في تمام الساعة السابعة مساء ليل الإثنين، الأول من يونيو الحاليّ، وبينما كنت أترجل في الشارع لابتضاع بعض المستلزمات المنزلية قبيل مداهمة وقت الحظر اليومي، هاتفتني زوجتي بنبرات تمزج بين السرعة والتسرع، والقلق والتخوف، وبعد دقيقتين تقريبًا من الحروف غير المفهومة توصلت بعد عناء الاستماع المتقطع إلى أن حارس العقار الذي نقطن فيه أصيب بفيروس كورونا.
الأمر بالنسبة لي كان متوقعًا في ظل الانتشار الكثيف للوباء خلال الأيام الماضية، حتى إن بعض أصدقائي سقطوا ضحية له، بين مصاب ومتوفى، لكن زوجتي نجحت وباقتدار في تصدير حالة الهلع التي بلا شك لم تحتج لوقت طويل لتنتصر بالضربة القاضية، على محاولة اتزاني وهدوئي، في معركة أقل ما يقال عنها إنها من طرف واحد.
توقفت بسيارتي قليلًا لأعيد السيطرة على توازني الذي حطمته المكالمة، وبعد دقائق بسيطة عاودت الاتصال بزوجتي مرة أخرى في محاولة لبث الطمأنينة لنفسها التي أحدث فيها القلق شروخات عدة، وبكلمات بسيطة أخبرتها أن الأمر ليس بالخطورة التي تعتقدها، فكما أخبرتني فإن زوجة الحارس تم احتجازها في المستشفى بعد ثبوت إيجابية تحليلها للفيروس، وبالتبعية فالمخالطون لها من الدرجة الأولى، الزوج والأبناء والجيران، سيخضعون للحجر المنزلي.
لكن الأمر لم يكن كما توقعت وكما هو معتاد وطبيعي في مثل هذه الظروف، إذ أخبرتني أن زوجة الحارس وأبناءه رافضين للحجر وافترشوا مدخل العقار رافضين أي مساعي لإبقائهم في غرفتهم، الأمر الذي بات معه الاحتكاك بهم يوميًا، صباحًا ومساء، مسألة حتمية لا فرار منها.. وهنا كانت الأزمة.
نقاش لا جدوى منه
بعد أقل من 15 دقيقة كنت أمام العقار، وبالفعل المشهد كما وُصف لي تمامًا، الابن الأكبر يجلس منتصفًا ممر الدخول، وبجانبه والدته على الجانب الأيسر فيما لم يتبق لدخول السكان سوى جانب لا يتجاوز عرضه نصف متر على أقصى تقدير.
ناديت على الابن الذي يبلغ من العمر تقريبًا 30 عامًا، وسألته – مع مراعاة مسافة التباعد المناسبة – عن سر جلسته بهذه الطريقة في منتصف الممر، فأجاب بالرد المعتاد “عادي…” وقبل أن يكمل هممت بالاستفسار عن حالة والده الصحية، دون أن أخبره أنني على علم بحقيقتها، فأوضح أنه مريض ومحجوز بالمستشفى بسبب أزمة بالقلب ألمت به.
كانت عيناه تفضحان كذبه بصورة دفعتني لأن أهاجمه بالسؤال: يعني مش مصاب بكورونا؟ وهنا زاغ بصره يمنيًا ويسارًا وكأن الأمر عيب أو مذمة، فأومأ برأسه أي نعم، فقلت له: هل تأكدتم من الإصابة؟ فأجاب بأنه شعر بالألم منذ يومين وذهب إلى المستشفى حيث أثار شكوك الأطباء هناك، ما دفعهم لسحب مسحة له لتحليلها، وبعد 48 ساعة ظهرت النتيجة إيجابية ليتم عزله بالمستشفى لتلقي العلاج.
“الطبيعي إذًا أن يتم عزلكم كذلك بصفتكم المخالطين له، حفاظًا على صحتكم وحياتكم وحياة المقربين منكم” هكذا أكملت حديثي معه بعدما سعيت لطمأنته بأن الأمر عادي ولا يحتاج للقلق، إلا أن الإجابة جاءت صادمة: “يا أستاذ سيبها على ربنا.. اللي مكتوب له حاجة هيشوفها.. إحنا قاعدين هنا واللي عاوزه ربنا هيكون… وبعدين هنروح فين يعني مفيش مكان تاني لينا”.
يجب على الزوجة أن تلزم غرفتها لمدة 14 يومًا، وهي المدة التي حددتها وزارة الصحة للعزل المنزلي للتشافي من الوباء، إلا أن الدموع التي انهمرت من عين الزوجة محت معها كل سبل النقاش
فرضية الأمر الواقع
وبعد الفشل في إقناع الزوجة والابن بخطورة بقائهم على وضعيتهم الحاليّة دون عزل، آثرت الصعود للشقة التي أقيم بها حفاظًا على ما تبقى من الجهد المهدر في النقاش العقيم، غير أنني سمعت أصواتًا عالية بينما أرتاد المصعد، وحين وصلت إلى شقتي اكتشفت أن العقار بأكمله يعقد اجتماعًا للسكان في شقة أحدهم.
وعلى الفور توجهت إليهم للوقوف على الإجراءات المفترض اتخاذها للتعامل مع هذا المستجد الذي من الواضح أنه بات أمرًا واقعًا لا مفر منه، خاصة بعدما تم الاتصال بالمستشفى لتخبرنا بأنه لا يوجد أماكن وفي مثل هذه الحالات على المخالطين الالتزام بالعزل المنزلي، وتباينت النقاشات بين السكان بشأن طريقة التعامل مع زوجة الحارس وأبنائها، وتم تكليف وفد من نساء العقار للتوجه إليها والنقاش معها بهدوء.
في البداية تمحور اللقاء حول مواساة الزوجة والشد من أزرها وطمأنتها بأن الأمور ستكون بخير حال إذا التزم الزوج بالعلاج المطلوب، مع تأكيد أهمية تقوية مناعته بتعزيز العامل النفسي لديه وتشجيعه على الصمود، خاصة أنه يعاني من مرض القلب والكلى.
ثم انتقل الحديث بعد ذلك عن ضرورة حماية سكان العقار خاصة أن بها أطفالًا كثيرين، وعليه يجب على الزوجة أن تلزم غرفتها لمدة 14 يومًا، وهي المدة التي حددتها وزارة الصحة للعزل المنزلي للتشافي من الوباء، إلا أن الدموع التي انهمرت من عين الزوجة محت معها كل سبل النقاش، وبين جدلية التعاطف والخوف تم إنهاء اللقاء مع الزوجة لحين تستطيع الجلوس معهم مرة أخرى بعد أن تتلقى قسطًا من الراحة والهدوء.
أحدث هذا الفيروس الذي لا يُرى بالعين المجردة شروخاته الدامية في جسد التكوين المجتمعي إلى الحد الذي بات فيه الابتعاد عن الأهل والأصدقاء والمعارف غاية ينشدها المتمسكون بالحياة، والتقارب منهم مغامرة محفوفة المخاطر
بين العنصرية والإنسانية
أعادت الوضعية الجديدة خريطة العلاقات الاجتماعية بين السكان وعائلة الحارس، وبعد أن كانت الزوجة دائمة الحضور في شقق السكان إما لقضاء حاجاتهم أو تبادل أطراف الحديث كونهم يتعاملون معها من منطلق أخوي بحت، بات الاقتراب منها مسألة تستوجب الحذر والحيطة.
شعور بالقهر بدأ يتسلل إلى نفس الأسرة المصاب عائلها بالفيروس، ونظراتهم للكبير والصغير، الخارج والداخل، تحمل رسائل العتب والاتهام، أإلى هذا الحد أصبحنا مصدر خوف وعدوى؟ وفي الجهة الأخرى كان السكان ينظرون إليهم على أنهم غير مبالين بحياتهم، بل يتعمدون تعريض صحة أبنائهم للخطر بالبقاء هكذا دون استجابة لمناشداتهم.. نظرات الاتهام باتت متبادلة بين الطرفين.
وانقسم المشهد إلى قسمين: الأول يتعاطف بشدة مع الأبناء والزوجة مع الأخذ بالحيطة في التعامل، حيث تبادل أطراف الحديث بين الحين والآخر، مع تقديم المساعدة قدر الإمكان في محاولة لتعويض غياب رب الأسرة الذي تفيد الأنباء بتدهور حالته يومًا تلو الآخر.
أما القسم الثاني فسيطرت عليه مشاعر القلق والخوف، خاصة بعد سقوط أقارب لديهم بسبب الفيروس، الأمر الذي أخرج ما بهم من عنصرية ضد الأسرة المصابة، وباتت الشكوى المتعددة منهم ومناشدة الجيران ومعارفهم بالتدخل لإبعادهم عن العقار هو شغلهم الشاغل.
ثلاث أسر من السكان رأوا أن الحل الأمثل في ابتعادهم عن العقار والإقامة عند أقارب لهم في محافظات بعيدة عن العاصمة، فيما التزم الباقي أماكنه مع تجنب التعامل مع أبناء الحارس، حتى إلقاء السلام ما عاد له حضور، فهم يتخوفون بوصول الأذى منهم حتى ولو كان بحسن نية.
وتحول مدخل العقار الذي كان ساحة لتبادل النقاش المجتمعي بين أسرة الحارس والسكان وبعض الجيران إلى صحراء جرداء قلما يمر منها خيال ساكن إلا للضرورة القصوى، مع ملازمة المطهرات الكحولية لتطهير المصعد والأبواب التي تلامس بالطبع أيدي أسرة الحارس طيلة الوقت، وهي مشاهد كان يلاحظ إيلامها على نفس الأبناء ووالدتهم.
حالة القلق تخيم على أرجاء العقار، وبين مطرقة التعاطف مع المصابين والشعور بالذنب تجاههم وسندان القلق من نقل العدوى لأبنائهم، يقبع السكان حتى كتابة هذه السطور في انتظار احتمالية الإصابة، في ظل تفشي الوباء بصورة بات من الصعب النجاة منه بشكل نهائي، ليُحدث هذا الفيروس الذي لا يُرى بالعين المجردة شروخاته الدامية في جسد التكوين المجتمعي إلى الحد الذي بات فيه الابتعاد عن الأهل والأصدقاء والمعارف غاية ينشدها المتمسكون بالحياة، والتقارب منهم مغامرة محفوفة المخاطر.