البتر والكي.
وإذا أردنا أن نتصور دورهن بشكل أدق، فقد كانت مسؤولياتهن تتراوح بين الإسعاف المباشر في ميادين القتال بين السهام والخيول إلى نقل الجرحى تجاه الخطوط الخلفية إلى خيم المداواة، ثم نقل الجثث على ظهور الجمال إلى أماكن الدفن، ومن أبرز تلك الشخصيات:
رفيدة الأسلمية.. أول ممرضة في التاريخ الإسلامي
اسمها الكامل رفيدة بنت سعد الأسلمية الخزرجية الأنصارية، تنتمي إلى قبيلة بني أسلم، إحدى قبائل الخزرج في المدينة المنورة. تعلمت حرفة التمريض والتطبيب بمساعدة والدها سعد الأسلمي الذي كان طبيبًا، كرست رفيدة نفسها للتمريض والعناية بالمرضى، فأصبحت معالجةً خبيرةً وبدأت تصاحب النبي محمد ﷺ في غزواته، إذ اعتاد الرسول أن يأمر بنقل الجرحى إلى خيمتها حتى تتمكن من معالجتهم وتضميد جروحهم.
وعندما لم تكن في ميادين القتال لأداء واجبها، كانت تنتظر عودة المنتصرين ومعهم الجرحى إلى المدينة لمداوتهم وتقديم العلاج لهم، مثلما فعلت بعد انتهاء غزوة بدر حيث أسست مستشفى متنقل باسم “خيمة رفيدة”، وكانت تنقل أدواتها فوق ظهور الجمال ثم تقيمها بالقرب من معسكر المسلمين، وبذلك أصبحت “خيمة رفيدة” أول مستشفى ميداني في الإسلام.
تردد اسمها عدة مرات في الوثائق التاريخية وأذكار السابقين، إذ كتب أحمد شوكت في كتابه “تاريخ الطب وآدابه وأعلامه”، أن رفيدة كانت طبيبة متميزة، لذلك اختارها الرسول ﷺ لتؤدي العمل في خيمة متنقلة، كما روى مسلم عن عائشة زوجة الرسول أنها قالت: “أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق، رماه رجل من قريش في الأكحل (كوع اليد أو الوريد المتوسط في اليد) فأمر الرسول رفيدة أن تقيم خيمة في المسجد ليعوده من قريب”.
وقال أيضًا ابن إسحاق في السيرة: “كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد جعل ابن معاذ في خيمة لامرأة من بني أسلم يقال لها رفيدة في مجلسه”، وقال الرسول للقوم حين أصاب السهم ابن معاذ بالخندق “اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب”.
عُرفت رفيدة كممرضة لطيفة ومتعاطفة ومنظمة إلى حد كبير، عملت أيضًا كاختصاصية اجتماعية، للمساعدة في حل المشكلات الاجتماعية المرتبطة بالمرض
وروى البخاري في الأدب المفرد عن محمود بن لبيد قوله: “ولما أصيب أَكْحَلُ سعد يوم الخندق، فقيل حولوه عند امرأة يقال لها رفيدة، وكانت تداوي الجرحى وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا مر به يقول: كيف أمسيت؟ وإذا أصبح قال: كيف أصبحت؟ فيخبره”، سماها ابن سعد كعيبة، فقال كعيبة بنت سعد الأسلمية بايعت بعد الهجرة، وكان لها خيمة بالمسجد تداوي الجرحى، وكان سعد بن معاذ عندها تداوي جرحه حتى مات.
في أوقات السلم والرخاء، دربت وعلمت الكثيرات من الفتيات ونساء الصحابة على فنون الإسعاف والتمريض، وحين أصبحن قادرات على مزاولة المهنة، قسمت فريق الممرضات إلى فريقين: أحدهما يعمل في النهار والآخر في الليل. عُرفت رفيدة كممرضة لطيفة ومتعاطفة ومنظمة إلى حد كبير، عملت أيضًا كاختصاصية اجتماعية، للمساعدة في حل المشكلات الاجتماعية المرتبطة بالمرض، بالإضافة إلى مساعدتها لأطفال المحتاجين ورعاية الأيتام والفقراء.
الشفاء بنت عبد الله.. أول معلمة في الإسلام
كان لدى الشفاء بنت عبد الله حضور قوي في التاريخ الإسلامي، حيث كانت واحدة من النساء الحكيمات في ذلك الوقت، وكانت متعلمة في وقت الأمية، واستغلت علومها ومعارفها في الإدارة العامة والتطبيب، ولم تهمل تعليم غيرها، فكانت أم المؤمنين حفصة بنت عمر إحدى تلميذاتها، وعُرفت لاحقًا بلقب أول معلمة في الإسلام.
اسمها الكامل الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس العدوية القرشية، ولكن اسمها الحقيقي “ليلى” وكانت تكنى بأم سليمان، إلا أنها فضلت تغييره إلى “الشفاء” إشارةً إلى مهنتها كممرضة وطبيبة، واشتهرت آنذاك بمهاراتها في مداواة الأمراض الجلدية، وتحديدًا بـ”رقية النملة”، وهي جروح تصيب الجلد، فأمرها النبي بتدريب النساء الأخريات.
منحها النبي دارًا عند الدكاكين بالمدينة فنزلتها مع ابنها سليمان وأصبحت تلك الدار مركزًا علميًا للنساء، ورغم العلم الذي اكتسبته الشفاء قبل دخولها الإسلام، فإنها لم تمارسه إلا بعد أن عرفت حكم الشرع فيه، فلما سمح لها النبي بممارسة ما تتقن من مهارات خدمت به الناس وعلمت غيرها القراءة والكتابة ومعالجة الأمراض والجروح وصاحبت النبي في غزاوته لتداوي الجرحى.
ركز المؤرخون في أحاديثهم على النساء المشهورات، مما يجعلنا نعتقد أن هناك عددًا أكبر من الطبيبات المسلمات اللاتي لم تُذكر أسماؤهن ولم تصل إلينا بسبب مكانتهن الاجتماعية المتواضعة
إلى جانبهن تنضم أسماء أخرى مثل زينب طبيبة بني أود التي عرفت برائدة طب العيون في الحضارة الإسلامية، فقد اشتهرت بين معاصريها بخبرتها في مداواة آلام العيون وجراحتها، إضافة إلى دور نسيبة بنت الحارث المعروفة أيضًا باسم أم عطية التي صاحبت الرسول في 7 غزوات، وكانت في كل مرة ترعى الجرحى في ساحات المعارك وتزودهم بالماء والطعام والإسعافات الأولية.
وبذلك استفادت المجتمعات الإسلامية من مهارات النساء وقدراتهن المتنوعة في الحيز العام، علمًا بأن غالبية الطبيبات المذكورات في كتب التاريخ كن على علاقة وثيقة بالحكام أو صفوة المجتمع، ما يعني أن المؤرخين ركزوا في أحاديثهم على النساء المشهورات، ما يجعلنا نعتقد أن هناك عددًا أكبر من الطبيبات المسلمات اللاتي لم تُذكر أسماؤهن ولم تصل إلينا بسبب مكانتهن الاجتماعية المتواضعة.