ثلاث سنوات مضت منذ أن وضعت الحرب أوزارها في العديد من المحافظات العراقية التي تحررت من سيطرة تنظيم الدولة “داعش” وباتت تعرف باسم المناطق المحررة.
تلك المناطق تشمل محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار وأجزاء من كركوك وديالى، فعلى الرغم من أن الحرب العسكرية وضعت أوزارها، فإن حربًا أخرى بدأت فور انتهاء العمليات العسكرية، إذ استبدل بالسلاح المال والكتل السياسية والأحزاب والميليشيات التابعة لإيران وسياسيي السنة والشيعة على حد سواء.
الأسطر التالية لـ”نون بوست” تبحث في الصراع السياسي والاقتصادي على موارد المناطق المحررة والتحكم السياسي بها.
حرب دون سلاح
منذ سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين عام 2003 على يد القوات الأنجلوأمريكية تغير المشهد السياسي في العراق من نظام الحزب الواحد إلى تعددية الأحزاب، لكن هذا التغيير لم يكن كما كان يطمح إليه العراقيون، إذ باتت الكتل السياسية والأحزاب ذات توجهات مختلفة وغالبيتها مؤدلج وفق الجهات الداعمة سواء من الجانب العقائدي أم المادي أم كليهما معًا.
يقول الباحث السياسي رياض العلي في حديثه لـ”نون بوست”: “العمل السياسي في العراق وعلى الرغم من كونه متعدد الاتجاهات، بات خلال السنوات الأخيرة معركة كسر عظام بين الجهات السياسية والأحزاب، خاصة في المناطق التي كان مسيطرًا عليها من تنظيم داعش للفترة بين 2014 و2017”.
وعن خصوصية هذه المنطقة والتقلبات السياسية التي تشهدها، يعتقد العلي أن ما تواجهه هذه المناطق من صراعات سياسية مرده إلى عدم وجود كتلة سياسية حقيقية منبثقة عن هذه المناطق، فجميع الأحزاب والكتل السياسية تدعمها جهات خارجية أو داخلية من أطراف أخرى، وبالتالي فاختلاف موقف الداعمين أثر بشكل كبير على السياسة الداخلية لهذه المناطق.
ويضيف العلي أن المناطق المحررة لم تعد ساحة تقلبات سياسية للأحزاب التي تدعي تمثيلها، إذ إن الفصائل المسلحة التابعة للحشد الشعبي كعصائب أهل الحق وبدر وكتائب الإمام علي وغيرها من الفصائل دخلت على الخط بقوة وباتت تتحكم في جزء كبير من الملف الاقتصادي لنينوى والأنبار وصلاح الدين، مؤكدًا أن الأسباب السياسية والاقتصادية التي أدت إلى أحداث 2014 وسقوط ثلث مساحة العراق بيد داعش باتت تتكرر مرة أخرى في ظل تغييب الصوت الحقيقي لتلك المناطق وتدهور الوضع الاقتصادي.
وفي تقرير خاص لوكالة رويترز نشر في 12 يونيو/حزيران الحاليّ كشفت الوكالة في تقريرها أن الخلافات والمعارك السياسية في محافظة نينوى تدور إلى حد كبير خلف الكواليس بين قاعات الحكومة المحلية وقاعات الاجتماعات بفنادق العاصمة بغداد، مشيرًا إلى أن تلك المعركة ما هي إلا صراع على النفوذ بين أحزاب وساسة ورجال فصائل مسلحة، بعضهم تدعمهم إيران وآخرون يفضلون الولايات المتحدة، بحسب نص الوكالة.
وينقل التقرير أن حلفاء إيران كانوا قد سجلوا انتصارات في هذه المعركة بمحافظة نينوى، إذ عينوا محافظًا تفضله إيران قبل عام وهو منصور المرعيد، لكن النفوذ الإيراني واجه تحديات وعقوبات أمريكية، ثم استطاع المعسكر المؤيد للغرب استبدال محافظ نينوى المرعيد بحليف قديم للولايات المتحدة وهو المحافظ الحاليّ نجم الجبوري.
يقول عضو مجلس محافظة نينوى علي خضير: “إيران تدعم حلفاءها بالمال والمساندة السياسية ولا تفارقهم، إلا أنه وعلى النقيض من ذلك فإن سياسة الولايات المتحدة لم تؤثر على العراق”.
وفي الموصل، تنقل رويترز عن 20 من مسؤولي الحكم المحلي والنواب في بغداد والقيادات العشائرية كيف عملت إيران على تدعيم نفوذها السياسي إلى أن أصبح لها حلفاء في كل إدارة إقليمية تقريبًا، وأضاف التقرير “من الشخصيات المحورية لتلك الجهود في نينوى اثنان من أصحاب النفوذ من السنة هما خميس الخنجر وهو رجل أعمال من محافظة الأنبار اتجه إلى العمل بالسياسة وأحمد الجبوري المعروف على نطاق واسع بكنيته أبو مازن وهو محافظ سابق لمحافظة صلاح الدين وعضو في البرلمان العراقي حاليًّا”.
يقول الخبير الأمني حسن العبيدي في حديثه لـ”نون بوست”: “من المفارقة أن من بات يتحكم في مصير محافظة نينوى أشخاص من خارج المحافظة، فاستبدال بمحافظ نينوى السابق منصور المرعيد، بالحاليّ نجم الجبوري جرى من خلال كتلة رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي وحليفه محافظ صلاح الدين الأسبق أحمد الجبوري المكنى بأبو مازن”.
ويضيف العبيدي أنه وعلى الرغم من نجاح هذه الكتل في إبعاد المحافظ السابق منصور المرعيد عن المنصب الذي كان مدعومًا من رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، فإن الأوضاع الميدانية في محافظة نينوى لا تزال على حالها، إذ تتحكم الفصائل المسلحة والمكاتب الاقتصادية التابعة لها بجلِّ الملف الاقتصادي للمحافظة، ولا يستطيع أي مقاول تنفيذ أي مشروع ما لم يأخذ تزكية من تلك الفصائل ومكاتبها وبالتالي إعطاء إتاوة للجهة المسيطرة على منطقة المشروع.
الأنبار والصراع على الحدود
ليست محافظة نينوى وحدها التي تشهد هذه الأوضاع، إذ إن محافظتي صلاح الدين والأنبار ليستا أفضل حالًا، يقول أحد أعضاء مجلس محافظة الأنبار الذي فضل عدم كشف هويته في حديثه لـ”نون بوست”: “نينوى تختلف عن الأنبار في أن الفصائل المسلحة لها سطوتها الكبيرة في المناطق البعيدة عن المدن الرئيسية للمحافظة كالفلوجة والرمادي”.
ويكشف المصدر أن الفصائل المسلحة لإيران لها سطوتها التي تكاد تكون شبه مطلقة في مناطق غرب المحافظة وتحديدًا في قضاء القائم وعلى طول الحدود البرية بين سوريا والعراق، بما فيها المنفذان الحدوديان المطلان على سوريا والأردن.
ويشير المصدر كذلك إلى أن هذه الفصائل وبدعم مباشر من إيران باتت تستخدم أسلوب الزحف البطيء للسيطرة على تلك المناطق من خلال افتعال المشاكل والحجج لعدم عودة المزارعين والفلاحين لقراهم في المناطق التي كانت مقرات لتنظيم داعش قبل طرده.
ويرى المصدر أن بُعد الفصائل وانعدام وجودها في مدن كالفلوجة والرمادي يرجع إلى عدم وجود حجج لوجودها هناك، إضافة إلى قوة الحلبوسي في هاتين المنطقتين اللتين تعدان معقله.
أما الصحفي خضر عبد الله فيرى أن قلة تسليط الضوء على وجود فصائل الحشد في مناطق الأنبار يرجع لمساحة المحافظة الشاسعة وقلة الوجود السكاني في المناطق الريفية، مشيرًا إلى أن الصراع على محافظة الأنبار يتمثل بالفصائل الولائية التابعة لإيران التي تطمح لبسط سيطرتها وديموتها على المناطق الحدودية التي تعد شريان تغذية الفصائل الإيرانية الموجودة في سوريا.
ويعتقد عبد الله أن تلك الفصائل والكتل السياسية الشيعية استطاعت اختراق المناطق المحررة سياسيًا واقتصاديًا بسبب ضعف الكتل السياسية الممثلة لهذه المناطق وتحالف بعض هذه القوى مع كتلة الفتح التي يتزعمها هادي العامري ومع الفصائل ذاتها من أجل الحصول على مزيد من المكاسب السياسية والمالية.
صلاح الدين.. تهجير لا يزال مستمرًا
كانت مدينة تكريت (مركز محافظة صلاح الدين) من أوائل المناطق التي استطاعت القوات الأمنية العراقية والتحالف الدولي استعادتها من تنظيم داعش، لكن ثمن هذه الاستعادة كان باهظًا، إذ عمدت الفصائل المسلحة إلى تهجير عشرات آلاف السكان الأصليين في البلدات والقرى الواقعة جنوب تكريت، ولا يزال الكثير من أهلها في المخيمات.
ويؤكد مصدر مطلع في ديوان محافظة صلاح الدين أن تماهي سياسيي المحافظة مع الحشد الشعبي والكتل السياسية الممثلة لها أدى إلى أن هناك الكثير من البلدات التي لا تزال الفصائل تمنع أهلها من العودة إليها، مثل مناطق عزيز بلد ويثرب والعوجة وغيرها، فضلًا عن أن الفصائل المسلحة لا تزال الآمر الناهي في مناطق صلاح الدين وفي مركز المحافظة (تكريت).
ويكشف المصدر في حديثه لـ”نون بوست” أن عمليات التهجير والتغيير الديموغرافي في تلك المناطق لا تزال على أشدها، فسرايا السلام تتحكم في قضاء سامراء بالكامل، فضلًا عن تحكم بدر والعصائب وكتائب الإمام علي بمختلف المديريات الخدمية والأمنية في المحافظة وسط غياب دور الحكومة المحلية ونواب المحافظة في البرلمان.
يؤكد الكثير من الخبراء والمراقبين أن الصراع السياسي للكتل والفصائل والفساد المستشري هو السبب الرئيس في تأخر إعادة إعمار الموصل
ويكشف أحد الناشطين في محافظة صلاح الدين في حديثه لـ “نون بوست” أن هناك مئات المغيبين (المختطفين) المدنيين في صلاح الدين الذين اختطفتهم الميليشيات خلال العمليات العسكرية ولا يزال مصيرهم مجهولًا، فضلًا عن استحواذ الميليشيات على عشرات الدور السكنية والعقارات في مدينة تكريت وغيرها من مدن المحافظة.
صراع يؤخر الإعمار
بالعودة إلى مدينة الموصل التي شهدت النسبة الأكبر من الدمار نتيجة الحرب المدمرة ضد تنظيم الدولة التي استمرت 9 أشهر، لا تزال مشاهد الخراب واضحة للعيان مع 3 جسور رئيسية لا تزال مدمرة في المدينة، إضافة إلى جميع أبنية المؤسسات الحكومية، يضاف لها المدينة القديمة في الموصل التي لا تزال بعد 3 سنوات من انتهاء الحرب خارج الخدمة.
يؤكد الكثير من الخبراء والمراقبين أن الصراع السياسي للكتل والفصائل والفساد المستشري هو السبب الرئيس في تأخر إعادة إعمار الموصل وإرجاعها إلى ما كانت عليه قبل 2014، وفي هذا الصدد يكشف مدير أسبق لمديرية بلدية الموصل في حديثه لـ”نون بوست” أن محافظة نينوى تعد أكثر محافظة عراقية شهدت خلال 3 سنوات فقط استبدال أكبر عدد من مديري الدوائر والمديريات الحكومية وعلى امتداد تاريخ العراق الحديث.
ويؤكد المصدر أن دوائر الصحة والبلدية والاستثمار والطرق والجسور والمحافظة شهدت استبدال مسؤوليها بما لا يقل عن 3 مرات لكل منهم، لافتًا إلى أن دائرة كهيئة استثمار نينوى التي تعد من الداوئر الرئيسة المختصة بجلب الاستثمارات وإعمار المدينة لا تزال بلا مدير لأكثر من عام، بعد أن تسبب الصراع السياسي برفض كل من ترشح للمنصب.
المصدر يؤكد أن كثيرًا من ذوي الخبرة والكفاءة في الموصل يرفضون تولي أي منصب حكومي في المدينة نتيجة خضوعهم للابتزاز ومطالبة الكتل والنواب والفصائل المسلحة بحصصهم في كل مشروع ينفذ أو عقد يبرم، وبالتالي أدى كل ذلك إلى أن يظل دمار المدينة شاخصًا للعيان.
الصراع السياسي على هذه المناطق لا يزال على أشده، ووعود الإعمار متوقفة بسبب الفساد الذي أضيف إليه مؤخرًا تدهور الوضع الاقتصادي وتراجع أسعار النفط وجائحة كورونا
ويختتم المصدر أن جميع المشاريع المنجزة بعد 2017 يشوبها الفساد وسوء التنفيذ، كاشفًا أن جسر الحرية الذي افتتحه قبل أيام رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بعد عامين من البدء بإعماره، لم يصمد أسبوعًا حتى بان سوء تنفيذه من خلال التخسف الذي بدأ في وسط الجسر الرابط بين شطري المدينة الشرقي والغربي.
من جانبه، يقول الأكاديمي المختص بالاقتصاد في جامعة الموصل ربيع كامل في حديثه لـ”نون بوست” إن معادلة الاقتصاد في الموصل يمكن وصفها بـ”الصفرية”، إذ لا تقدم في أي مؤشر أو وعد أطلقته الحكومتان المحلية والاتحادية، فضلًا عن أن معدلات البطالة في محافظة نينوى لم تسجل أي تحسن باستثناء المؤشرات التي ألقتها بعض المنظمات الدولية التي كانت نتيجة عقود العمل المعروفة دوليًا بالـ”cash for work”.
أما الصحفي سيف غانم فيشير من جانبه إلى أن المناطق المحررة تعاني من مشكلات كبيرة لم تنتهِ مع تحرير مدنهم من داعش، إذ إن تنظيم داعش ذهب، لكنه ولّد مشكلات كبيرة في المحافظات المحررة كان سياسيو تلك المحافظات شركاءً رئيسيين فيها.
وعن أسباب عدم استقرار هذه المناطق، يضيف غانم في حديثه لـ”نون بوست” أن السبب الأول يتمثل بالخلافات السياسية لممثلي هذه المناطق، فاليوم هنالك صراع على مَن يغنم التركة السنية ومن يكون رأسها بين عدة أطراف، لافتًا إلى أن أقوى الأطراف تتمثل بكتلة يرأسها محمد الحلبوسي رئيس مجلس النواب الحاليّ، إضافة إلى كتلة أخرى يرأسها خميس الخنجر وطرف آخر في نينوى يتمثل بآل النجيفي.
ويضرب غانم مثالًا على الحلبوسي الذي يعتقد أنه سيطر على معظم المناصب والدرجات الخاصة في الدولة العراقية التي هي من حصة المحافظات المحررة، من خلال صفقات مريبة ومصالح واضحة يقوم بها بصورة سرية وعلنية، ويرى غانم في حديثه لـ”نون بوست” أنه ما لم يتخل السياسيون السنة الممثلون لهذه المحافظات عن مصالحهم وخلافاتهم فلن تنعم المناطق المحررة بالعيش الهانئ والآمن.
هي معضلات كبيرة تواجهها المناطق المحررة من داعش بعد 3 سنوات من انتهاء العمليات العسكرية، فالصراع السياسي على هذه المناطق لا يزال على أشده، ووعود الإعمار متوقفة بسبب الفساد الذي أضيف إليه مؤخرًا تدهور الوضع الاقتصادي وتراجع أسعار النفط وجائحة كورونا.