يحكي لنا تاريخ ما قبل الإسلام، بقدر وافر من الحفاوة والاحتفاء، قصة أحد الملوك الذين حققوا انتصارات عسكرية مهمة في شبه الجزيرة العربية، أثرت إيجابًا في المرحلة الانتقالية من الجاهلية إلى استقبال الإسلام، ويدعى سيف بن ذي يزن، فمن ذلك القائد الذي تمتلئ الكتب بسيرته؟ وما قصة هذا الانتصار؟ وكيف أثر في تلقي الإسلام؟
أصحاب الأخدود
لا يمكن لنا فهم ظهور سيف بن ذي يزن، دون التعرض إلى قصة “أصحاب الأخدود” التي ذكرت في عدد من الكتب التاريخية القديمة، وحكاها القرآن لاحقًا في إحدى سوره بأسلوب بلاغي يكاد يكون مصورًا في سورة “البروج”.
ففي عهد أحد ملوك اليمن القديم، ويدعى أبو نواس، اضطهدت طائفةٌ من المسيحيين المعتقدين بتصور ديني أقرب إلى “الحنيفية”، فحفر لهم خندقٌ، على عين أبي نواس، وأحرقوا فيه جميعًا حتى الموت، انتقامًا منهم، إرضاءً للملك الذي كان يميل إلى اليهودية.
ولما علم النجاشي بهذه القصة في الحبشة، أمر بتجهيز جيشٍ ضخم لا يقل عن سبعين ألف رجل، ليقطع البحر، متوجهًا إلى اليمن، بغرض الانتقام من ذلك الملك الذي اضطهد المسيحيين، فكانت هذه البعثة وبالًا على شبه الجزيرة العربية عامة، وعلى أهل اليمن خاصة، ولم تقتصر نتائجها على عقاب أبي نواس.
فبعد انتصار الجيش المسيحي القادم من الحبشة بقيادة أرياط على أبي نواس، تحول الخلاف إلى صراع مسيحي/مسيحي على أرض اليمن، بين أرياط من جهة ورفيقه القادم معه إلى اليمن من جهة أخرى، أبرهة، أسفر في النهاية عن مقتل الأول، بعد ما كان على وشك قتل أبرهة في الواقعة الشهيرة التي قام فيها بضربه على أنفه، وذلك عن طريق حيلة استعان فيها أبرهة بأحد حراسه لقتل غريمه أرياط.
وما إن دانت بلاد اليمن إلى أبرهة، بعد مقتل أبي نواس وأرياط، حتى عاث فيها فسادًا، لدرجة هدمه أهم قصور اليمن حينها: سجليق وسون وغمدان، وبنائه كنيسة “قليس”، ليجذب إليها حج العرب، ويصرف الأنظار والنفوس عن الكعبة في مكة، قبل أن يلقى حتفه في حادثة “الفيل”، ليحل محله ابنه يكسوم الذي لم يختلف كثيرًا عنه.
القصة تحولت إلى سيرة شعبية، في بلدٍ آخر وفي سياق تاريخي شديد التقدم، قياسًا على زمن ظهور الملك سيف نفسه
عناء مكلل بالنصر
توفي يكسوم أيضًا، بعد أن فعل في اليمن ما فعل، وجاء بعده أخوه مسروق، وفي هذه الآونة، كان اليمن يستعد لخروج مارد مقابل، هو سيف بن ذي يزن، الذي كان للمفارقة أخًا غير شقيق لمسروق، حيث نكح أبرهة أمه: ريحانة بنت ذي جدن، بعد أن أخذها من أبيه، ذي يزن، عنوةً في ذروة صعوده وتجبره.
كان سيف في حاجة ماسة إلى عون خارجي لكي يستطيع الصمود، فضلًا عن الانتصار، على المد المسيحي الحبشي في بلاده، فأخذ يطرق الأبواب، مستهلًا رحلته بقيصر الروم الذي رفض مساعدته معللًا ذلك بوحدة الديانة بين الروم والأحباش: المسيحية.
وبعد رفْض الروم مساعدته، عرض مشكلته على النعمان بن المنذر الذي أخبره أنه لن يستطيع مساعدته، ولكنه يعرف شخصًا بوسعه فعل ذلك، وهو كسرى فارس الذي سيزوره في رحلته السنوية عما قريب، وبمرور الوقت، ذهب النعمان وسيف إلى ملك الفرس ليعرضا عليه أمر اليمن.
على نفس النحو، رفض كسرى فارس أيضًا أن يساعد سيف في معركته ضد مسروق الحبشي، بيد أنه علل ذلك بفقر اليمن وبعد المسافة وخوفه من المغامرة بجيشه في هذه المعركة غير المضمونة، معوضًا إياه عن هذا الخذلان بهدية من آلاف الدراهم وكسوة، ألقاهم سيف على العامة فور خروجه من القصر.
لفت ذلك التصرف نظر كسرى فارس، فدعا سيفًا ليسأله عما حمله على ذلك، فأجابه بما معناه: أنه لم يأت هنا من أجل المال، “فجبال بلادي ذهب وفضة”، وإنما جاء من أجل طلب النصرة، فأعجب “أنو شروان” بهذا الموقف، ولاحظ مساعديه هذا الإعجاب، فأشاروا عليه بحل يرضي جميع الأطراف، وهو أن يرسل المسجونين، بدلًا من الجيش، إلى اليمن، فإن انتصروا، كان ذلك ذخرًا للملك ومملكته، وإن هزموا، تخلص الملك من عناء إيواء المساجين، فوافق الملك، واستبشر سيف بالفكرة.
وبالفعل، أرسل الملك 800 مسجون على متن ست سفن، في حملة عسكرية يقودها مسجون يدعى “وهرز“، الذي استطاع أن يقتل مسروقًا ويهزم جيش الأحباش، بمساعدة سيف بن ذي يزن ومَن معه مِن أرض اليمن، وقد ولى وهرز “سيف” حاكمًا على اليمن كما أشار عليه حاكم فارس، على أن يدفع اليمن خراجًا سنويًا، مقابل هذه النصرة التاريخية التي غيَرت مسار تاريخ شبه الجزيرة العربية، بعد احتلال حبشي دام 47 عامًا.
السيرة
هذه قصة سيف بن ذي يزن التاريخية التي شهدت بلاد اليمن على حدوثها قبل الإسلام، لكن المفارقة أن نجد هذه القصة تحوَلت إلى “سيرة شعبية”، في بلدٍ آخر، وفي سياق تاريخي شديد التقدم، قياسًا على زمن ظهور الملك سيف نفسه.
الأحباش أرسلوا والدة سيف “قمرية” للتخلص من ملك اليمن، ذي يزن
ففي مصر، بمنتصف القرن الرابع عشر الميلادي، سنجد حضورًا واضحًا لقصة سيف بن ذي يزن في الآداب الشعبية، رغم أن الملك ينتمي إلى حِمير باليمن، ويعود تاريخ أعماله إلى القرن السادس الميلادي، أي قبل ثمانية قرون من تاريخ إنتاج السيرة.
يضع خطري عرابي، أستاذ الآداب الشعبية بجامعة القاهرة، أيدينا على الخطوط العريضة لفن السيرة بشكل عام، فيخبرنا أن السيرة فن عربي النشأة، يتقاطع مع كثير من الفنون الشعبية ذات الطابع القصصي مثل الملحمة والحكاية الشعبية والأسطورة، بل والرواية من العصر الحديث، إلا أنها تتميَز عن هذه الفنون بحدود واضحة، في البنية والغرض.
وتأخذ السيرة التي تناقلت في مصر حينئذ موقفًا سلبيًا واضحًا من الأم يفوق ما تذكره عنها كتب التاريخ، حيث سنجد – في السيرة – أن الأحباش أرسلوا والدة سيف “قمرية” للتخلص من ملك اليمن، ذي يزن، وما إن تنجح في مَهمتها تلك، تقوم بالتخلص من ابنها سيف نفسه، عبر إلقائه في الصحراء، لكي تنفرد بحكم اليمن.
ما أراده الراوي الشعبي من هذا التصور السلبي عن الأم، هو، في الحقيقة، كما يؤكد الباحثون: اجترار “الثيمة” التقليدية المتكررة في هذا النوع من الفنون الشعبية التي تأثرت بالكتب المقدسة، حيث نجد أن كل الأنبياء والأبطال الاستثنائيين، ولدوا ميلادًا أسطوريًا، وربما تعرَضوا للنبذ والكيد في أيامهم الأولى من الميلاد، ولكن يد القدر تساعدهم، بشكل استثنائي أيضًا، لتجاوز هذه الصعوبات، التي تؤكد خصوصيتهم التاريخية، وتساعد، في نفس الوقت، على إصقال التجربة لكي ينجحوا في مهمتهم.
لذلك، سنجد أن مزيجًا من الخوارق، تلقف البطل الرضيع، في السيرة، سواء من عالم الحيوان (الغزال) أو عالم السحر (الجن)، حيث ستأخذه إحدى الجنيات كي يعيش عند ملك أمين في أعالي النيل، يدعى “أفراح”.
وفي هذه المرحلة من السيرة، أي بعد وصوله إلى الملك أفراح، ينفرط كثير من عقد الأحداث، خاصة بعد أن يتعرَف عدد من أعوان الملك (سقرديوس وسقرديون) على البطل المنتظَر، من خلال “الشامة” المرسومة على جسده، معبِرين عن خوفهم من سيطرته على مجرى النيل وامتلاكه “كتاب النيل” (النبوءة)، إذا تزوَج من حاملة الشامة الأخرى، ابنة الملك أفراح.
ويجتهد الأعداء الثلاثة للبطل: قمرية أمه التي سيتجدد حضورها في المشهد لاحقًا بعد أن يتعرَف عليها سيف خلال إحدى المعارك ضد “الأحباش”، وسقرديوس وسقرديون اللذين حاولا منع سيف من الزواجِ بابنة الملك أفراح وحصولِه على كتاب “النيل” الخطير، والملك الحبشي سيف أرعد الذي سيكون خصمه المباشر في المعارك على هذا النهر، من الحبشة إلى اليمن مرورًا بمصر.
وبطبيعة الحال، ينتصر الراوي الشعبي المصري في السيرة للبطل الذي استدعاه من أعماق التاريخ، بشبه الجزيرة العربية، سيف بن ذي يزن على خصومه جميعًا، ليتمكن لا من الظفر بكتاب النيل الذي يتحكم في كل شيء يخص النهر، أو هزيمة سيف أرعد وحسب، بل من نشر الإسلام، في كل ربوع الأرض وعالمي الإنس والجن، قبل أن يتوفَاه الله في محرابه بقلعة “الجبل”.
خطر قديم
ربما لم يكن مستغربًا، من حيث المبدأ، أن يقوم اللاوعي الشعبي في أي حقبة باستدعاء بطل قديم لارتباطه بأي أهداف نفسية يريد هذا اللاوعي تحقيقها مجددًا في العصر الحاضر، أو حتى كنوعٍ من التغني ببطولات الماضي لتخفيف حدة الألم الآني، ولكن ما أثار الاستغراب كان استدعاء المصريين، في هذا التوقيت، شخصية تاريخية من اليمن بشكل عام، وشخصية سيف بن ذي يزن بشكل خاص.
هل ستنجح القيادة المصرية في تحييد هذا الخطر الجديد القديم أم سيعيد اللاوعي المصري الانتصار على الأحباش في السير الشعبية؟
وبحسب ما توصل إليه عرابي في دراسته لهذه السيرة، التي قدمها في فصلين بحثيين بجامعة القاهرة، فإن التفسيرات تعزو هذا الاستدعاء إلى أسباب مثل: الرغبة في تجسيد الصراع بين الجنس العربي السامي والجنس الحبشي الشامي، أو التبشير بالإسلام في عصر الجاهلية، أو محاولة الانسلاخ من عصر السحر إلى عصر الدين، تفتقد إلى الدقة، بل وتطرح أسئلةً أكثر مما تجيب عليها.
بينما تعد المنهجية الأفضل هي دراسة حال المجتمع الذي اخترع هذا العمل في صورته الجديدة، بعد أن تأكدنا من كون أول ظهور لهذه السيرة في مصر، في نهاية القرن الرابع عشر، حيث كان يحكم الحبشة الملك سيف أرعد بالفعل.
وبالرجوع إلى هذه الحقبة، سنجد أن المجتمع المصري المحكوم من المماليك، كان يعاني من خطرين خارجيين تشابها مع تجربة سيف بن ذي يزن، وهما خطر الحملات الصليبية على الشرق، بما في ذلك مصر، وخطر الملك سيف أرعد الذي هاجم مع نجله داوود، عددًا من الممالك الإسلامية في الحبشة، وقاد حملةً استعمارية على بلاد النوبة، وفعل الفظائع في التجار المصريين هناك، بل وهدد بقطع النيل عن مصر في خطاب قال فيه: “نيل مصر الذي هو قوام أمرها، وصلاح أحوال سكانها، مجراه من بلدي، وأنا أسدها”.
ويبدو أن اللاوعي الشعبي المصري لم يستدع قصة سيف بن ذي يزن ليغزل من خلالها سيرةً ينتقم فيها رمزيًا من الخطر المسيحي الحبشي وحسب، وإنما وجد في تجربة ذي يزن الذي قال: “جبال بلادي ذهب وفضة” سلوى بديلة عن حكم المماليك الإقطاعي الجائر، كما وجد فيه حسًا إسلاميًا يتلاءم مع عقيدته وهدفه في هذه المرحلة.
فقد سجلت كتب التاريخ وبعض المصادر الدينية أن الملك سيف بن ذي يزن التاريخي استقبل وفدًا عربيًا من قريش بعد نجاحه في طرد الأحباش من اليمن، كان على رأسه جد الرسول، هاشم بن عبد المطلب، ودار بينهما حوار مهم بشَر خلاله سيف بالرسول محمد، متحدثًا عن أماراته الجسدية وتسببه في رفعة قريش وذهابه إلى يثرب وعداء اليهود له، مؤكدًا لجد النبي أنه لولا أنه يخشى عليه من المكائد لأعلن للعرب عن ميلاده (وكان الرسول قد ولد بالفعل)، وأنه إذا أدرك نبوته سينصره.
لذلك يرجع الباحثون جوهر تلك السيرة التي ظهرت في عصر المماليك، وما زالت معروفة في بعض الأماكن بمصر، إلى سببين: الأول هو نشر الإسلام والانتصار له أمام الخطر الصليبي.
والثاني هو حماية نهر النيل من تهديدات الأحباش الجدية، بقيادة سيف أرعد ونجله داوود، التي يبدو أنها عادت في ثوب جديد خلال العقد الأخير، متمثلةً في مشروع سد النهضة، الذي حوَل مجرى نهر النيل بالفعل، وأوشك خزانه يمتلئ، فهل ستنجح القيادة المصرية في تحييد هذا الخطر الجديد القديم، أم سيعيد اللاوعي المصري الانتصار على الأحباش في السير الشعبية؟