“لقد تم تعطيل حسابك لمخالفتك شروط ومعايير استخدام فيسبوك، وقد قمنا بمراجعة هذا القرار وهو غير قابل للاستئناف”.
قد يوحي لك هذا الإشعار للوهلة الأولى بوجود خلل في استخدام حقوق الملكية، أو تحريض على العنف، لكنه في حقيقته أصبح إشعارًا معتادًا بالنسبة لمستخدمي فيسبوك الفلسطينيين، حيث تحول حذف الحسابات والصفحات على العملاق الأزرق إلى سياسة ممنهجة منذ العام 2016 وباتت تثير استغراب الصحافة العالمية والمنظمات الحقوقية حول العالم.
في تقرير للمركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي “حملة”، قال إنه خلال الـ6 أشهر الأولى من عام 2018، أغلق فيسبوك 83 صفحةً و62 حسابًا و16 محتوى فلسطينيًا، وفي العام 2017 تم تسجيل 282 حالة إغلاق لصفحات أو حسابات فلسطينية، كما يقول المركز الفلسطيني للإعلام إن الفيسبوك أغلق ما لا يقل عن 10 صحفات تضم كل واحدة منها مليوني متابع.
وخلال العام 2016، يقول المركز الفلسطيني للتنمية والحريات إن أغلب الصفحات الفلسطينية – بمختلف توجهاتها – تعرضت للحذف أو الحجب: “شبكة الحوار الفلسطيني (PALDF.net)، غزة الآن، شبكة القدس الإخبارية، وكالة شهاب، راديو بيت لحم 2000، راديو الشرق، صفحة مش هيك، رام الله نيوز، الصحفي حذيفة جاموس من أبو ديس، الناشط قسام بدير، الناشط محمد غنام، الصحفي كامل جبيل، الحسابات الإدارية لصفحة القدس، الحسابات الإدارية لوكالة شهاب، الناشط عبد القادر الطيطي، حسين شجاعية، رماح مبارك، أحمد عبد العال، محمد زعانين، عامر أبو عرفة، عبد الرحمن الكحلوت”، حتى حساب منظمة التحرير الفلسطينية “فتح” تعرض للحجب بعد نشر صورة لياسر عرافات حاملًا البندقية! فلماذا يلعب فيسبوك دور الشرطة العسكرية الإسرائيلية؟
رغم إعلان فيسبوك عزمه تتبع ما وصفه بـ”الدعايا الإرهابية”، فإن الإسرائيليين رأوا أنه بطيء في الإجرءات ولا يفعل ما يرضيهم
ضغط كبير.. كبير
في العام 2015، أدى التصعيد الإسرائيلي إلى تصاعد عمليات الطعن والدهس الفلسطينية في الضفة الغربية، ومع حقيقة أن الاحتكاك الإسرائيلي بالفلسطينيين يعني عملية اعتقال أو قتل أو جرح أو استفزاز متعمد لهم، أصبحت عمليات الكر والفر والترصد جزءًا من التفاصيل اليومية في ذلك الجزء من العالم، ولأن 96% من الفلسطينيين يتابعون الأخبار ويتفاعلون معها عبر فيسبوك، انتقلت الحرب مباشرة إلى وسائل التواصل الاجتماعي وهو ما دفع “إسرائيل” للتحرك.
رغم إعلان فيسبوك عزمه تتبع ما وصفه بـ”الدعاية الإرهابية”، فإن الإسرائيليين رأوا أنه بطيء في الإجرءات ولا يفعل ما يرضيهم، “لا يمكنهم الجلوس داخل برجهم العاجي في بالو ألتو والتفرج على الدم ينسكب هنا في القدس”، تقول نيتسانا دارشان لايتنر رئيسة منظمة شورات هادن القانوني الإسرائيلي، التي رفعت لاحقًا دعوى قضائية نيابة عن 30 ألف إسرائيلي في محكمة نيويورك بقيمة مليار دولار ضد فيسبوك بدعوى تقديم الدعم المادي لحماس!
مع زيادة التصعيد، انتقل التحرك إلى الشكل الرسمي، في ذلك العام قالت وزير العدل الإسرائيلية – وهي أكثر السياسيين الإسرائيليين تطرفًا – إيليت شاكيد: “إذا لم يقم فيسبوك بما يلزم فعله والامتثال طوعًا لأوامر الحذف الإسرائيلية، فستقوم “إسرائيل” بسن القوانين التي ترغمه على ذلك وحتى حظره من البلاد”.
ولم ينتظر فيسبوك بالطبع لتحل عليه عقوبة الحظر ولا لعنة معاداة السامية، فامتثل طوعًا وعقد اجتماعًا في 13 من سبتمبر 2016، أثمر عن اتفاقية تعاون بين الحكومة الإسرائيلية وفيسبوك لتبدأ معها رحلة قمع المنشورات الفلسطينية، وفي تصريح آخر – بعد عام ونصف تقريبًا – لصحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، قالت وزيرة العدل إيليت شاكيد، إنهم في الحكومة راضون عن أداء فيسبوك، فما بين فترة عقد الاتفاق وحتى مارس 2018 قدمت “إسرائيل” طلبًا بغلق 12350 حسابًا وصفحةً فلسطينيةً، استجاب فيسبوك لـ95% منها!
تكمن المشكلة الرئيسية في إجراءات فيسبوك اتباعها التعليمات الإسرائيلية دون التحقق أو التأكد حتى من صحة الادعاء، وربما لا يكون ذلك مستغربًا، فالطرف الأقوى هو من يفرض تعريفه للمصطلحات، فما يمكن تسميته عالميًا بقمع حرية الرأي، تسميه “إسرائيل” مكافحة الإرهاب، وما يسمى خطفًا خارج القانون، تسميه “إسرائيل” اعتقالًا إداريًا، وما يسمى جرائم ضد المدنيين، تسميه “إسرائيل” دفاعًا عن النفس!
وهكذا يصبح مجرد الكلام جريمة يحاسب عليها القانون الإسرائيلي ومعضلة حقيقة تواجه الصحافة في تغطيتها، ففي تحقيق لصحيفة الإندبندنت البريطانية تقول: “خلال العام 2016 وحده، تعرض 150 صحفيًا فلسطينيًا للاعتقال بتهمة “التحريض”، وفي كثير من الحالات لا تكون لمشاركاتهم على فيسبوك أي علاقة بالعنف وإنما معارضة لسياسة الحكومة الإسرائيلية ورغم ذلك تُقدم المنشورات على فيسبوك بطريقة النسخ واللصق كدليل إدانة”.
مشكلة الشركات العملاقة وازدواجيتها في التعامل واستغلالها المستخدمين في كل مكان تثير مخاوف حقيقية من سيطرة تلك الشركات لدرجة غير مقبولة وعجز الحكومات نفسها عن مواجهتها
أكثر من ذلك، يقول تقرير لهيومن رايتس ووتش: “الجيش الإسرائيلي يستخدم تعريفات فضفاضة لاعتقال الصحفيين والناشطين بسبب منشوراتهم على فيسبوك”، ويضيف: “لاحق الجيش الإسرائيلي 358 شخصًا بتهمة “التحريض” بين 1 من يوليو/تموز 2014 و30 من يونيو/حزيران 2019، وأدانت المحاكم العسكرية 351 شخصًا منهم أي بنسبة 98%”، كما يقول تحقيق لموقع ميديل إيست آي إن الصحفيين الفلسطينيين باتوا يخشون تغطية أي حدث خوفًا من حجب فيسبوك لمنشوراتهم، “ففي غضون يوم واحد – 4 مايو 2020 -، وجد 50 صحفيًا فلسطينيًا أن حساباتهم على فيسبوك معطلة” يقول التقرير، وينقل عن مراسل محطة إذاعة الحياة في نابلس سامر خويرة: “نشر أي حدث يتعلق بهجمات المستوطنين على المزارعين أو أي اشتباك مع جنود الاحتلال ستتم إزالته مباشرة بدعوى بنود المجتمع”.
بالدخول لبنود معايير المجتمع في فيسبوك، لا يمكن إيجاد أي سبب لحذف منشورات الصحفيين هناك، بل تجد كلامًا إنشائيًا يحوي تعاريف مطاطة منها نبذ العنف والإرهاب والكراهية، هناك مثلًا بند الكرامة “Dignity” وينص على: “جميع الناس متساوون في الكرامة والحقوق، نتوقع أن يحترم الناس كرامة الآخرين ولا يضايقون الآخرين أو يهينوهم”، بند آخر هو بند الأمان “Safety”: “نعمل في فيسبوك على منع تخويف الآخرين أو استبعادهم أو إسكاتهم، ونعمل على جعل المنصة مكانًا آمنًا”.
في هذه الصدد يقول عوديد يارون، محلل الشؤون التكنولوجية في صحيفة هارتس الإسرائيلية: “بعد أن يتم حظر الناس دون أن يعرفوا لماذا، يتلقون بلاغًا أنهم تجاوزا قواعد فيسبوك، راجعوا بنود قواعد المجتمع، إن الأمر يشبه الوصايا العشرة في الدين اليهودي، ولا يعرف أحد متى يتم تفعيلها، هناك مثلًا كلمة شهيد بالعربية، وهي توازي كلمة إرهابي في أمريكا و”إسرائيل”، وبالتالي فهي ضد المعايير”.
على النقيض من ذلك، ورغم الصرامة في تطبيق المعايير على الجانب الفلسطيني، لا يبدو الأمر مماثلًا بالنسبة لمستخدمي فيسبوك في الجانب الإسرائيلي، تورد صحيفة الإنترسبت تقريرًا تقول فيه إنه في العام 2016، طالب 122000 مستخدم إسرائيلي مباشرة بالعنف بكلمات مثل القتل أو الحرق، وكان العرب الهدف الأول منها، ومع هذا يبدو أن فيسبوك يبذل القليل من الجهد للرقابة على أي من ذلك!
إن مشكلة الشركات العملاقة وازدواجيتها في التعامل واستغلالها المستخدمين في كل مكان تثير مخاوف حقيقية من سيطرة تلك الشركات لدرجة غير مقبولة وعجز الحكومات نفسها عن مواجهتها – وهي فلسفة النيوليبرالية التي تضع الحكومات في خدمة الشركات -، فهل يستطيع العالم مثلًا التخلي عن غوغل أو يوتيوب أو فيسبوك أو تويتر؟ وحتى حكومة مثل الولايات المتحدة، حين أرادت معاقبةالقضية الفلس شركة فيسبوك في قضية كامبريدج أناليتكا، بتغريمها 5 مليارات دولار، ماذا حصل بعد ذلك؟ أصول فيسبوك تتخطى قيمتها 70 مليار دولار واستطاعت تعويض المبلغ من أرباح لاحقة.
قد لا تقتصر مشكلة تلك الشركات – في كل القطاعات – على المنطقة بالطبع، فهي مشكلة عالمية، لكنها في منطقة ملتهبة مثل فلسطين، تصل إلى حدود تصفها منظمة هيومن رايتس ووتش أنها سلب لحقوق الإنسان في التعبير عن الرأي، بل ويصل الأمر لفرض الرأي الآخر، فقد حذف فيسبوك 4350 منشورًا فقط لأنها أنكرت وجود الهولوكوست، رغم أنها قضية تاريخية مثل ملايين القضايا التي يختلف البشر بشأنها، لكن الإنكار جريمة يعاقب عليها القانون الإسرائيلي ولذلك حذف فيسبوك المنشور.. يرجى مراجعة بنود المجتمع!