قبل أعوام قليلة ما كان يسمع أحد عن الجالية اليهودية في الإمارات، ولا عن نشاطها الذي كان في الغالب رغم ضآلته يكتنفه السرية والمواراة، وقلما كانت تتطرق وسائل الإعلام لتفاصيل بشأن كواليس حياة أعضاء تلك الجالية مقارنة بغيرهم من الجاليات الأخرى التي كانت تتصدر المشهد الإعلامي.
لكن سرعان ما تبدل الموقف خلال السنوات القليلة الماضية، فبات اليهود يمارسون طقوسهم الدينية والعقدية في العلن، بأريحية كاملة، تزامن ذلك مع هرولة أبو ظبي لتعزيز خطى التطبيع مع “إسرائيل” والتقرب من اللوبيات الصهيونية في الولايات المتحدة، هذا بخلاف العلاقة الجيدة التي تربط محمد بن زايد برئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
النقلة النوعية التي شهدتها الجالية اليهودية في الإمارات لا يمكن فصلها عن السياق العام للأحداث خلال الأيام القليلة الماضية، كنشر سفير ابن زايد في واشنطن، يوسف العتيبة، صاحب التسريبات الشهيرة، مقالًا له في صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، بجانب هبوط طائرة إماراتية لأول مرة في مطار بن جوريون قبل أيام، بخلاف مشاركة وزير الخارجية أنور قرقاش في مؤتمر لمنظمة يهودية أمريكية يعقد اليوم الأحد 14 من يونيو 2020، تلك المؤشرات التي تعد في كينونتها امتدادًا فعليًا في سياق التناغم السياسي بين البلدين.
طفرة هائلة في مساحة الحريات الممنوحة لما يقرب من ألفي يهودي يقيمون في الإمارات، وتعبيد تام للطريق أمامهم نحو ممارسة طقوسهم بشكل ربما يفوق ما يمارس في عواصم أوروبا، إن لم نقل داخل دولة “إسرائيل” نفسها، هذا في الوقت الذي تعاني فيه جاليات أخرى من اضطهاد وتنكيل بسبب مواقفها الدينية أو السياسية ليبقى الحديث عن توظيف أبناء زايد للتسامح الديني كمطية لخدمة مخطط التطبيع تساؤلًا في انتظار الإجابة.
دبلوماسية التسامح
في أبريل 2019، أعلنت الإمارات وضع حجر الأساس لأول معبد هندوسي لديها، وهو الأول في منطقة الخليج، الأمر الذي استغلته دولة الاحتلال لتكشف النقاب عن وجود كنيس يهودي في دبي، وذلك بعد أن ظل لسنوات طويلة في إطار السرية، لتدخل الجالية اليهودية هناك مرحلة جديدة من الانفتاح على المجتمع الإماراتي.
تسعى أبو ظبي عبر دبلوماسية التسامح التي تصدرها للخارج إلى تقديم صورة إيجابية عنها كدولة تؤمن بالحريات العقدية وتنأى بنفسها عن أي اتهامات تواجهها بشأن الانتهاكات الحقوقية التي تمارسها، سواء في الداخل أم الخارج، وهي الإستراتيجية التي شحذت لها الدولة كل جهودها لتعزيزها.
“هنا يوجد الأفضل في كل شيء”، هكذا وصف رئيس الجالية اليهودية في الإمارات، سولي وولف، أحوال اليهود خلال حوار أجرته معه “يديعوت أحرونوت“، لافتًا أن حياة اليهود في الإمارة الخليجية كانت تجرى حتى قبل أعوام قليلة تحت غطاء من السرية، لكن سرعان ما تبدل الوضع الآن، مضيفًا “عندما تصل إلى المطار واضعًا التيفلين (صندوق من الجلد يضعه اليهود المتدينون على جباههم) فلا تقلق، فهم الآن يعرفون ما هذا جيدًا”.
الصحيفة العبرية استعرضت على لسان وولف المنح والمزايا التي حصل عليها اليهود في الإمارات مؤخرًا، كأنهم يعيشون في بلدهم “إسرائيل”، على عكس الوضع في السابق، كاشفة أن هناك معبدين و45 طالبًا يدرسون التوراة في البلاد، وخبز المصة (خبز غير مختمر) يمكن إيجاده على الأرفف في كل سوبر اركت استعدادًا لعيد الفصح.
ارتكز الحوار الذي أجري مع رئيس الجالية عن مسائل بعينها، أبرزها مدى شعورهم بالأمن داخل الإمارات، وفي هذا الشأن قال”: “يدرس التوراة هنا عشرات الأطفال، هذا في الحقيقة شيء لا يصدق، عندما ترى معبد وأطفال يغنون أغان يهودية ويصلون في مكان كان يتعين عليك به في الماضي إخفاء هويتك، من المثير رؤية الوضع اليوم”.
شعار التسامح موجه للهندوس والمسيحيين واليهود ولا يشمل المسلمين، وهو أكذوبة كبيرة الهدف منها تمرير أجندات مشبوهة إلى البلاد
وتابع: “الوضع آمن للغاية بالنسبة لنا هنا، نحن لا نختبئ. نشعر بالراحة والحرية في الصلاة والذهاب إلى المعبد وفي كل مكان. لا عداء لنا لا مع الشعب ولا السلطات. الدولة قادتها يهتمون بنا وباحتياجاتنا. أنا هنا منذ 18 عامًا، ولم أشعر أبدًا بالعداء والجميع يعرف أنني يهودي. لدينا جيران بالقرب من المعبد، ولا أحد منهم يكترث بذلك، فهم يتقبلوننا كما نحن”.
واختتم وولف حواره بالتأكيد أن الإمارات باتت من الدول المفضلة لليهود، موضحًا أنه خلال الأشهر الماضية زادت أعداد الجالية بصورة ملحوظة، الأمر الذي ربما يحول أبو ظبي ودبي إلى قبلتين أساسيتين للعمل والسياحة والعبادة معًا لكثير من أبناء اليهود في مختلف دول العالم.
وفي تحقيق صحفي لمراسل الصحيفة العبرية، يانيف حليلي، نقل عن الصحفي اليهودي المقيم في الإمارات “أفراهام” قوله إن دبي باتت الأكثر تسامحًا مع اليهود مقارنة بالعديد من العواصم الأخرى وعلى رأسها باريس، مضيفًا “سلطات دبي تعترف بنا وتتيح لنا حرية العبادة، وقد سنت حزمة من القوانين الصارمة التي تُجرّم اضطهاد أي شخص على خلفية دينية، وتعاقب الجاني بالسجن مدة تتراوح بين سنتين وخمس سنوات فضلًا عن الغرامة المالية الكبيرة”.
وألمح الصحفي اليهودي إلى تغير نظرة كثير من الإماراتيين لليهود والنقلة الكبيرة في رد فعلهم حيال طقوسهم الممارسة، لافتًا إلى أنه في السابق كان يتعرض اليهود لمضايقات حال الاحتفال بأعيادهم على شاطئ دبي، فضلًا عن النظرات العنصرية التي كانوا يواجهونها، أما اليوم فقد تغير الوضع تمامًا، حيث الدعم الكبير والحرية المطلقة في ممارسة الطقوس، إلى الحد الذي كشف فيه أن دبي باتت أفضل حتى من “إسرائيل” حيث “يقحم الناس أنوفهم في أدق تفاصيل شؤون الأجانب”، على وصف أفراهام.
Our blessings for the UAE
دعاء من أجل #الإمارات
Part 1 pic.twitter.com/JudlzkyEnr— Jewish Community of the UAE (@JewishUae) June 1, 2020
تناقض يُسقط الأقنعة
حالة من الترحاب والإشادة قوبلت بها صورة وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، داخل مجسد الشيخ زايد خلال زيارته لأبو ظبي يوليو 2019، تعكس وفق ما عزفت أبواق الإعلام العبري عن مدى التسامح الذي تبديه دولة الإمارات حيال الديانات الأخرى، لافتة إلى أن أبناء زايد يقدمون أروع المثل في هذا الاتجاه.
لكن لم ينخدع كثيرون بشعار التسامح الذي ترفعه الدولة الخليجية، حيث أسقطت الانتهاكات الحقوقية للسلطات الإماراتية في الداخل والخارج تلك المزاعم كافة، لتكشف النقاب عن جرائم بالجملة، بعضها قد يترقي لجرائم ضد الإنسانية، لتؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن نغمة التسامح لا تُطرب إلا آذان اليهود وفقط دون غيرهم لأسباب يعرفها القاصي والداني.
وبينما ينعم اليهود بميزات ومنح غير مسبوقة طيلة إقامتهم في الإمارات يعاني المسلمون من الظلم والانتهاكات، وهو ما يكشفه الشيخ عمار الحديدي الذي عمل إمامًا وخطيبًا بجامع “الكوثر” في العاصمة أبوظبي، وأشار إلى صدمته حين تلقى أمرًا من السلطات الإماراتية بمغادرة البلاد نهاية 2017 بعد إقامته فيها لمدة تزيد على عشرة أعوام.
استدعاء نغمة التطبيع ومحاولة تعميمها عربيًا في مقابل إسداء النصح للحلفاء، سياسة لم تكن بالجديدة على أبناء زايد الذين حرصوا خلال السنوات الأخيرة بجانب السعودية والبحرين وسلطنة عمان على التقارب الشديد مع اللوبي الصهيوني
الحديدي في تصريحات أدلى بها لـ”الخليج الجديد” أوضح أنه فوجئ بإلغاء إقامته دون سبب أو سابق إنذار، موضحًا أن هذا الإجراء جاء نتيجة سؤال وجهه أحد الأشخاص عن اعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة كافرة أم لا، وحين أجاب بما أملاه عليه ضميره ووفق أحكام الشرع، جاء الرد سريعًا من المخابرات الإماراتية التي أخضعت كل أئمة المساجد العاملين في البلاد لهذا الاختبار، ومن ينكر كفر الجماعة يتم إلغاء إقامته وفسح عقده وترحيله فورًا.
واختتم الشيخ حديثه بأن “شعار التسامح موجه للهندوس والمسيحيين واليهود ولا يشمل المسلمين، وهو أكذوبة كبيرة الهدف منها تمرير أجندات مشبوهة إلى البلاد”، مستشهدًا على ذلك بإقرار بعض القوانين التي تفند تلك المزاعم منها ما حدث قبل 3 أعوام، حين أقرت الدولة قانونًا يكرس السيطرة الأمنية على المساجد، وتدشين نظام إلكتروني يخضع جميع المصلين ومرتادي المساجد للمراقبة.
خندق واحد
على صدر النصف الأول من صفحتها الثاني نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، الجمعة الماضية 12 من يونيو 2020، مقالًا مطولًا للسفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، استعرض فيه عمق العلاقات بين بلاده والكيان الإسرائيلي التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة.
المدقق في مقال العتيبي يجد أن ما أبداه من تخوفات بشأن ضم أجزاء من الضفة الغربية لصالح دولة الاحتلال أقرب للنصح منها للتحذير، هذا بخلاف ما أبداه من إعلان الاصطفاف الكامل إلى الرؤية الإسرائيلية المدعومة بالنظرة الأمريكية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وأولويات التطبيع.
الغالبية العظمى من المقال تطرقت وبشكل مباشر إلى ضرورة تعزيز مسار التطبيع بين تل أبيب والعواصم العربية شريطة أن يراجع الكيان المحتل سياسة الاستيطان المتبعة، وهي الإستراتيجية التي يؤيدها بعض الساسة داخل الشارع الإسرائيلي ذاته، كما تدعمها العديد من العواصم الأجنبية كذلك.
UAE Ambassador to the US, Yousef Al Otaiba, explains to @TheNationalUAE why he decided to write in the Israeli press https://t.co/5m1EHHyfdH
— The National (@TheNationalUAE) June 12, 2020
استدعاء نغمة التطبيع ومحاولة تعميمها عربيًا عبر تمريرها على سلم إسداء النصح للحلفاء، سياسة لم تكن بالجديدة على أبناء زايد الذين حرصوا خلال السنوات الأخيرة بجانب السعودية والبحرين وسلطنة عمان على التقارب الشديد مع اللوبي الصهيوني تحقيقًا لأهداف سياسية تتعلق بترسيخ أركان أنظمة الحكم في تلك البلدان حتى ولو على حساب القضية الفلسطينية.
ويبدو أن إستراتيجية السرية التي كانت تلجأ إليها الإمارات حفاظًا على شعرة معاوية فيما يتعلق بإخفاء السير عكس اتجاه القومية المزعومة ودعم القضية الأم عربيًا وإسلاميًا لم تعد مجدية الآن، فاللعب على المكشوف وإعادة هيكلة خريطة التحالفات باتت سمة معلنة في توجهات أبناء زايد الجديدة، فالمصالح والأجندات والنفوذ أبقى وأعظم نفعًا من أي ملفات أخرى، ولو كان ذلك عبر الارتماء في أحضان الكيان المحتل على حساب تاريخ أمة ومستقبل شعب.