مع انكشاف غمّة المعارك التي كانت تدور رحاها في أحياء من العاصمة الليبية طرابلس ومحيطها، عقب تحريرها وتقهقر مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر بعيدًا، بدأت تتكشف صورٌ أخرى للانتهاكات التي تنتهجها قوات رجل الحرب المخضرم، تظهر حقيقتها وطبيعة عقليتها الانتقامية التي لا تختلف عن أية عصابات إرهابية تحمل أحقادًا وأضغانًا ضد المجتمعات، كداعش، التي رأى حفتر في سلوكها وطريقتها ما يحتذى به، وهو الذي يصم جميع معارضيه ورافضي انقلابه بالإرهاب والتطرف.
إذ ومع فشل حفتر في اجتياح طرابلس بعد سنة من المحاولات اليائسة، عمدت قواته إلى زرع الألغام والعبوات الناسفة في المناطق التي كانت تتمركز فيها قبل أن تنسحب منها، ما له آثار خطيرة ومدمرة على سلامة المدنيين وعودة الحياة الطبيعية إلى تلك الأحياء والمدن.
زرع الألغام
اتبع حفتر الذي تتهم قواته بارتكاب مجازر حرب، أسلوب تنظيم داعش الإرهابي، حيث لجأ إلى تفخيخ المنازل والتجمعات السكانية في المناطق التي اضطرت ميليشياته للانسحاب منها، على وقع هزائمها أمام قوات حكومة الوفاق الوطني في معارك عملية “عاصفة السلام”.
زرع حفتر وقواته آلاف الألغام المضادة للأفراد والآليات في مداخل المنازل والمزارع وعلى الطرقات المؤدية إلى الأحياء السكنية، قبل فرارها من تمركزاتها بالمنازل في محاور صلاح الدين والمشروع وعين زارة جنوبي طرابلس.
الهدف من هذه الخطوة إلحاق الأذى بالسكان العائدين إلى بيوتهم التي سيطرت عليها قوات حفتر منذ بدء الهجوم على العاصمة قبل نحو عام، بعد الخسائر التي تكبدتها قواته جراء تلقيها ضربات قاسية في محاور جنوبي طرابلس، وكل مدن الساحل الغربي وصولًا إلى الحدود مع تونس، إضافة إلى قاعدة “الوطية” الإستراتيجية وبلدتي بدر وتيجي ومدينة الأصابعة.
تعتبر معركة إزالة الألغام وتمشيط المناطق المحررة، أقوى من معركة تحرير جنوب طرابلس من ميليشيات حفتر
سبق أن اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية، ميليشيات خليفة حفتر بزرع ألغام روسية في الضواحي الجنوبية للعاصمة، وقالت المنظمة الحقوقية ومقرها نيويورك: “مجموعة مسلحة ومنتسبون إليها كانوا يقاتلون من أجل السيطرة على العاصمة الليبية طرابلس استخدموا على ما يبدو ألغامًا أرضية مضادة للأفراد وأفخاخًا متفجرة في أواخر مايو/أيار 2020”.
بالتزامن مع ذلك، عبرت “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” عن قلقها بشأن تقارير عن مقتل أو إصابة سكان من أحياء عين زارة وصلاح الدين بطرابلس بعبوات ناسفة يدوية الصنع وُضعت في منازلهم أو بالقرب منها، وأوضحت البعثة، وفق بيان لها، أن هذا التحول البشع والتدهور في النزاع تم بينما كانت هذه الأسر لائذة بمنازلها بحثًا عن الأمان والراحة لقضاء عطلة العيد، ما يدل على أن هذا العمل ما هو إلا استهداف متعمد للمدنيين الأبرياء.
ألغام سوفييتية وروسية الصنع
منذ نهاية شهر مايو/أيار الماضي، تم اكتشاف المئات من الألغام في محيط العاصمة طرابلس، جميعها سوفييتية وروسية الصنع، وتضمنت الألغام طراز “بي أو إم – 2″ (POM-2) و”بي إم إن – 2″ (PMN-2) و”إم أو إن-50” (MON-50) ذي اللون الزيتوني، بعض هذه الألغام لم يتم تسجيلها في السابق بليبيا، ما يعني أنها جديدة.
إلى جانب ذلك، أظهرت صور أخرى نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي ألغامًا مزودة بأسلاك تشغيل وألغامًا تُستخدم كمحفزات لتفجير عبوات متفجرة أكبر، كما أظهرت مقاطع فيديو العديد من العبوات المتفجرة التي تُستخدم في تفخيخ المنازل، منها ألغام مضادة للعربات، مقترنة بأنواع مختلفة من صمامات التفجير ومزيج من أجهزة ضبط الوقت الإلكترونية ولوحات الدوائر الكهربائية والهواتف الخلوية المعدلة.
غرفة العمليات تنبه المواطنيين بعدم العودة او حتى تفقد منازلهم لحين الإعلان رسمي من الغرفة لسلامتهم وسلامة الجميع.
نسأل الله النصر والتمكين pic.twitter.com/ReH0Bbcg8K
— عبدالمالك المدني (@madaNea14) May 29, 2020
يُعرف عن روسيا دعمها الكبير لقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر المتمردة على الشرعية الدولية، حيث زودته بالأسلحة وبمرتزقة فاغنر، بهدف كسب العديد من الامتيازات في المجال الطاقي في ليبيا، فضلًا عن كسب عقود إعادة أعمار المدن الليبية التي دمرتها أسلحتها.
وسبق أن أشار الناطق باسم القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني، العقيد محمد قنونو، إلى أن أسلوب تفخيخ المنازل والطرق الذي استخدمته ميليشيات خليفة حفتر، هو ذات الأسلوب الذي انتهجه تنظيم داعش الإرهابي في سرت، قبل تحريرها عام 2016 في عملية البنيان المرصوص.
مزيد من الضحايا
حصدت هذه الألغام العشرات من الليبيين، وآخر حصيلة لألغام ميليشيات حفتر الانقلابي مقتل 7 أشخاص، حيث خلفت انفجارات ألغام وقعت في أحياء طريق المطار ووادي الربيع وعين زارة 7 قتلى (أربعة مدنيين وثلاثة خبراء في تفكيك متفجرات)، إلى جانب إصابة عشرة آخرين بجروح متفاوتة.
وتحاول فرق هندسية تابعة لقوات حكومة الوفاق الوطني إزالة هذه الألغام، حيث نفذت انتشارًا واسعًا في محاور صلاح الدين والمشروع وخلة الفرجان ومناطق أخرى، بهدف إزالة هذه المخلفات الخطرة، تمهيدًا لعودة السكان، بعد أن أجبرتهم قوات حفتر على الرحيل من هناك.
Aside the consistent reports (which have been there for a while but are more extensive today due #GNA-aligned forces making significant advances), this video released by the Volcano of Wrath media shows IEDs/mine kits & an unknown type of ammo purportedly left by the #LAAF. https://t.co/Eo4y8Aqida pic.twitter.com/ojJ9xF98E1
— Emadeddin Badi (@emad_badi) May 22, 2020
مطلع هذا الأسبوع، حصدت هذه الألغام أرواح نحو 21 مدنيًا ليبيًا، ممن عادوا إلى منازلهم مؤخرًا بمحيط العاصمة طرابلس، حسب إحصائية رسمية، كما حصدت أرواح عدد من من فرق نزع الألغام التابعة لوزارة داخلية حكومة الوفاق، خلال أسبوعين.
لن تكتفي ألغام حفتر ومتفجراته بقتل المدنيين العزل فقط، بل ستمنع عشرات الآلاف من الليبيين من استئناف ممارسة حياتهم بصفة طبيعية
وثقت اللجنة المشتركة لرصد وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان بوزارة العدل؛ مقتل 27 مواطنًا وجرح 40 نتيجة الألغام التي زرعتها مليشيات حفتر في جنوب طرابلس، وأوضحت لجنة الرصد والتوثيق أن عدد الإصابات نتيجة هذه الألغام بلغت إحصائيتها المبدئية حتى الثلاثاء، 67 إصابة، مؤكدة توثيق هذه الأفعال التي تشكل جرائم خطيرة وفق القوانين الوطنية والقانون الدولي الإنساني.
وتعتبر معركة إزالة الألغام وتمشيط المناطق المحررة، أقوى من معركة تحرير جنوب طرابلس من ميليشيات حفتر، فحكومة الوفاق الآن في مهمة صعبة لإزالة مخلفات مرتزقة حفتر في ظل غياب الكفاءة المطلوبة لوحدات إزالة المتفجرات في ليبيا.
معاناة إضافية
ألغام خليفة حفتر من شأنها أن تزيد عبئًا إضافيًا على ليبيا التي تعاني من الألغام غير المنزوعة والذخائر المتروكة والذخائر غير المنفجرة، ويوجد في ليبيا أكبر مخزون في العالم من الأسلحة غير الخاضعة للرقابة، ويُقدر العدد بين 150 ألف طن و200 ألف طن في جميع أنحاء ليبيا، وفق الأمم المتحدة.
هذه الألغام التي لا تفرق بين جندي ومدني، ستشكل تهديدًا جديدًا لليبيين، فبعد أن أزالت الفرق المختصة بالمتفجرات كميات كبيرة من مخلفات الحروب السابقة، أبى حفتر إلا أن يعيد الألغام مجددًا إلى المناطق السكنية.
جُمِعت هذه الأجهزة المحظورة بموجب اتفاقية حظر الألغام واستُخدمت، وفق هيومن رايتس ووتش، بطريقة تهدف إلى تفجيرها بمجرد وجود شخص أو اقترابه منها أو ملامسته إياها، وهي قادرة على إلحاق العجز والإصابة بشخص أو أكثر أو قتلهم.
#Libya– photos of a brand new MON-50 mine discovered by #GNA south of #Tripoli.
Kids, if you ever find one of these, please don’t hold the detonator in the same hand with the cigarette… pic.twitter.com/ewuMDLsrot
— Oded Berkowitz (@Oded121351) May 29, 2020
لن تكتف ألغام حفتر ومتفجراته بقتل المدنيين العزل فقط، بل ستمنع عشرات الآلاف من الليبيين من استئناف ممارسة حياتهم بصفة طبيعية، فمن شأنها أن تحرم الليبيين من مصادر كسب العيش وتغلق الطرقات أمامهم وتمنعهم من التنقل وتمنع الأطفال من مزاولة دراستهم.
هذه الألغام التي تنتهك حقوق المدنيين الأبرياء الذين يجب حمايتهم بموجب القانون الدولي الإنساني، من شأنها أن تعيق العجلة الاقتصادية وتعيق التنمية الاجتماعية وعمليات إعادة الإعمار ما بعد الحرب التي ينتظرها الليبيون منذ وقت طويل وستعيق إيصال الإغاثة الإنسانية للعائلات المعوزة.
نتيجة هذه الألغام التي تركها حفتر خلفه في كل مكان، لن تتمكن آلاف العائلات الليبية التي اضطرت إلى النزوح والذهاب بعيدًا، من العودة إلى منازلها وإعادة بناء حياتها في الفترة الحاليّة، وستتأجل فرحتها إلى موعد لاحق عل الفرق الأمنية تزيل الألغام وتنتهي الكارثة.