تصوير: يحيى نعمة
قد يبدو العنوان صادمًا للوهلة الأولى، خاصة عندما تشاهد صورة مياه نهر العاصي تسير متهادية بين الجبال قرب بلدة دركوش على الحدود السورية التركية، غربي مدينة إدلب في أقصى شمال سوريا، في مشهد يذكرك بكل تلك اللقطات للطبيعة الخلابة حول العالم، على شكل إعلانات موجهة لتشجيع السياح لزيارة المنطقة.
فأول ما يخطر ببال المتابع للشأن السوري – حتى من السوريين أنفسهم – عندما يسمعون اسم “إدلب”، هو الحرب، القصف الوحشي لطيران الجيشين السوري والروسي وآثار الدمار ربما، أو حتى مشهد المقاتلين يتحزمون جعبهم ويحملون سلاحهم في سيارة دفع رباعي متجهة إلى نقطة رباط أو معركة، أو ألوف الخيم المتراصة قرب الشريط الحدودي!
فالمناطق المتبقية من المحافظة خارج سيطرة نظام الأسد والميليشيات الداعمة له، تُعتبَر مع أجزاء من أرياف حلب الغربية والشمالية والشرقية وجيب صغير شمالي محافظة الرقة غير متصل معها، آخر المناطق المحررة في سوريا، التي تضم ملايين من سكان المنطقة والنازحين جراء حملات الاحتلال والتغيير الديمغرافي الشرسة التي قادتها روسيا منذ أواخر عام 2015، دعمًا لنظام الأسد في حربه على الشعب السوري.
مخيم أطمة في إدلب (جزء من تقرير مصور عن المخيمات في الشمال السوري)
إدلب سابقًا
تعتبر محافظة إدلب من أثرى محافظات سوريا بالمواقع الأثرية والمناطق الجبلية ذات الطبيعة الساحرة، ورغم إهمال نظام الأسد للمحافظة عمومًا على مدار عقود في توجيه الإنفاق الحكومي إلى البنى التحتية فيها، فإن طبيعتها سمحت لها باجتذاب نسبة جيدة من السياحة السورية الداخلية، مشجعة عددًا من المستثمرين المحليين لبناء منشآت سياحية في المنطقة، كان يقصدها سكان الشمال السوري للترفيه عن أنفسهم.
موقع بابسقا الأثري شمالي إدلب
أذكر في أثناء دراستي بجامعة حلب 2006-2011 أن “جبل الأربعين” المشرف على بلدة أريحا كان محطة ثابتة في رحلاتنا التي كانت الهيئات الطلابية تنظمها في الجامعة، فضلًا عن عدد من الاستراحات ومدن الألعاب على استراد حلب – اللاذقية ضمن المحافظة.
لكن منذ انطلاق الثورة السورية وتحولها إلى مواجهة مسلحة ضد النظام، وتقطيع مساحة الأرض السورية بين مناطق محررة وأخرى محتلة، بات السفر الوحيد الذي يعرفه أكثر السوريين هو رحلات النزوح، وبقيَت الأمور على هذا الحال أعوامًا طوال، حتى اعتاد السوريون ظروف الحرب نسبيًا! وعادوا في أوقات التهدئة “القليلة” يتحركون باتجاه المناطق السياحية ترويحًا عن النفس.
إدلب اليوم
صباح يوم جمعة صيفي يحزم حمدي (30 عامًا) عدة الشواء، منتظرًا قدوم بعض أصدقائه من أبناء مدينة إدلب، ليمضوا مستقلين سيارة أحدهم باتجاه دركوش غربي المدينة قاطعين 25 كيلومترًا تقريبًا، مختارين منطقة مرتفعة تطل على مسرى النهر ليقضوا يوم عطلتهم فيه.
منطقة جبلية تشرف على نهر العاصي قرب بلدة دركوش في إدلب – يونيو/حزيران 2020
فمنذ دخول اتفاق الهدنة التركي/الروسي مطلع شهر مارس/آذار الماضي حيز التنفيذ، بعد عام تقريبًا من المعارك المستمرة الشرسة التي اجتاحت فيها روسيا المنطقة خرقًا لاتفاق سوتشي، والمناطق التي لم يتم احتلالها أو تهجيرها تعود إلى الحياة تدريجيًا، سامحة لأهلها بنوع من الاستقرار الذي يتضمن قضاء العطل.
فإذا كنت من قاطني إدلب أو ريف حلب الغربي اليوم، وتمتلك سيارة أو ثمن استئجار واحدة ليوم كامل، ستجد أن دركوش وجهة مناسبة جدًا لقضاء يوم العطلة مع عائلتك، وليس بالضرورة أن تتسلق جبلًا كحمدي ورفاقه للابتعاد عن الزحام، بل يمكنك اختيار بقعة على ضفاف نهر العاصي قرب نبع “عين الزرقا” الذي ستجده مكتظًا أيضًا، لكن على هذه الضفة هنا ستتمكن من قضاء يوم هادئ مع عائلتك، وربما السباحة قليلًا دون أن تخشى على أطفالك من الغرق، فمياه النهر هنا ليست عميقة.
مسرى نهر العاصي قرب نبع عين الزرقا في إدلب – يونيو/حزيران 2020
أما إن كنت من محبي السمك وتملك إنفاق مبلغ إضافي فيمكنك دائمًا التوجه إلى مطعم “عين السخنة” في دركوش، الشهير بإعداد ما تشتهيه النفس من أطباق السمك سواء البحري المستورد منها – التي ستكلفك كثيرًا بلا شك – أو السمك المحلي النهري الذي يعرفون كيف يعدونه هناك، ومقابل مبلغ (8 دولارات) أو ما يقابله من الليرة السورية أو التركية يمكنك طلب كيلو من السمك النهري مع مقبلات كاملة (سلطة – حمص – مشاريب، إلخ).
مطعم عين السخنة في دركوش – إدلب
كما يمكنك من هذا المطعم أخذ جولة نهرية جميلة داخل زورق صغير محلي الصنع، في الوقت الذي تستطيع فيه الاطمئنان على أطفالك في ملحق الألعاب الصغير ضمن المطعم نفسه.
جولة في نهر العاصي من مطعم عين السخنة في دركوش – إدلب
ملحق ألعاب الأطفال في مطعم عين السخنة في دركوش – إدلب
أما إن كنت تود الترفيه عن أطفالك بعد عام دراسي صعب، قضوا أغلبه يسمعون دوي الانفجارات ويتابعون معك أخبار تقدم جحافل جيش الاحتلال الروسي واقترابها من مدنهم وبلداتهم وقراهم، أو حتى بعد رحلة نزوج اضطروا فيها للتعايش بمدينة جديدة – إن كنت تملك بعض المال لتنفقه في الإيجارات – فزيارة إلى مدينة ألعاب “الأرض السعيدة” في إدلب ستكون كفيلة برسم الابتسامة التي تحبها على شفاههم، وربما ستقضي أنت نفسك بعض الوقت الجميل هناك مسترجعًا بعض ذكريات الطفولة عن تلك الألعاب.
مدينة ألعاب الأرض السعيدة – إدلب
وبالطبع يمكنك أن ترفع المبلغ الذي يمكن أن تدفعه، فتصطحب العائلة إلى مطعم “ديزني لاند” في مدينة إدلب، الذي يتميز – فضلًا عن كونه مطعمًا – بضمه لعدد متميز من الألعاب الحديثة المناسبة للأطفال وللشباب حتى، سواء الألعاب المعتمدة على الحركة الفيزيائية لأجزائها أم حتى الألعاب المعتمدة كليًا على التكنولوجيا مثل ألعاب الـ4D وغيرها.
مطعم ديزني لاند – إدلب
أما إن كنت من محبي “النرجيلة” وأجوائها التي لا تقتصر على “المعسّل” الجيد و”المعلِّم” الذي يعرف كيف يحضّرها، بل تجاوزها إلى مشهد طبيعي يمتد إليه بصرك بعيدًا، فجبل الأربعين المشرف على بلدة أريحا سيكون بلا شك وجهة مناسبة جدًا لك، في أحد المقاهي المنتشرة على قممه، التي تذكرك دائمًا كيف يمكن لهذه البلاد أن تكون ساحرة، وكيف تستحق كل ما بذل ويبذل لأجلها.
مقهى في جبل الأربعين – إدلب
لكن كل ما سبق مقرون بكونك أحد المحظوظين الذين لم يفقدوا منازلهم وما يملكونه ضمن الحملات العسكرية الشرسة التي شنها النظام وحلفاؤه الروس على المنطقة، وبقدرتك على توفير فائض مالي يمكن أن تصرفه في ترفيه نفسك وعائلتك.
فنحو 1.7 مليون سوري ما زالوا يملأون البساتين والأراضي وبعض المنشآت العامة كالمساجد والمدارس ومراكز الإيواء “المؤقت” في الشمال السوري، وهؤلاء يعيشون أيامهم في الأماكن الطبيعية التي يخرج لها الناس عادة للتنزه، بينما تشكل بالنسبة لهم اليوم منزلهم الذي يسكنون، وفي الوقت الذي يرى القادمون إلى هذه الأماكن نزهةً جمالها، يعرف قاطنوها ضمن المخيمات العشوائية المنتشرة فيها كم يمكن لها أن تكون قاسية، وكيف يمكن لشتائها وقيظها أن يسلبهم أحيانًا فلذات أكبادهم الذين بهم – ولأجلهم – فروا من ديارهم.