فشلت فرنسا في تحقيق أهدافها المرسومة في ليبيا، فصوبت جام غضبها نحو تركيا، فهي كانت السبب المباشر في فقدان امتيازاتها في ذلك البلد العربي الذي كانت باريس تعتبره إلى وقت قريب دولة تابعة لها، فلم تتخيل فرنسا يومًا أن تفتك تركيا بنفوذها في منطقة شمال إفريقيا، وتكبد حليفها الأبرز خسائر كبرى، ما جعلها تفقد صوابها وتخرج عن آداب الدبلوماسية، فالخطب جلل عند باريس.
هجوم فرنسي على تركيا
الخارجية الفرنسية أصدرت بيانًا نددت فيه بأي تدخل خارجي مستمر في ليبيا، خاصة بالذكر الدور التركي الذي قالت إنه “غير مقبول ولا بد أن ينتهي”، وقال البيان إن حكومة الوفاق الليبية تواصل الهجوم بدعم تركي “هائل” رغم الموافقة على بحث وقف إطلاق النار.
بالتزامن مع ذلك قال مسؤول في الرئاسة الفرنسية إن محادثات ستُجرى خلال الأيام المقبلة تحت مظلة حلف شمال الأطلسي (الناتو) تشمل تركيا، لبحث الدور التركي “العدواني وغير المقبول”، واتهم المسؤول تركيا – وهي عضوة في الناتو – بخرق الحظر الأممي على تسليح ليبيا، وبزيادة وجودها البحري قبالة ساحلها.
يُعرف عن فرنسا دعمها المتواصل والسخي لخليفة حفتر الذي تتهم قواته بارتكاب جرائم حرب، على حساب رئيس الوزراء المعترف به أمميًا فايز السراج
يفهم من هذا أن باريس – الداعمة لحفتر – ستلجأ إلى حلف شمال الأطلسي بحجة أن أنقرة تجلب الأسلحة لحكومة الوفاق الوطني الشرعية، مستغلة عضويتها بحلف الناتو في ذلك، رغم أن القرارات الدولية تحظر توريد السلاح إلى ليبيا.
وتسعى السلطات الفرنسية إلى إقناع حلف الناتو والدول الأوروبية، بالوقوف في صفها ضد تركيا، بحجة أن حكومة أردوغان تهدد الحلف وتمثل خطرًا على القارة الإفريقية، الأمر الذي تنفيه أنقرة تمامًا، مؤكدة أن وجودها في ليبيا لدعم حكومة الوفاق الشرعية فقط.
فرنسا تسعى جاهدة عبر تحركاتها الخارجية للضغط على تركيا كي توقف دعمها العسكري لحكومة فائز السراج، رغم أن تدخل أنقرة في ليبيا شرعي وجاء عبر اتفاقيات مع حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من الأمم المتحدة.
حماية حليفها حفتر
حديث فرنسا وتحركاتها الأخيرة جاءت بعد صمت طويل، فمنذ بداية تحركات اللواء المتقاعد خليفة حفتر نحو العاصمة طرابلس لاحتلالها في أبريل/نيسان 2019 التزمت فرنسا الصمت حتى يستطيع حليفها احتلال العاصمة ويحكم قبضته على كامل البلاد.
تحركات فرنسا، جاءت نتيجة حتمية لما يجري على أرض الواقع في ليبيا، فحكومة الوفاق الوطني تمكنت بمساعدة تركيا من استرجاع كل مدن الغرب الليبي التي كان حفتر يحتلها بمعية ميليشياته ومرتزقته، وتستعد الآن لاسترجاع سرت والهلال النفطي والتقدم نحو الشرق.
هذا التقدم العسكري القوي لقوات الشرعية، مثّل انتكاسة كبيرة لحفتر والفرنسيين أيضًا، فقد كان هذا الحلف يمني النفس برؤية طرابلس تحت قبضتهم، وليبيا تحت سيطرتهم، لكن الوفاق استماتت في الدفاع ثم تحولت نحو الهجوم.
يُعرف عن فرنسا دعمها المتواصل والسخي لخليفة حفتر الذي تتهم قواته بارتكاب جرائم حرب، على حساب رئيس الوزراء المعترف به أمميًا فايز السراج الذي تسيطر قواته على العاصمة الليبية طرابلس وعلى غرب البلاد، وذلك ضمن الاتجاه العام للسلطات الفرنسية بدعم موجة الثورات المضادة للربيع العربي.
دائمًا ما تقدم السلطات الفرنسية الدعم العسكري المباشر وغير المباشر لحفتر، رغم عملها على إحاطة عملها العسكري والأمني في ليبيا – بشقيه الرسمي وغير الرسمي – بالكثير من الرقابة التي حافظت على بقائه سرًا أغلب الوقت.
ويشارك جنود فرنسيين إلى جانب حفتر في حربه ضد الشرعية في ليبيا، وسبق أن قتل عدد منهم في تحطم مروحية في مدينة بنغازي فبراير/شباط 2016، كما سبق أن ضبط الأمن التونسي 13 فرنسيًا بأوراق دبلوماسية محملين بأسلحة وذخيرة على الحدود الليبية مع تونس، كُشف فيما بعد أنهم كانوا مع حفتر.
ليس هذا فحسب فدائمًا ما يلتقي الرئيس إيمانويل ماكرون بقائد ميليشيات الكرامة خليفة حفتر في باريس في مسعى منه لإضفاء الشرعية على حفتر رغم كون هذا الأخير لا يمتلك أي وظيفة رسمية في الدولة الليبية ولا يعترف بحكومة الوفاق الشرعية.
الخوف على امتيازاتها في ليبيا
تقول فرنسا إن وجودها في ليبيا يهدف إلى الحفاظ على الأمن الأوروبي، دون أن يكون لها مصلحة خاصة في ذلك، لكن العكس صحيح، فوجودها هناك الهدف منه الاستحواذ على الثروات الليبية والاستئثار بها.
لهذا الشأن دعمت فرنسا ميليشيات حفتر وأعطته الشرعية السياسية، من خلال مبادرة باريس لعام 2017، وذلك بهدف السيطرة على ثروات البلاد، حتى لا يزاحمها فيها أحد، فقد كانت تظن أن قيام نظام عسكري استبدادي في ليبيا سيخول لها التحرك بسهولة في تلك الربوع خاصة أن جيشها موجود في منطقة الساحل والصحراء.
تأمل فرنسا من خلال دعمها لحفتر إلى الاستحواذ على أكبر حصة من النفط الليبي الذي تقدر احتياطاته بنحو 48.36 مليار برميل
دخول تركيا إلى ليبيا وتحالفها مع حكومة الوفاق الشرعية وتوقيعهما على اتفاقيتي ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن الغاز والنفط في المياه الليبية، أربك خطط فرنسا وأسقطها الأرض، فليبيا لم تعد لقمة سهلة عند الفرنسيين.
سيطرة حكومة الوفاق الوطني، على محاور غرب ليبيا واقترابها من منطقة الهلال النفطي وإمكانية إحكام قبضتها على حوض خليج سرت الغني بالغاز الطبيعي الذي يمثل نحو ثلثي الإنتاج الليبي من النفط، جعل فرنسا تتخبط وتوجه التهم إلى تركيا.
وتأمل فرنسا من خلال دعمها لحفتر إلى الاستحواذ على أكبر حصة من النفط الليبي الذي تقدر احتياطاته بنحو 48.36 مليار برميل أي بنحو 3.94% من احتياطي العالم (الاحتياطي الخامس عربيًا)، وانتزاع حصة كبرى للتنقيب والاستكشاف والإنتاج والصيانة فضلًا عن إعادة الأعمار.
تؤكد الخارجية التركية، أن العائق الأكبر أمام إحلال السلام والاستقرار في ليبيا، الدعم الذي تقدمه فرنسا وبعض الدول الأخرى للكيانات غير الشرعية، بشكل مخالف لقرارات مجلس الأمن الدولي، ففرنسا وفق الخارجية التركية تلهث وراء خطط سوداوية في ليبيا كما تفعل في سوريا، وتعمل لمصلحة بعض دول المنطقة.
ما تسعى إليه باريس اليوم هو محاولة إبعاد ليبيا عن العباءة التركية، وهي تحاول في هذا الإطار اللجوء إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي فضلًا عن دول الجوار لدعم حليفها حفتر هناك والتأكيد على الحل السلمي حتى يتفادى حفتر خسائر أكبر وبالتالي تحافظ فرنسا على الحد الأدنى من الامتيازات في ليبيا.