“من سخرية القدر أن أمريكا التي نسقت مع روسيا بكل تفاصيل ما يحصل في سوريا تنصب اليوم نفسها قاضيًا ومحاميًا عن السوريين بكل أنواعهم (المقتول أو المعتقل أو المهجر)”! بهذه الكلمات الموجعة بدأ هيثم المالح الرئيس السابق للمكتب القانوني في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية إفادته لـ”نون بوست” ليضع الحراك السوري السياسي والشعبي في مواجهة مباشرة مع آماله وأحلامه في إطار المقولة الأشهر لـ”شيشون” خطيب روما “إن العدل قضاة وليس شرائع”.
وتطرح عبارة المالح أسئلة حول ما إن كان قانون قيصر أداةً لتحقيق العدالة أم لإدارة النفوذ الأمريكي بأقل التكاليف وبصبغة إنسانية تناسب أناقة القرن الحادي والعشرين!
عن ذلك يجيب الدكتور عماد الدين الرشيد العراب الأبرز لقانون قيصر الأمريكي في إفادته لـ”نون بوست” بقوله: “قانون قيصر ليس من صنعة السوريين ولم يفصل لقضيتهم بل فُصل لقضية واضعيه، وموافقة الكونغرس الأمريكي على القانون كانت لأغراض خاصة بالأمريكان أنفسهم، لذا نلاحظ أن القانون لم يتجه مباشرة لمحاسبة الجاني على جرائمه، بل سعى إلى الضغط على النظام والروس والإيرانيين الذين هم شركاء الأمريكان أنفسهم وحلفاء النظام في ذات الوقت”.
لكن الرشيد يرى أنه لا يمكن إنكار التقاطع السياسي في ملف قيصر بين إرادة السوريين والمساعي الأمريكية، مبينًا ذلك بالقول: “لا نستطيع إنكار أن قانون قيصر يفيد السوريين، فكل شيء يهز الطاغية يصب في الصالح العام للحراك الشعبي السوري”، مشيرًا “كل الفرق التي حملت الملف سابقًا لم تكن تحمل فيه هذا البعد السياسي، لكن اليوم الفائدة من ذلك تكمن في محاصرة الأسد والضغط عليه للانصياع إلى الحل السياسي”.
ما إن عزم الكونغرس الأمريكي الشروع في بدء تطبيق قانون قيصر الأمريكي على النظام السوري ومسانديه ورموزه، بدأ بشار الأسد في تطبيق قانون “مخلوف السوري” انتقامًا من السوريين
ففي ظل هذا الاستعصاء الدولي وتعطل مجلس الأمن والأمم المتحدة، رأى الأمريكان أن قانون قيصر سيكون مخرجًا للأزمة السورية من خلال العمل خارج منظمة الأمم المتحدة المعطلة بسبب الفيتو الروسي والصيني، ويضيف بركات لـ”نون بوست”: “رغم أن القانون اقتصادي من حيث الظاهر، فإن أهدافه سياسية، فهو يعمل بالتوازي ومن خلال الضغط الاقتصادي على إجبار النظام للخضوع للعملية السياسية”.
ويضيف المتحدث نفسه عن ضرورة أن تكون إستراتيجية القانون هو الدفع نحو إجبار النظام لأن يتعامل بجدية مع المسار السياسي، “هذا البعد السياسي من أهم المخرجات المفيدة لقانون قيصر إذا طبق بحذافيره وبالشكل المناسب الذي يضمن للسوريين حقوقهم، بذلك فقط سيضع القانون حدًا للتعطيل السياسي الناتج عن الفيتو وعندها نكون على أبواب تغيير سياسي جذري وحقيقي في سوريا حسب قرارات الأمم المتحدة، وعليه يجب أن يحذو الاتحاد الأوروبي حذو أمريكا في إصدار قانون مماثل لقيصر يسعى إلى فرض عقوبات اقتصادية على المتعاملين مع النظام وأزلامه”.
ومع حصول ملف قيصر على موافقة مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس الأمريكي وإمضائه من جانب الرئيس دونالد ترامب في الشهر الأول من العام الحاليّ 2020، أصبح مشروع قيصر قانونًا ملزمًا لأي إدارة أمريكية، لأنه تحول لجزء أساسي من القانون الأمريكي، وعليه لا يحق لأي رئيس مقبل أن يوقف العقوبات الاقتصادية دون موافقة الكونغرس مرة أخرى حسب خبراء في القانون.
ويستهدف قانون قيصر الذي يدخل حيز التنفيذ في 17 من الشهر الحالي – حسب الخبراء – فرض العقوبات الاقتصادية على أجهزة المخابرات والمصرف المركزي السوري والمؤسسات الحكومية السورية والأجنبية والشخصيات ذات الصلة بالنظام السوري الذين يمولونه وحلفائه الروس والإيرانيين، سواء كان التمويل يتعلق بأنشطتهم العسكرية أم بمساعي إعادة الإعمار وانتهاكات حقوق الإنسان، ولا يشمل القانون أي عقوبات من شأنها أن تؤثر على حياة المدنيين اليومية.
من الواضح أن هذه العصابة بدأت تهرب من الوطن قبل تطبيق أي قانون على النظام، لذا على من يهمه أمر السوريين اليوم الدفع نحو تغيير الواقع السوري والدفع نحو دولة المواطنة
البعد الاجتماعي والاقتصادي
ما إن عزم الكونغرس الأمريكي الشروع في بدء تطبيق قانون “قيصر الأمريكي” على النظام السوري ومسانديه ورموزه، بدأ بشار الأسد في تطبيق قانون “مخلوف السوري” انتقامًا من السوريين الذين ثاروا عليه منذ مطلع عام 2011، إن قانون “مخلوف” إذا صح التعبير ما زال النظام السوري يطبقه منذ استلامه السلطة حتى اللحظات الراهنة التي كثف النظام خلالها تطبيقه كخطوة اقتصادية أخيرة يسعى بواسطتها رأس النظام السياسي إلى استغلال توقيت وفرض قانون قيصر ليُلملم أمواله لتهريبها وإعطائها إلى الضامن والكفيل الدولي!
المفكر السياسي لؤي صافي استنكر خلال إفادته لـ”نون بوست” الأصوات الساعية لـ”إثارة الوطنية السورية” عن طريق الربط بين انهيار الليرة السورية وقانون قيصر الذي يعتبر ما بقي من عصارة الحراك المدني والسياسي السوري الساعي لإيقاف جرائم الأسد ومحاسبته.
هذا وعزا صافي الانهيار المتسارع لليرة السورية قبل تطبيق القانون إلى “فساد النظام وأركانه وتحويل أموالهم إلى خارج سوريا خاصة بعد الصراع الجاري بين آل مخلوف والأسد بغية الهمينة على ما تبقى من الثروة الوطنية”، مشيرًا إلى أن “إدارة ترامب ما زالت مشغولة في مشاكلها الداخلية ولم تطبق إلى الآن أيًا من بنود القانون، لذا فإن انهيار الليرة سببه انهيار المنظومة المالية التي يديرها الأسد ومن حوله، التي تقوم على الغبن والغرر والغصب لا على القوانين الاقتصادية، فالنظام الاقتصادي لعصابة الأسد يقوم على الريع لا الاستثمار في الوطن”.
يضيف صافي: “من الواضح أن هذه العصابة بدأت تهرب من الوطن قبل تطبيق أي قانون على النظام، لذا على من يهمه أمر السوريين اليوم الدفع نحو تغيير الواقع السوري والدفع نحو دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية وإعادة المهجرين من النخب والحرفيين والصناعيين والتجار والمواطنيين من أجل الاجتماع لتحقيق مصلحة واحدة”.
في ذات السياق يعتقد الرشيد أن الأثر السياسي لتطبيق قانون قيصر سيكون في تحريك الحاضنة السياسية للنظام السوري ما يؤدي بدوره إلى تهالكه “الذي نأمل أن يكون سريعًا كي لا يتأثر السوريون به”، ويضيف “لا شك أن المتأثر الأكثر ضررًا اليوم هو الشارع والشعب خاصة إذا طال الحصار لذلك لا بد أن يُأخذ بعين الاعتبار وجوب أن تكون تأثيرات القانون سريعة وفاعلة”.
يضيف ذات المتحدث “رغم أن الجهات الدولية تطمئن السوريين بأنهم لن يتأثروا ولن يؤثر ذلك على الدواء والغذاء، لكن الحقيقة والواقع أن هذا غير منطقي، لأن الشعب لن يأكل طحينًا ولا شعيرًا ولا قمحًا، فصناعة كل هذه المواد الأولية وتحويلها إلى طعام يحتاج إلى طاقة وبترول وسيارات تنقل ومنظومة متكاملة مسؤولة عن الإنتاج، لذلك هذا من شأنه أن يحدث أزمة دوائية وغذائية، لذا على القانون الأخذ بالحسبان بأن تكون ضرباته عاجلة وسريعة وفاعلة.”
في نفس الإطار أعرب عبد المجيد بركات المنسق العام لفريق عمل متابعة قانون قيصر في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية عن خشيته من التأثيرات السلبية لقانون قيصر على النطاق الاجتماعي للسوريين المحكومين بسلطة الأمر الواقع، لكنه أكد لـ “نون بوست” أن هناك استثناءات في القانون على المواد الطبية والغذائية والمساعدات الإنسانية، مشيرًا أن فريقه ناقش مع الإدارة الأمريكية ضرورة تفعيل الاستثناءات بغية التخفيف عن الشعب السوري المحكوم من النظام بسلطة الأمر الواقع.
لم تكن رغبة حاملي الملف إدخال السوريين في هذه الدوامة على الإطلاق، بل كان الهدف إنصاف الضحايا ومحاسبة الجناة
حرية المعتقلين
في إفادته لنون بوست يختم الرشيد قائلًا: “لم تكن رغبة حاملي الملف إدخال السوريين في هذه الدوامة على الإطلاق بل كان الهدف إنصاف الضحايا ومحاسبة الجناة، فهي لا شك قضية جنائية قبل أن تكون قضية سياسية أو اقتصادية، لكن لا شك أنه من الناحية السياسية الشيء المفيد جدًا للسوريين وهو تنحية النظام ورأسه، مع العلم أن الغرض الأساسي للملف كان المحاسبة، من المؤسف جدًا أن يتحول الغرض الأساسي لملف قيصر إلى أضعف الأشياء في الملف”.
هذا ويرى بركات أن قانون قيصر وأهميته تكمن بهدفه الأساسي في حماية المدنيين وأنه يندرج في طيات مواد قانونه الإفراج عن المعتقلين والسماح بدخول البعثات الدولية للكشف عن أوضاع السجون، فالقانون يحمل في طياته الكثير من المواد والنصوص التي تشير إلى أهمية الضغط على النظام سياسيًا والعمل على إيقاف نشاطاته العسكرية من أجل حماية المدنيين والإفراج عن المعتقلين.
خلاصة القول إن قانون قيصر لا يعد خطوة ناجعة وتصب في الصالح السوري إلا إذا تم بالتوازي مع فرض العقوبات الاقتصادية والضغط السياسي إلى الضغط الفوري والسريع على النظام السوري بغية الإفراج عن المعتقلين الذين ما زالوا على قيد الحياة ويعانون في أقبية الأسد، فإنقاذ المعتقل الحي أولى بألف مرة من الثأر القانوني للمعتقل الميت!