ترجمة وتحرير نون بوست
باتت العملات النقدية في العصر الحديث تعتبر عملة ثقيلة وناقلة للأمراض، ناهيك عن أن تصنيعها مكلف. ولكن القطع النقدية التي تعود إلى أكثر من 2600 سنة تعكس مختلف الرؤى حول المجتمع البشري من وجهة نظر الدولة التي أصدرتها. وفي الواقع، تكشف العملات النقدية الطريقة التي أراد من خلالها الحكام أن ينظر رعاياهم إلى سياساتهم وهويتهم الوطنية والقيم الاجتماعية التي أرادوا الاحتفاء بها.
كتب الروائي الروسي إيفان تورغينيف في سنة 1861: “تظهر لي الرسوم في لمحة واحدة معلومات يمكن أن تدون في عشر صفحات”. ولا يتضح ذلك بأي وسيلة أخرى باستثناء العملة النقدية، حيث تكون الكلمات محدودة. لطالما نقلت العملات المعدنية رسالة، كما أنها ترتبط بزمان ومكان معينين، وهو أمر مفيد بالنسبة للمؤرخين. وقد شبه المؤرخ هارولد ماتينغلي العملات النقدية الرومانية بـ”صحف اليوم” حيث تكشف عن الأباطرة الجدد، وورثة عروشهم ووثقت الانتصارات والاحتفالات والأعياد والمناسبات المهمة.
عملات الأباطرة
تُقدم العملات النقدية الخاصة بالأباطرة الرومان في الفترة التي عُرفت بعام الأباطرة الأربعة (69 ميلادي) صورًا لرغبة كل إمبراطور في كسب ثقة الشعب. فعلى سبيل المثال، استخدم الإمبراطور فيتليوس عملة رسمت عليها أيادي متشابكة مع نقش يقول “ولاء الجيش” (FIDES EXERCITVVM). ولكن هذه النقوش كانت تُعبر عن طموحاتهم أكثر من كونها تعكس الواقع. وفي نفس السنة، أعلن الإمبراطور أوثو، الذي حكم لمدة 12 أسبوعًا عن فوزه وعن السلام العالمي على العملات المعدنية التي انتشرت خلال فترة حكمه العابرة.
العملة الرومانية، عملة أوثو
يمكن أن تقدم العملات المعدنية التفاصيل التي تفتقر إليها المصادر الأدبية. على سبيل المثال، لا تصور عملة سيسترتيوس البرونزية كبيرة الحجم (وهي تسمية للعملة الرومانية القديمة)، والتي سكها الإمبراطور تيتوس في الفترة الممتدة بين سنتي 80 و81 ميلادي تُظهر بوضوح الشكل الخارجي لمدرج الكولوسيوم، وأيضا تقدم صورة دقيقة للمدارج والمبنى من الداخل. كما تصور العملات المتفرجين والدرج ومنطقة مشاهدة المسرح المخصصة للأباطرة وحتى الآلية الهندسية للسقيفة المخصصة لتوفير الظل.
المدرج الفلافي على عملة تيتوس البرونزية كبيرة الحجم
وتُظهر العملات القديمة أيضا حدة التنافس بين المدن الرومانية، حيث كانت كل مدينة تتطلع إلى الحصول على لقب “نيوكوروس” أو حارس المعبد، حين تنال شرف بناء معبد للإمبراطور وعائلته. وقد كانت مدينة أفسوس أول مدينة نالت هذا اللقب في عهد الإمبراطور نيرون في الفترة الممتدة بين سنتي 54 و68 ميلادي ونُقشت عبارة “نيوكوروس” على عملتها. وفي القرون التي تلت ذلك، تحصلت أكثر من ثلاثين مدينة على اللقب، وتحصلت بعضها على اللقب عدة مرات.
كما كانت العملات وسيلة تخليد الانتصارات العسكرية حيث كانت تنقش على العملات المعدنية القديمة. فقد أدى الرد الروماني الوحشي على الثورة اليهودية في سنة 70 ميلادي إلى تدمير هيكلهم، وقد أصدر الإمبراطور فيسباسيان العديد من القطع النقدية في ذلك الوقت التي تصور هذا الانتصار. كما نسج ابنه تيتوس على نفس المنوال عندما حاصر القدس، حيث وثق ذلك على العملات للمبالغة في تمجيد انتصاره وتأمين تسلسل الخلافة الخاص بسلالته.
اللغة المستخدمة
عادة ما يتم نقش العملات الرومانية التي تم سكها في المقاطعات البعيدة عن روما باليونانية بدلاً من اللاتينية. ورغم تمكن الإمبراطورية الرومانية من السيطرة على البحر الأبيض المتوسط سياسيًا بحلول القرن الأول ميلادي، استمر التأثير الثقافي الهلنستي للإسكندر الأكبر طويلاً حتى بعد انهيار حكمه.
تساعد العناصر اللغوية والثقافية المنقوشة على العملات في فهم المصطلحات المستخدمة في ذلك الوقت. فعلى سبيل المثال، يساعد مصطلح “كتيس” الذي يعني “مؤسس المدينة” المنقوش على العملات على تفسير سبب ترجمة المصطلح في النسخة الإنجليزية من “العهد الجديد” بمعنى الخالق، وذلك بسبب تشابه كلمة “كتيس” مع “كتيزو” (بمعنى إنشاء).
يوضح استخدام المصطلح على العملات المعدنية أن بطرس لم يكن يشير إلى خالق الكون بل إلى مؤسس مدينة وعائلها. وعندما يكتب بطرس إلى المجتمع المسيحي المهمش والناشئ، فهو يسعى إلى تشجيعهم من خلال صورة الإله كمؤسس. وحتى الصور التي تبدو بريئة يمكن أن تكشف عن معنى أعمق. فقد نقشت على عملة بيلاطس البنطي ليهودا صورة معرفة (مبسطة) وقضيب منحني (lituus). كان من المفترض بشكل عام أن هذه الصور تفتقر إلى التمثيل البشري احتراما للحساسيات اليهودية. لكنها في الواقع، كانت رموزًا للديانة الوثنية اليونانية الرومانية وعبادة الأباطرة الرومان. وقد أظهرت هذه الصور ولاء بيلاطس للأيديولوجية الرومانية بدلاً من أي حساسيات يهودية.
استخدم بيلاطس الرمزية على عملة يهودا.
لا تزال العملات متداولة
إن الصور على العملات القديمة قديمة جدًا ولا تزال قيد الاستخدام في العملات الحديثة. فعلى سبيل المثال، لا تزال البومة الأثينية التي عرضت بشكل بارز على عملة “التترادراخما” من القرن الخامس قبل الميلاد تظهر على عملة من فئة واحد يورو الصادرة مؤخرًا. وقد سعت “إسرائيل” الحديثة إلى عكس صرخة حرب الإمبراطور فيسبازيان القديمة من خلال استخدام بديل إيجابي لنقش “احتلال يهودا”. وتتناقض العملة الجديدة مع صورة “احتلال يهودا” من جهة و”إسرائيل ليبراتا” من جهة أخرى.
لا تزال البومة الأثينية تظهر على عملة اليورو اليونانية.
لقد اتخذ المال أشكالاً ونماذج مختلفة عبر التاريخ البشري، ويشمل ذلك النقود المصنوعة في شكل الريش والنقود المصنوعة في شكل قوقعة الودع أو المجرف أو القارب أو السكين. مع ذلك، لم تصمد سوى الأقراص المعدنية الدائرية البسيطة.
حافظت هذه القطع الصغيرة من المعدن المختوم على تفاصيل عن الدين والهوية المجتمعية والأثرية واللغة وقوة الأباطرة لآلاف السنين. قد يجد المؤرخون وعلماء الآثار في المستقبل طرقًا إبداعية لاستخراج البيانات الثقافية من معاملاتنا الرقمية. ولكن في الوقت الحالي، تساعد العملات الحديثة في الحفاظ على التقاليد البشرية للتعبير وتشكيل الهوية الوطنية من خلال العملات التي تصدرها الدولة.
المصدر: ذي كونفرسايشن