منذ بداية أزمة كورونا في قطاع غزة في أكثر الأماكن انعزالًا في العالم، ازداد ثقل التحديات على المدينة التي تشهد حصارًا خانقًا، ولخطورة الوضع ركزت الجهات الدولية المانحة غالبية مساعداتها وأموالها لمواجهة هذا الوباء والسيطرة عليه قبل التفشي، لكن هذا الاهتمام البالغ صاحبه إهمال للأمراض الأخرى، وتحديدًا حالات السرطان.
نجري حوارًا خاصًا عن هذا الموضوع مع الطبيب محمد عبد القادر أبو ريا، لفهم واقع مرضى السرطان في قطاع غزة، قبل وبعد ظهور فيروس كورونا المستجد.
محمد عبد القادر أبو ريا، طبيب حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة العامة مع درجة الماجستير في الصحة العامة وعلم الأوبئة، حاصل أيضًا على دبلوم عالٍ في صحة الطفل والتغذية، ودبلوم آخر في إدارة المستشفيات ودورات ومشاركات علمية ودولية في العلاج التلطيفي الخاص بمرضى السرطان، وعمل في مؤسسات حكومية ودولية في مجالي الصحة والصحة العامة، وشارك في إعداد بعض البروتوكولات الصحية وتحديدًا في مجال الطوارئ والدراسات والخطط الإستراتيجية، وهو عضو في جمعية أرض الإنسان الفلسطينية الخيرية، وعضو مجلس إدارة مدرسة أزهار فلسطين للتعليم الخاص (الأطفال أصحاب المتلازمات الطبية)، واستشاري صحي في جمعية العون والأمل لرعاية مرضى السرطان.
كيف تصف واقع مرضى السرطان في قطاع غزة؟
استنادًا إلى إحصاءات وزارة الصحة الفلسطينية، فإن هناك زيادة طردية في عدد الحالات بنسبة تتراوح بين 10-15% سنويًا، ويتم اكتشاف ما بين 120-130 حالة جديدة شهريًا، وهذه الزيادة يقابلها نقص في إمكانات العلاج والرعاية الصحية اللازمة والسريعة، حيث بلغ إجمالي عدد حالات مرضى السرطان 8 آلاف و326 حالة موزّعة بين النساء والرجال والأطفال، خلال الخمس سنوات الماضية (2014-2018).
يُعاني قطاع غزة من تدني مستوى الخدمات الصحية المقدمة للسكان وبالأخص خدمات مرضى السرطان
أكثر حالات الإصابة من الإناث بنسبة 55% وأغلبها سرطان الثدي، والذكور بنسبة 45%. ومن أكثر أنواع السرطان انتشارًا، سرطان القولون الذي يتسبّب بما نسبته 13.2%، أما بالنسبة للأطفال فإن سرطان اللوكيميا أكثر أنواع السرطان انتشارًا فيما بينهم.
تعاني هذه الحالات من واقع أليم جدًا، فإضافة إلى تأثيرات المرض ذاتها، فإن تدني مستوى الخدمات الصحية المقدمة للسكان، وبالأخص خدمات مرضى السرطان، تزيد من صعوبة التجربة عليهم، حيث لا يوجد مستشفى خاص بهم، إنما يتم توزيعهم على مستشفيات غير متخصصة بأمراض السرطان، وتخصص بعض أقسامها لمعالجتهم، وهي مستشفى الرنتيسي للأطفال التي تستقبل الحالات من شمال وغرب القطاع، والمستشفى الأوروبي لحالات جنوب القطاع.
ثانيًا، لا يوجد مركز للعلاج الإشعاعي، ويتوافر العلاج الكيماوي بكميات محدودة جدًا لا تتعدى 40-50% من مجمل الأدوية التي يحتاجها أي مريض للسرطان، بمعنى أن البروتوكولات العلاجية لمرضى السرطان تشهد نقصًا حادًا، وذلك إضافة لصعوبة السفر من أجل تلقي العلاج في الخارج.
تعني هذه المعطيات أن القطاع الصحي في قطاع غزة غير قادر على التعاطي مع مرضى السرطان، لأنه لا يستطيع إلا تلبية جزء من الخدمة المطلوبة لهم.
ما أسباب زيادة حالات السرطان في القطاع؟
هناك عدة عوامل مباشرة وغير مباشرة مرتبطة بزيادة حالات السرطان في القطاع، منها عوامل صحية وبيئية مثل التلوث الغذائي والمائي والهوائي وتداخل المياه العادمة مع المياه العذبة، وهناك عامل الكثافة السكانية العالية، إلى جانب الضغط النفسي الدائم وعوامل وراثية جينية وعدد من الأسباب الأخرى.
يضاف إلى ما سبق، التأخر في كشف المرض وتشخصيه في مراحله الأولى، وذلك بسبب قلة الإمكانات المتوافرة أو عدم الالتزام ببرامج الفحص المبكر وعدم القيام بالفحوصات الدورية المطلوبة من الأشخاص الأكثر عرضه للإصابة، فضلًا عن ضعف فرص العلاج في الخارج نتيجة للاغلاق المستمر للمعابر.
وقد يرجح البعض هذه الزيادة إلى الأسلحة التي استخدمها الاحتلال الإسرائيلي خلال الحروب الماضية التي شنها على القطاع، مثل الفسفور الأبيض واليورانيوم المنضب، ولكن لا يمكننا الجزم بذلك إلى حين توفر أدلة علمية مثبتة بالبراهين.
كيف كانت آلية التعامل مع المرضى قبل جائحة كورونا؟
قبل أن تحدث جائحة فيروس كورونا المستجد، كان جزء منهم يتلقون بعض البروتوكولات العلاجية المتوافرة لدى وزارة الصحة الفلسطينية، وبعد ذلك يتم تحويل المريض لاستكمال علاجه إما في الضفة الغربية أو الداخل الفلسطيني المحتل أو الأردن أو مصر.
علاوة على قلة الإمكانات العلاجية وكذلك صعوبة التحرك والسفر لتلقي العلاج في الخارج، فإن الوضع الاقتصادي المتردي يضيف من سوء وتعقيد الوضع العام لمريض السرطان
يجدر الذكر هنا أن الانتقال إلى إحدى تلك الوجهات يتم عادةً عبر معبر إيرز مع الجانب الإسرائيلي، وفي هذه العملية يتم التنسيق بين عدد من الدوائر، تبدأ من أخذ “النموذج رقم واحد” بعد عرضه على جهات الاختصاص ثم دائرة شراء الخدمة أو العلاج بالخارج، وصولًا إلى دائرة تنسيق المرضى في وزارة الصحة الفلسطينية التابعة لرام الله.
وفي كثير من الأحيان، نواجه صعوبات كثيرة تتمثل في صعوبة الحصول على مواعيد طبية في المشافي المراد الإحالة إليها بسبب زيادة أعداد المرضى، إضافة إلى انتظار إصدار الإذن أو التصريح لمغادرة القطاع والموافقة من الجانب الإسرائيلي على إعطاء المريض بالسرطان ومرافقه تصريح الدخول إلى أراضي 48.
عقب ذلك، تأتي مرحلة المراجعة أو استكمال العلاج التي يحتاج فيها المريض ومرافقه أن يعيدوا أغلب المراحل السابقة مرة أخرى، وبالتالي يتأخر المريض في تلقي علاجه وتتعثر عملية الشفاء.
ولا بد من الإشارة إلى المرضى غير القادرين على السفر لتلقي العلاج بسبب الحجج والدواعي الأمنية المتعلقة في جهة الإحالة، الأمر الذي يحكم عليهم بالموت المحقق داخل قطاع غزة، مع العلم أن هذا يُنافي مبادئ حقوق الإنسان واتفاقية جنيف التي تنص على حق المريض في التنقل أو السفر لتلقي العلاج.
يزيد أيضًا الوضع الاقتصادي المتردي من سوء وتعقيد الوضع العام لمريض السرطان الذي يحتاج إلى دعم مالي يومي، ليُغطي ما لا تُغطيه الوزارة من العلاجات الثانوية والمكملات الغذائية والمواصلات وغيرها من المصروفات.
ومع ذلك، تحاول بعض المؤسسات المحلية والدولية مساندة هؤلاء المرضى في رحلتهم العلاجية إما في القطاع أو خارجه، مثل مؤسسة “العون والأمل لرعاية مرضى السرطان” التي تقوم بعملية إحالة المرضى، وخصوصًا السيدات والممنوعين أمنيًا، من قطاع غزة إلى مركز الحسين للسرطان في عمان، وتُوفر لهم السكن والغذاء والدواء المجاني إضافة إلى مصروفات المريض الشخصية.
كما أنوه في هذا الشق إلى أن الحكومة الفلسطينية في رام الله تُقدم كل ما يتعلق بمرضى السرطان سواء كانوا يتلقون العلاج في القطاع أم خارجه، ويشمل ذلك العلاجات وتحويلات والتكاليف الأساسية.
هل هناك صندوق مساعدات مخصص لمرضى السرطان؟
الدول المانحة لفلسطين لا تضع مسألة معالجة السرطان في اعتباراتها، لأنها تعتبر أن هذه المسألة مسؤولية الحكومات نفسها، لكن المؤسسات والجمعيات العاملة في مجال مشاريع دعم مرضى السرطان، تحاول دائمًا أن تستقطب وتجتذب الممولين والمؤسسات الدولية الداعمة لمرضى السرطان، والحصول على ما يلزم منهم لمساندة المرضى وتلبية احتياجاته.
اختلف الوضع بطبيعة الحال في آلية التعامل مع مرضى السرطان من أكثر من جانب
كيف يتم التعامل مع مرضى السرطان الآن؟
اختلفت أساليب التعامل مع مرضى السرطان من أكثر من جانب، الأول من ناحية استكمال العلاج، فقد توقفت المستشفيات عن استقبال حالات السرطان التي يمكن تأجيل علاجها، وفق تعليمات وزارة الصحة الوقائية، وذلك من أجل حماية مرضى السرطان الذين يعانون من ضعف في المناعة أساسًا.
كما تم فتح ما يُعرف بالعيادات السماعية عبر الهاتف أو الفيديو للحديث مع المصابين بالسرطان، حتى لا يضطروا إلى زيارة المستشفى ومخالطة المرضى، وإذا كان لا بد أن يزوروا المشفى فلا يتم ذلك إلا وفق ظروف وترتيبات معينة، والتأكد بأنه لا يحمل الفيروس أو خالط أحد المصابين.
أما الجانب الثاني فهو العلاج في الخارج، فاليوم لا يتم تحويل حالات مرضى السرطان إلى مصر، أما بالنسبة إلى الجانب الإسرائيلي، فقد توقف – في بادئ الأمر – تنسيق دخول الحالات إلى أراضي ال48 لاتمام العلاج، ما عدا الحالات الخطرة جدًا التي تحتاج إلى مداخلة سريعة.
لكن مؤخرًا تكمن الخطورة في وقف التنسيق الأمني بشكل كامل مع الجانب الإسرائيلي، وسيترتب على هذه الخطوة أزمة إنسانية صعبة بسبب وقف تنسيق دخول مرضى السرطان والأطفال مرضى القلب المفتوح عبر المعبر مع الاحتلال، لاستكمال علاجهم في الداخل الفلسطيني المحتل أو الضفة الغربية أو الأردن.
لماذا لا يوجد برامج رعاية صحية خاصة بمرضى السرطان؟
يمكننا القول إن السبب الأول هو ارتفاع تكلفة علاج السرطان بشكل عام، نظرًا لطول مدة العلاج، وهي مشكلة موجودة في عدة بلدان حول العالم، لكن الأزمة تزداد سوءًا لأن قطاع غزة يُعاني من أزمات اقتصادية حادة.
الوزارة كانت تعمل قبل أزمة كورونا على وضع خطة طويلة الأمد لاستيعاب أزمة مرضى السرطان في القطاع
ونتيجة للأزمات الاقتصادية التي تعانيها الأجهزة الحكومية الفلسطينية، لم يتم توفير ميزانية مخصصة لمرضى السرطان، لدرجة أن وزارة الصحة في غزة لم تقدم حتى وجبات غذائية لمرضى السرطان في مستشفيات القطاع لمدة 13 شهرًا، وعليه تتبرع الجمعيات وأهل الخير من أجل توفير الغذاء للمرضى.
أما السبب الثاني، فهو النقص الكبير في عدد الكوادر والطواقم الطبية، الواقعة الذي تسببت فيه حالة الركود السياسي وعدم الانتظام في تقديم الخدمات اللوجيستية من خلال الجهات الممولة وكذلك المتبرعين.
وبالنسبة إلى السبب الثالث، فأن تركيز وزارة الصحة الفلسطينية وكذلك الممولين في الآونة الأخيرة، اتجه الآن نحو مواجهة فيروس كورونا المستجد لمنع تفشيه وحدوث كارثة إنسانية في القطاع، وانعكس ذلك بتهميش اضطراري غير مباشر أو غير مقصود لملف الأمراض المزمنة الأخرى كالسرطان.
باختصار كان هناك تهميش للأمراض المزمنة قبل الكورونا بسبب قلة الإمكانات، وبعد الكورونا بسبب خطورة العدوى، إلى أن أصبح مرضى السرطان خارج أولويات وزارة الصحة في الوقت الراهن.
كيف يمكن تخطي هذه الأزمة في ظل وجود كورونا؟
لا يمكن تخطي أزمة مرضى السرطان في قطاع غزة في الظروف الحاليّة، إلا في حالة التعايش مع أزمة الكورونا وإعادة وزارة الصحة لترتيب أوراقها بوضع ملف مرضى السرطان في القطاع في أولى أولولياتها.
ويمكن أن يحدث ذلك من خلال إعادة جدولة المواعيد والعلاج ومباشرة الفحوصات المبكرة للسرطان، خاصة للسيدات اللواتي لديهن تاريخ مرضي بسرطان الثدي، مع ضرورة استقطاب الدعم المالي من الدول الداعمة والصديقة، وتركيزها أيضًا على ملف السرطان.
ومن الجدير ذكره أن الوزارة كانت تعمل قبل أزمة كورونا على وضع خطة طويلة الأمد لاستيعاب أزمة مرضى السرطان في القطاع، وكان من ضمن الاقتراحات أن يتم تحويل مستشفى الصداقة التركي إلى مستشفى لمرضى السرطان، نظرًا لكبر مساحته واتساع الرقعة الخضراء فيه وابتعاده عن مناطق الازدحام أو الأزمة، إلا أن أزمة كورونا حالت دون ذلك، وتم تحويل المستشفى التركي إلى مشفى لاستقبال حالات فيروس كورونا.