“سيتمكن السياح من زيارة آيا صوفيا إذا أصبح مسجدًا، مثل المسجد الأزرق في ساحة السلطان أحمد (في إسطنبول)، يجب أن تقرر أمتنا ذلك.. نفذوا دراسة ثم سنقيم كل شيء ونتحدث عنه”، تصريح أدلى به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في اجتماع الجنة التنفيذية التابعة لحزب “العدالة والتنمية” في الـ5 من يونيو الحاليّ، ليحدث زلزالًا ليس على مستوى الشارع التركي فحسب بل تجاوز ذلك إلى العواصم الأوروبية والعربية.
ورغم أن أردوغان طالب بدراسة هذه المسألة بشكل جيد وعدم التسرع في اتخاذ قرار بشأنه – بعدما رأى أن قراءة سورة الفتح في متحف أيا صوفيا جذبت الكثير من الاهتمام من جميع الأطراف، ممن طالبوا بتحويله إلى مسجد، لما في ذلك من رمزية لدى المسلمين – موضحًا أن الأمر يعود في النهاية إلى الشعب التركي كونه صاحب الحق الوحيد في تحديد ذلك، وشدد على أن “موضوع آيا صوفيا موضوع حقوقي، وتوجد مؤسسات تتخذ القرارات وتنفذها”، إلا أن العديد من الانتقادات وجهت له بهذا الشأن.
وفي العاشر من يونيو/ حزيران الجاري، أفشل البرلمان التركي مشروع قانون لتحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، واللافت أن ذلك تم بأصوات حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي صوت بالرفض على المقترح الذي تقدم به “حزب الجيد”، فيما تحفظ نواب حزبي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي الكردي عن التصويت، على أن حزب العدالة التنمية تعهد باتخاذ خطوات باتجاه تحويله إلى مسجد إذا قضى مجلس الدولة (المحكمة العليا) بذلك في قراره المنظر مطلع الشهر المقبل.
كان الرئيس التركي في ذكرى فتح إسطنبول في الـ29 من مايو/أيار الماضي قد قرأ سورة الفتح داخل المتحف، وهو ما أثار إعجاب الكثيرين ممن طالبوا بتحويله إلى مسجد لإقامة الصلاة فيه مجددًا، لكن بين غمضة عين وانتباهتها تحول الأمر إلى قضية رأي عام، تجاوز الحدود الجغرافية للدولة التركية إلى آفاق أوروبا التي رأت مثل هذه التصريحات استفزازًا لمشاعر المسيحين بها.. فما قصة أيا صوفيا؟
خلفية تاريخية
على جدران معلم “أيا صوفيا” تعاقبت العديد من المراحل التاريخية المهمة، التي خلدت اسم هذا المبنى ليصبح مع مرور الوقت أحد أبرز المناطق جذبًا للسائحين، فضلًا عن حالة الجدل التي أثارها بين الحين والآخر، وهو ما يعكس ما يمثله من قيمة تاريخية ومعمارية هائلة.
وعلى أنغام التاريخ عزف هذا المعلم أعذب ألحانه، بدءًا من كونه كاتدرائية بنيت على أنقاض كنسية أقامها الإمبراطور قسطنطين، لتستمر هكذا طيلة 916 عامًا، ثم تنتقل بفضل الفتح الإسلامي على يد السلطان العظيم محمد الفتاح إلى حضن الإسلام لتتحول إلى مسجد عامر بالصلاة وقراءة القرآن وذلك عام 1453، لتبقى على تلك الوضعية قرابة 481 عامًا، إلا أنها ومنذ عام 1935 وحتى الآن باتت متحفًا خالدًا لمدة قدرها 85 عامًا.
تشير الروايات إلى أن من أسباب تحويلها إلى مسجد حاجة المسلمين الفاتحين إلى الصلاة في منطقة تخلو تمامًا من المساجد
وقد مر “أيا صوفيا” بالعديد من المراحل التاريخية وصولًا إلى ما هو عليه الآن، إلا أن الأبرز بينها ثلاث مراحل رئيسية تعكس الرمزية السياسية والدينية لهذا المعلم المهم، المرحلة الأولى: مرحلة التحول من الكنيسة إلى كاتدرائية، ففي النصف الثاني من عام 532 بدأ الإمبراطور أيوستينيانوس الثاني الذي حكم خلال الفترة (527-565) في بناء هذا العلم على أنقاض الكنيسة بعدما تعرضت للاحتراق والهدم أكثر من مرة.
وبالفعل كلف اثنين من أشهر المهندسين المعماريين في هذا الوقت، ميلتوس من إزيدوروس وأثميوس من تراقييس، ببناء هذا الصرح الدينى الضخم وكلاهما من آسيا الصغرى، ليقدما معًا تحفة معمارية كانت محط أنظار الجميع، وقد تكلف هذا البناء حينها قرابة 360 مليون فرنك ذهبي، واستخدم في بنائها 10.000 عامل.
المرحلة الثانية: الفتح الإسلامي وتحويلها إلى مسجد، ففي مايو 1453 حين فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية “إسطنبول حاليًّا” أثار إعجابه معلم أيا صوفيا، الذي صلى في فنائه الخارجي ركعتين شكر لله على الفتح في نفس اليوم الذي دخل فيه المدينة.
وما هي إلا 3 أيام فقط حتى أمر بتحويل الكاتدرائية إلى مسجد، لتقام فيه أول صلاة جمعة في هذا اليوم، بعدما أضيفت لها منبر ومئذنة، بعد استشارة علماء الإفتاء في الدولة العثمانية، وسط ترحيب شديد من المسلمين هناك، ممن رأوا في هذا المشهد إحياءً لأمجاد الرعيل الأول من المسلمين.
وهنا تشير الروايات إلى أن من أسباب تحويلها إلى مسجد حاجة المسلمين الفاتحين إلى الصلاة في منطقة تخلو تمامًا من المساجد، وفي ظل أجواء البرد الشديدة في المدينة المسيحية، والأمطار التي تهطل معظم أوقات العام، ارتأى علماء المسلمين الإفتاء بجواز اعتبارها مسجدًا لأداء الصلاة بها بدلًا من تركها على حالتها المهجورة التي كانت عليها.
المرحلة الثالثة: متحف فني مبهر، فمع بداية عام 1935 حول مصطفى أتاتورك مسجد أيا صوفيا إلى متحف فني، ليصبح في ظل ما يتمتع به من خصائص معمارية فريدة، لوحة تسر الناظرين، حتى بات قلعة سياحية يقصدها الجميع من دول العالم كافة.
وقد صمم المتحف على الطراز البازيليكى المقبب كقمة معمارية بيزنطية، امتزج فيها مع الفن العثماني ذي الألوان الانسيابية التي حولته إلى مقطوعة موسيقية عذبة الألحان، وهو يأخذ الشكل المستطيلي، فطوله يبلغ 76 مترًا من الشرق إلى الغرب و72 مترًا من الشمال إلى الجنوب.
وفي وسط المبنى تقع القبة الكبرى التي تعد أبرز ملامح المتحف، وتبعد عن الأرض بين 60 و55 مترًا، فيما تبلغ أبعاد أقطارها 87 و30 مترًا بين الشرق والغرب، و87 و31 مترًا بين الجنوب والشمال، وتغطي مساحة أرضية تعادل 700 متر مربع بأضلاع 70 ـ 100 متر.
تعددت أنواع الأحجار المستخدمة في بناء الجدران والحوائط، ما بين البازلت والجرانيت، أما القبة فترتكز على أربعة أعمدة جرانيتية ضخمة ومستديرة، يبلغ قطرها نحو 3 أمتار عالية الارتفاع، وللمتحف باب كبير جهة الغرب، يتبعه ممر طويل قبيل الوصول إلى الصحن الداخلي.
تتصاعد المطالب الشعبية بتحويل أيا صوفيا إلى مسجد لإقامة الصلاة والشعائر الدينية
جدل داخلي
أثار حديث أردوغان جدلًا كبيرًا داخل الشارع التركي، حيث انقسم المشهد إلى قسمين، الأول: مؤيد تمامًا وداعم لهذه الخطوة رغم أنها في طور الدراسة ولم تخرج للنور بعد، ويمثل هذا التيار العديد من الأحزاب مثل: السعادة والرفاه الجديد والاتحاد الكبير.
وفي الجهة المقابلة، حذرت بعض الأحزاب الأخرى من هذه الخطوة التي وصفتها بأنها “مناورة” غير محسوبة العواقب من جانب حزب الأغلبية، العدالة والتنمية، لتعويض خسارته في الانتخابات البلدية التي جرت مؤخرًا، ويأتي في مقدمة تلك الأحزاب: الشعب الجمهوري والجيد والمستقبل.
ومنذ مايو 2014 تتصاعد المطالب الشعبية بتحويل أيا صوفيا إلى مسجد لإقامة الصلاة والشعائر الدينية، حيث نظمت جمعية تسمى “شباب الأناضول” فعالية لصلاة الفجر في ساحة المتحف، ذاكرة أنها جمعت قرابة 15 مليون توقيع من الشعب التركي للمطالبة بإعادة المتحف إلى مسجد مرة أخرى، وهي المطالب التي علقت عليها الحكومة وقتها بأنه لا نية لتغيير الوضع الحاليّ للمعلم التاريخي الكبير.
ما وجه اعتراض أوروبا؟
المثير للاستغراب أن تصريحات أردوغان أثارت سخط بعض العواصم الأوروبية وفي مقدمتها اليونان، بدعوى استفزاز تلك التصريحات لمشاعر مسيحيي أوروبا، ولم تكن هذه المرة الأولى التي تتصدر فيها أثينا قائمة المنتقدين للموقف التركي، ففي كل عام في هذا التوقيت، ذكرى فتح إسطنبول، ينبري الإعلام اليوناني للهجوم على أنقرة، وهو الهجوم المعروف دوافعه السياسية في المقام الأول.
بعض الأصوات المعترضة على موقف أنقرة ترى أن تلاوة القرآن داخل أيا صوفيا والحديث عن تحويله لمسجد مرة أخرى يعد خرقًا لاتفاقية اليونسكو لحماية التراث الثقافي، وهو الاتهام الذي علق عليه وزير العدل التركي عبد الحميد غل، بأن مسألة صرح “آيا صوفيا” خاضعة لسيادة الجمهورية التركية.
حالة من الترقب تخيم على الشارع الأوروبي قبل التركي في انتظار قرار المحكمة الذي سيصدر في الـ2 من يوليو/تموز القادم
جدير بالذكر أن متحف آيا صوفيا والمنطقة المحيطة به تخضع وفق الأوراق الثبوتية لملكية الدولة التركية، حيث اشتراها السلطان الفاتح من مالكيها ولم يأخذها عنوة، علمًا بأنه لم يسدد ثمنها من بيت مال المسلمين، إنما من حر ماله الذي قدمه للرهبان الأرثوذكس وهو ما يفند ادعاءات أثينا، وما زال صك ملكية المسجد الذي يملكه “وقف أبو الفتح للسلطان محمد” مسجلًا بشكل رسمي لدى دائرة الطابو التركية.
العديد من استطلاعات الرأي تذهب في اتجاه رغبة شعبية جارفة في تحويل المتحف إلى مسجد، بما له – كما ذكرنا سابقًا – من رمزية كبيرة لاستنهاض حضارة المسلمين، مستندين في ذلك إلى قرار مجلس الدولة الصادر عام 2019 الخاص بإعادة مسجد “كاريا” للعبادة مرة أخرى.
وتتشابه وضعية “كاريا” مع “أيا صوفيا” حيث تم تحويله إلى متحف عام 1945 بعدما كان مسجدًا منذ عام 1511، إلا أن حيثيات حكم مجلس الدولة تضمنت أنه “لا يمكن تحويل دور العبادة إلى أغراض أخرى” وهي القرينة التي من الممكن أن تكون تمهيدًا لعودة عشرات المساجد التي تحولت إلى متاحف ومخازن في عهد أتاتورك.
حالة من الترقب تخيم على الشارع الأوروبي قبل التركي في انتظار قرار المحكمة الذي سيصدر في الـ2 من يوليو/تموز القادم، بشأن تحويل أيا صوفيا إلى مسجد مرة أخرى، ورغم تأهيل الأرضية الشعبية لهذا التوجه، فإن الأيام القليلة المقبلة وحتى صدور الحكم من المتوقع أن تشهد زخمًا كبيرًا للحيلولة دون السير في هذا الدرب الذي يثير غضب الأوروبيين وأطراف تركية علمانية.