ترجمة وتحرير: نون بوست
لطالما اعتبر التطريز الذي استخدم بكثرة في الأزياء الفلسطينية التقليدية لعقود رمزًا موحدًا للشتات الفلسطيني ما بعد سنة 1948، وهي حقيقة تتضح من رد الفعل تجاه قرار عضوة الكونغرس الأمريكي رشيدة طليب في كانون الثاني/ يناير 2019، بارتداء الثوب (لباس فلسطيني تقليدي) في مراسم تأديتها لليمين في الكونغرس.
في الأسابيع التي سبقت هذا الحدث، نشرت طليب صورة لثوب مطرّز يدويًا على موقع إنستغرام، معلنة أنها سترتديه في مراسم اليمين. بعد أن شعرتُ بالقلق من ردة الفعل المعادية للمسلمين وللعرب التي أثارها منشور طليب، بالإضافة إلى تأثري بفخرها بتراثها الفلسطيني، أطلقت هاشتاغ “#تويت يور ثوب” لتسليط الضوء على شجاعة طليب وإشارتها للهوية الفلسطينية. وفي الوقت الذي أقسمت فيه طليب على القرآن، انتشرت المئات من صور النساء اللواتي يرتدين الثوب واستخدمن الهاشتاغ على تويتر.
على خلفية ذلك، نشرت طليب تغريدة تقول فيها: “أحببت كل النساء الرائعات من جميع أنحاء البلاد والعالم اللواتي شاركن أثوابهن الفلسطينية الرائعة. لقد ألهمْنا الكثيرين. هذه اللحظة التاريخية تخصنا جميعًا”. بالنظر إلى عرض الأزياء الفلسطيني الافتراضي هذا الذي استمر لمدة ثلاثة أيام، تساءل الصحفيون حول أهمية هذا النوع الخاص من الملابس، وتراوحت أسئلتهم بين “ما هو الثوب؟” إلى “ما هو تاريخ التطريز؟”. في آذار/ مارس الماضي، قدم كتاب جديد من تأليف المؤسسة المشاركة ورئيسة مركز التراث الفلسطيني، حنان كرمان مُنير أجوبة لهذه الأسئلة.
يعرض الكتاب أكثر من 500 صورة فوتوغرافية مطبوعة بالألوان، بما في ذلك صور المنسوجات المطرزة من الأزياء التقليدية
يمثل كتاب “الزي الفلسطيني التقليدي: أصوله وتطوره” مجلدا مدهشا يتكون من 560 صفحة، وثقت فيه منيّر – التي أجرت أبحاثا وألقت محاضرات حول فنون النسيج الفلسطينية لأكثر من 20 سنة – بدقة تاريخ الأزياء الفلسطينية وتعقيداتها، خاصة إرث التطريز.
يشبه تصفح هذا المجلد التنزه في متحف، حيث تعرض صفحة تلو الأخرى صورًا زاهية وملونة للأثواب الفلسطينية وأغطية الرأس والمجوهرات – التي يعود بعضها إلى العصور القديمة. من خلال المجلد، يرى القارئ عينات من الأعمال الفنية التي تعود إلى ما قبل ميلاد المسيح التي تصور أنماط الملابس المتميزة في المنطقة، بالإضافة إلى الصور الفوتوغرافية التي تصور أمثلة عتيقة عن التطريز مأخوذة من منسوجات يبلغ عمرها عقودا.
“أسطورة الآخر”
في مقدمة المجلد بقلم حنان عشراوي، تذكر السياسية الفلسطينية والباحثة والناشطة أن الكتاب يمثل دليلا على أن “فلسطين لم تكن أبدًا أرضًا دون شعب”. وفي الواقع، غاصت منيّر بعمق في السجل التاريخي الفلسطيني بهدف إثبات عدم صحة هذه الدعاية بالذات – والتي تسميها عشراوي “أسطورة الآخر”.
اعتبارا من سنة 1200 قبل الميلاد، يمكن ربط أسلوب مميز من التطريز والأنماط والأزياء بالمنطقة الفلسطينية المعروفة آنذاك باسم كنعان. تصور الأعمال الفنية القديمة، من النقوش العاجية إلى البلاط المطلي، كنعانيين يرتدون ملابس متميزة عن الثقافات المجاورة الأخرى، مثل السوريين والنوبيين.
في هذا السياق، توضح منيّر أن الكنعانيين كانوا مشهورين بمنسوجاتهم الفريدة، حيث تقول إن “كنعان” تعني “الأرض الأرجوانية” بسبب الصبغة الأرجوانية الثمينة المرغوبة التي تستخرج من قواقع المريق البحرية التي تستخدم لصبغ الأقمشة.
كانت القبعة في بيت لحم، المعروفة باسم “الشطوة”، شائعة بين النساء النبيلات الأوروبيات.
إن تفصيل الفساتين الفلسطينية يحمل أهمية كبيرة، نظرا لأن “تفصيلة الزي التقليدي تمثل مؤشرا مهما على أصوله التاريخية”. يتألف الرداء الفلسطيني، الذي لم يتغير في شكله لقرون من عدة قطع – قطعة قماش مسطحة أمامية وخلفية وشرائط للحواف، و”قطعة مخصصة للصدر مربعة أو مستطيلة” وأكمام – والتي يمكن أن نلاحظها في ملابس مماثلة في المنطقة خلال القرن الثاني قبل الميلاد.
بعد الحروب الصليبية، تسللت الأنماط المعروفة في فلسطين إلى الأزياء الأوروبية، حيث تصور العديد من الأعمال الفنية عارضات أوروبيات يرتدين ملابس ذات حواف مطرزة أو مزينة بالخط عربي. في أحد الأقسام الرائعة من المجلد، تناقش منيّر تأثير المنطقة الفلسطينية على أغطية الرأس التي ترتديها النساء الأوروبيات في العصور الوسطى. من المؤكد أن “الحنين” أو غطاء الرأس في شكل المخروط يُعد مألوفا بالنسبة لكثير من الناس – كان قبعة مخروطية الشكل يُثبت فيها حجاب شفاف، وغطاء الرأس المفضل لدى نساء الأثرياء.
استوحيت هذه الموضة من الطنطور الشامي بعد الحروب الصليبية. وقد وثقت منيّر في المجلد مصدرًا واحدًا يشير إلى الحنين باسم “غطاء الرأس السوري”. من جهة أخرى، يتمثل نمط أوروبي آخر لأغطية الرأس في غطاء رأس قصير ترتديه النساء، صُمم على شكل طراز تقليدي خاص ببيت لحم. حيال هذا الشأن، توضح منيّر: “يعود غطاء الرأس في بيت لحم الذي يسمى شطوة إلى العصور القديمة”. غالبا ما كانت الشطوة التي صممت في شكل طربوش أو شاشية تزين بعملات معدنية أو أحجار كريمة.
غرز رمزية
في حين أن تتبع الأنماط عبر العصور القديمة والعصور الوسطى رائع، فإن استكشاف منيّر لأنماط ورموز التطريز الفلسطينية مذهل بشكل خاص، لاسيما أنه يساهم في البحث الحالي الذي تجريه. يعد تاريخ تطريز موضوعا يلقى رواجا في الدراسات بسبب الجهود المبذولة في السنوات الأخيرة للحفاظ على الثقافة الفلسطينية في وجه الجهود الاستعمارية لمحوها.
في الواقع، اثنين من أكثر الكتب إثارة للاهتمام حول هذا الموضوع هما كتاب ليلى الخالدي الذي كان بعنوان “فن التطريز الفلسطيني” (1999)، وهو نص يشبه الموسوعة من الزخارف التي تظهر في التطريز الفلسطيني، وكتاب شيلاغ وير وسيرين شهيد “التطريز الفلسطيني” (2007). ووثق الكتابان تاريخ الفن وقدما أمثلة ملونة من المنسوجات المطرزة.
كما أن هناك كتاب ممتاز آخر تحت عنوان “التطريز والشاي”، الذي يضم مذكرات مختلطة وتاريخا ومصنفا من إعداد وفاء غنيم، التي تعد فنانة وباحثة تطريز تعلمت هذه المهارة من قبل والدتها. تقدم غنيم دروسا شعبية وندوات في هذا الشكل الفني في جميع أنحاء الولايات المتحدة، ولكن بشكل خاص في ممر نيويورك – واشنطن العاصمة، تهدف لاستكشاف لغة تطريز.
يضيف كتاب “الأثواب الفلسطينية التقليدية” الكثير من المعلومات إلى هذا المجال بشكل ملحوظ، من خلال توثيق ليس بعض أنماط التطريز الأكثر شيوعا فحسب، بل تتبع وجودها عبر القرون وعبر القارات. حسب منيّر، عادة ما تمر المبادلات التجارية بين العالم العربي وأوروبا عبر إيطاليا، وخاصة البندقية، ويمكن ربط الأنماط الموجودة على الملابس الأوروبية مباشرة بفلسطين.
على سبيل المثال، وقع خياطة النجمة ذات ثمانية أطراف على الملابس الفلسطينية والمنسوجات المنزلية منذ قرون. في هذا السياق، أضافت منيّر: “وقع العثور على نمط النجمة ذات الثمانية أطراف القديمة في كل مكان في الشرق الأوسط، على الحجر والمعادن والأعمال الخشبية وفي العديد من الحرف اليدوية منذ العصور القديمة. ويُذكر أن هذه النجمة، التي لا تزال رمزا شائعا، ظهرت بشكل بارز بلون أحمر على الثوب الذي ارتدته عضوة الكونغرس طليب.
وتعد النجمة بمثابة شكل وقع نسخه وإنتاجه على المنسوجات في أوروبا، حيث وقع الإشارة إليها باسم “نجمة بيت لحم المقدسة”، مما يقدم المزيد من الأدلة على أصولها الثقافية الفلسطينية. تشمل الزخارف الأخرى التي سافرت على نطاق واسع أنماطا مختلفة من الطيور، وخاصة نمط عصفورين يواجهان بعضهما البعض، وحرف “إس”، الذي يُعرف بالعربية “بالعلقة”. وتجدر الإشارة إلى أن العلقة كانت رمزا بارزا نظرا لاستخدامها في شفاء المرضى في الممارسات الطبية القديمة. ولا يزال هذا الشكل مستخدما بشكل شائع على المنسوجات الفلسطينية.
نسيج قديم يظهر نجمة بيت لحم، التي تعد من أقدم الأنماط في فن التطريز الفلسطيني.
بالإضافة إلى ذلك، يقدم القسم الأخير لمحة عن الطرق التي تواصل بها النساء الحديثات تقليد التطريز وكيف أن الكثير من هذه المنتجات يقع إنتاجها الآن من قبل النساء في ورش العمل، في محاولة لإعالة عائلتهن ماليا. واستفادت العديد من المنظمات من الاهتمام الشعبي بالتطريز لتوظيف النساء الفلسطينيات في إنتاج هذه المنسوجات بهدف عرضها للبيع. ويعتبر هذا الفن، الذي يرمز للروابط العائلية، ذلك أن التطريز كان مهارة تنتقل، مثل الثوب نفسه، من الأمهات إلى البنات، وسيلة لكسب النساء قوتهن في فلسطين المحتلة، ومخيمات اللاجئين والمغتربين على نطاق أوسع.
بعد النكبة سنة 1948، أضحى العديد من الفلسطينيين لاجئين، وباعت النساء ثيابهن الثمينة من أجل البقاء على قيد الحياة. وهذه هي الطريقة التي وقع بها شراء العديد من الثياب من قبل هواة جمع الأغراض. من جانب آخر، شرحت منيّر كيف قامت هي وزوجها بجمع مجموعتهما الضخمة من الملابس المطرزة، مشيرة إلى المساهمات التي تلقياها من قبل مدافعين آخرين عن الأعمال الفنية الفلسطينية.
عمل عن حب
كانت الكتب التي وقع إنتاجها بصور ملونة باهظة الثمن للغاية. غير أنه في حالة مجلد منيّر، الذي يبلغ سعره 100 دولار ويحتوي على مئات الصور الملونة، يقول الناشرون إن دوافعهم لم تكن ربحية ولكن تنم عن رغبة منهم في ترسيخ السجلات التاريخية المتاحة حول ثقافة وتاريخ الفلسطينيين. في هذا الصدد، كتب مؤسس دار النشر “إنترلنك” والناشر، ميشيل موشبيك، قائلا: “هذا الكتاب هو عمل من أعمال الحب، كما أننا لا نتوقع أن نغطي تكاليف الإنتاج الخاصة بنا حتى لو قمنا ببيع جميع النسخ المطبوعة بالكامل”.
بهذه الطريقة، يقول موشبيك، إن “الكتاب يعد بمثابة مقاومة سلمية في أفضل حلة لها”. في الواقع، على كل عملية طلب على الكتاب حتى نهاية شهر حزيران/يونيو 2020، ستدفع إنترلنك ثمن شجرة زيتون مزروعة في فلسطين من خلال برنامج الأشجار من أجل الحياة، الذي ترعاه منظمة “زيتون”، وهي منظمة توفر دخلًا مستداما للمزارعين الفلسطينيين.
من جهة أخرى، ترتبط لفتة التضامن بشكل وثيق بمهمة الكتاب نفسه التي تتمثل في الحفاظ على أسلوب حياة وثقافة الشعب الفلسطيني. يعد كتاب “الأثواب الفلسطينية التقليدية” أكثر من مجرد توثيق تاريخي ورمز لأهمية تتبع الثقافة الفلسطينية عبر القرون، فهو مشروع مقاومة في حد ذاته ممتع للأعين. ذلك أن جودة الصور والألوان النابضة بالحياة المستخدمة تجعل من الصعب نسيانه. كما يعد الكتاب، الذي يصعب تركه جانبا، دليلا على جمال المرأة الفلسطينية وبراعتها الفنية، بدء من رام الله إلى الجليل والخليل وصولا إلى غزة.
المصدر: ميدل آيست أي