تزداد وطأة الأزمة المعيشية على اللبنانيين مع كل يوم يمر من دون إيجاد حل للأزمة المالية الاقتصادية التي تعصف بالبلاد، وقد لامس سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الليرة خلال الساعات والأيام الأخيرة عتبة الخمسة آلاف ليرة للدولار الواحد، أي أكثر من ثلاثة أضعاف ما كانت عليه عشية انتفاضة الـ17 من شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام 2019.
يترافق ذلك مع شح في مادة المازوت بسبب ما يقال عن تهريب المادة إلى سوريا، ما يفاقم من أزمة نقل البضائع وما يعكسه ذلك من ارتفاع أسعار السلع التي ارتفعت أساسًا بمعدل ثلاثة أضعاف ما كانت عليه، وكذلك على التغذية بالتيار الكهربائي للمنازل، ولمن لا يعرف فإن اللبناني مجبر على تأمين الكهرباء لمنزله من مصدرين: مؤسسة كهرباء لبنان وهي شركة عمومية تابعة للدولة، ومن أصحاب المولدات الخاصة، وهي مافيات تتحكم بالتيار الكهربائي وتحتكر التغذية بحسب المناطق والغطاء السياسي لكل منها.
وهذا كله يفاقم أزمة المواطنين الذين لاحظوا خلال الأيام الأخيرة تراجعًا في تغذية مؤسسة كهرباء الدولة والمولدات الخاصة بسبب نقص مادتي الفيول التي تستخدمها الدولة والمازوت الذي يستخدمه أصحاب المولدات، وخلاصة القول من كل ما سبق أن الأزمة المعيشية تضغط بشكل أكبر على اللبنانيين في ظل جائحة كورونا التي حجرتهم في المنازل قرابة شهرين أو أكثر.
لبنان وقانون قيصر
قانون قيصر هو قانون أمريكي أقره الكونغرس بشبه إجماع وينص على فرض عقوبات مالية واقتصادية وغيرها على النظام في سوريا، وعلى داعميه سواء أفراد أم شركات أم مؤسسات أم دول أم أي كيانات أخرى، وذلك على خلفية الجرائم التي ارتكبها النظام في سوريا بحق المعتقلين تحديدًا، فضلًا عن الذين قتلوا بالميدان بالقصف أو البراميل المتفجرة أو السلاح الكيماوي.
وبغض النظر عن الخلفية الحقيقية أو الأخلاقية التي رافقت أو كانت خلف إقرار القانون الأمريكي، فإنه تنفيذه الذي من المفترض أن يبدأ اعتبارًا من الـ17 من يونيو/حزيران الحاليّ، سيترك تداعيات ويخلف نتائج ليست سهلة على الإطلاق، بل يذهب البعض إلى حدود القول إن تنفيذ القانون بشكل صارم سيؤدي إلى تغيير خريطة سوريا، بل ربما المنطقة.
وبالعودة إلى لبنان، فإن هذا البلد سيتأثر حكمًا بشكل كبير بتنفيذ هذا القانون بحق النظام السوري لكثير من الاعتبارات، وهذا يعني أنه سيزيد من حجم الضغط الكبير على كاهل المواطنين اللبنانيين الذين يكتوون أصلًا بنار غلاء الأسعار وفقدان الدولار، ولذلك للاعتبارات التالية:
لبنان ليس له حدود برية إلا مع سوريا وفلسطين المحتلة، وبالتالي فإن إغلاق الحدود مع فلسطين المحتلة بسبب حالة الحرب القائمة، ولو نظريًا بين لبنان وكيان الاحتلال الإسرائيلي، لا يترك للبنان سوى منافذ برية مع سوريا، وتنفيذ قانون قيصر يطال حركة التجارة عبر الأراضي السورية، ما يعني على سبيل المثال لا الحصر، محاصرة التجارة اللبنانية أو البضائع اللبنانية التي يمكن أن تصدر إلى الأردن أو العراق أو الخليج، وهذا بالطبع يفاقم الأزمة الحياتية.
إلى ذلك هناك قسم من الحاجيات اللبنانية التي يتم تأمينها من الأسواق السورية، وهذه أيضًا ستتأثر، والعكس بالنسبة لبعض السلع التي يتم تزويد السوق السورية بها من لبنان، كما أن هناك شركات أو مصارف لبنانية لها فروع بدمشق أو في مدن سورية أخرى، وهذه أيضًا ستتأثر.
ببساطة فإن سوريا تعتبر عمقًا طبيعيًا للبنان، وبالتالي فإن كل بلد يتأثر بشكل كبير بما يجري في البلد الآخر، ولذلك فإن تنفيذ قانون قيصر بشكل صارم وجدي سيكون له تأثير كبير على لبنان، وقد يفاقم من الأزمة الحياتية المعيشية التي يعانيها اللبنانيون.
وفي هذا السياق فقد وضعت وزيرة الدفاع بالحكومة اللبنانية قانون قيصر على طاولة الحكومة طالبة دراسته ونقاشه لاتخاذ الموقف الحكومي المناسب الذي يؤمن مصلحة لبنان.
المفاوضات مع صندوق النقد الدولي
وفي سياق الحديث عن الأزمة فإن الجميع بات يدرك اليوم أن الوضع المالي الكارثي الذي يعاني منه لبنان بات بحاجة إلى تدخل خارجي ومساعدة كبيرة لإنقاذ البلد، وإلا فإن الأمور قد تذهب إلى مزيد من التعقيد والمجهول.
فقد عقد وفد الحكومة اللبنانية، (وبالمناسبة هذا الوفد لا يملك رؤية واحدة للوضع المالي ولخطة الإنقاذ)، سلسلة اجتماعات مع وفد صندوق النقد الدولي طالبًا الاستشارة والمساعدة والتدخل، غير أن ما رشح عن تلك اللقاءات التي تُعقد عبر شبكة الإنترنت والفيديو يفيد أن المفاوضات لم تصل بعد إلى أي نتيجة إيجابية، بل ما زال وفد صندوق النقد يصر على إجراء إصلاحات قانونية وإدارية وسياسية فعلية وجدية من الحكومة اللبنانية، غير أن الحكومة تتجاهل ذلك، وتهرب دائمًا إلى الأمام، وقد كان آخر هذه العمليات التعيينات الإدارية والمالية التي حصلت في آخر اجتماع للحكومة يوم الأربعاء (10/6/2020) التي كانت فاضحة وخاضعة لمنطق المحاصصة والمحسوبية السياسية وليس لمنطق الكفاءة والجدارة، وهذا ما يفاقم الأزمة حتى بات حلها ليس أمرًا سهلًا أو ممكنًا وبسيطًا.
اليوم مع كل يوم يمر من دون الوصول إلى حلول فإن الأزمة تكبر وتتفاقم وتدفع لبنان إلى حضن المطالب التي يشترطها الصندوق، وإن كانت لغاية الآن ليست رسمية أقله بالنسبة لعموم الرأي العام. وعليه فإن الحكومة باتت اليوم مخيرة بين أن تقبل شروط الصندوق وتحصل على التمويل، وهذا يقود إلى فقدان سيادة الدولة على قرارها، (وهي بالمناسبة لا تسيطر على قرارها، بل تخضع لاعتبارات وتوازنات كثيرة تطيح جميعها بمبدأ السيادة)، وبين أن ترفض الحكومة أو تماطل وتزيد من حجم المعاناة أو الأزمة، وهذا بالطبع بدوره سيقود إلى ضعف بنيان وكيان الدولة وبالتالي إلى الفوضى وربما المجهول الذي قد يكون على هيئة حرب أهلية.
أمام هذا المشهد القاتم، وأمام هذه الخيارات الضيقة، يبدو أن أوضاع لبنان تذهب في مقبل الأيام إلى مزيد من التعقيد على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية وبما ينذر بإعادة تشكيل النظام أو على أقل تقدير تعديله، سواء من خلال التسويات التي يمكن أن تنشأ بين الأطراف المتصارعة في المنطقة، أم من خلال غلبة طرف على طرف آخر عن طريق الرضوخ والاستسلام أم من خلال الانسحاب من المشهد بشكل كلي.