ترجمة وتحرير: نون بوست
في إخفاق واضح للتدابير الأخيرة الرامية للتخفيف من حدة التوترات بين القوتين النوويتين، نشبت مناوشات قاتلة بين الهند والصين على طول حدودهما مساء الإثنين. وبينما لا تزال التفاصيل مجهولة، فإن هذا الاشتباك الدموي يعد الأول من نوعه في المنطقة منذ سنة 1975.
في بيان له، اعترف الجيش الهندي بمقتل ضابط وجنديين. وفي تقارير لاحقة نُسبت إلى مسؤولين، توفي 17 جنديًا آخرين متأثرين بجروحهم، وهي تقارير لم تتحقق منها مجلة “فورين بوليسي” بشكل مستقل. وأكد الجانبان سقوط جنود صينيين أيضا، لكن الرقم غير معروف. (وتجدر الإشارة إلى أن الصين معروفة بعدم الإبلاغ عن عدد الضحايا، ومحو بعض الصدامات من التاريخ الرسمي).
الأهم من ذلك، أنه لم يتم الإبلاغ حتى الآن عن قيام أي من الطرفين بإطلاق أسلحة فعلية. وفيما يتعلق بالوفيات، فالمرجح أن تكون ناجمة عن مواجهات جسدية ربما باستخدام الصخور والقضبان الحديدية. وبالنظر إلى أن القتال وقع في المرتفعات – وتحديدا في “لداخ” التي تعني حرفيا أرض الممرات العالية – فمن الممكن أن يكون بعض الجنود ماتوا جراء السقوط.
أصل النزاع
على الرغم من صداقتهما المبكرة في خمسينيات القرن المنقضي، إلا أن العلاقات بين الهند والصين سرعان ما تبددت بسبب الخلاف على ترسيم الحدود في جبال الهيمالايا الذي لم يفضي إلى تسوية ترضي كلا الطرفين. إن الخطوط الحدودية، التي رسمها البريطانيون إلى حد كبير، غير واضحة ومتنازع عليها إلى حد كبير ــ كما هي حال الممالك في الهيمالايا مثل التبت، وسيكيم، وبوتان، ونيبال- وهو ما أدى إلى اندلاع حرب قصيرة في سنة 1962 انتهت بانتصار الصين. تدعم الصين أيضًا باكستان في نزاعاتها مع الهند، كما أثارت مبادرة الحزام والطريق الصينية المخاوف الهندية، وخاصة ما يسمى الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني الذي يشكل مجموعة من مشاريع البنية الأساسية الضخمة.
لا يقبل أي من الجانبين الحدود الحالية رسميا، وإنما يشار إليها ببساطة باسم “خط السيطرة الفعلية”. في سنة 2017، أدت محاولة من المهندسين الصينيين لمدّ طريق جديد عبر الأراضي المتنازع عليها على الحدود بين بوتان والهند والصين إلى مواجهة دامت 73 يومًا حول هضبة دوكلام، بما في ذلك مناوشات بين الجنود الصينيين والهنود. بعد هذه المواجهة، شيد كلا البلدين بنية تحتية عسكرية جديدة على طول الحدود.
عمدت الهند من جهتها إلى بناء الطرق والجسور لتحسين اتصالها بخط السيطرة الفعلية، مما حسّن بشكل كبير قدرتها على إرسال تعزيزات الطوارئ في حال وقوع مناوشة. في مطلع شهر أيار/ مايو، أدت مناوشة كبرى على طول الحدود إلى تعزيز الجانبين للوحدات المحلية. ومنذ ذلك الحين، تكررت المناوشات الخفيفة دون سقوط قتلى. وقد اتهم كل جانب الآخر بعبور الحدود عمدًا في مناسبات عديدة. ولكن قبل واقعة يوم الإثنين، بدت دبلوماسية البلدين وكأنها تعمل ببطء على تخفيف حدة الأزمة. فقد فتح الجانبان اتصالات دبلوماسية رفيعة المستوى وبدا أنهما مستعدان لإيجاد مخارج مريحة تحفظ ماء وجه كليهما. وكان من المقرر أن يعقد وزيرا خارجية البلدين اجتماعًا افتراضيًا الأسبوع المقبل.
ما يزيد من تفاقم المشاكل هو طبيعة التغيير الفعلي للحدود، التي تمثل أطول خط حدودي مجهول في العالم
بالإضافة إلى ذلك، يمتلك البلدان وسائل إعلام عدوانية للغاية تديرها الحكومة في الصين وشديدة الخصوصية في الهند، يمكنها تصعيد النزاعات وخلق أجواء عامة للقتال. ومع ذلك، يمكن للصحافة العدوانية أن تفتح أيضًا فرصًا غريبة للحد من التصعيد: بعد مواجهة جوية بين الهند وباكستان في سنة 2019، ادعت وسائل الإعلام على كلا الجانبين نوعا من الانتصار لبلدانهم الأمر الذي سمح لقادتهم بالمضي قدمًا.
ما يزيد من تفاقم المشاكل هو طبيعة التغيير الفعلي للحدود، التي تمثل أطول خط حدودي مجهول في العالم، حيث يمكن أن يتسبب تساقط الثلوج والانزلاقات الصخرية وذوبان الثلوج في صعوبة تحديد مكان الخط الصحيح، خاصة أن تغير المناخ يساهم في انهيار الجبال. ومن الممكن تمامًا أن تقتنع كلتا القوتين بأنهما على الجانب الصحيح من الحدود.
هل حدث عنف مماثل في الماضي؟
منذ أن نصبت دورية صينية كمينا للقوات الهندية في سنة 1975 على طول الحدود، لم تسجل أي وفيات أو تبادل إطلاق نار. لكن شهدت الصين مواجهات كبيرة مع كل من الهند والاتحاد السوفيتي في أواخر الستينيات، أي خلال ذروة الثورة الثقافية.
بالنسبة للهند، بلغت هذه الاشتباكات القصيرة والدموية ذروتها على الحدود بين “سيكيم والتبت”، حين سقط مئات القتلى والجرحى من كل طرف. وعلى الحدود السوفيتية، شهد القتال على ضفاف نهر أوسوري عددا مماثلا من القتلى، لكن التوترات مع الصين تصاعدت إلى حد كبير مقارنة بالهند، مما زاد من مخاوف اندلاع حرب وإمكانية استعمال الأسلحة النووية، والتي خفّت بفضل جهود دبلوماسية رفيعة المستوى.
جزئيا، كانت تلك الاشتباكات مدفوعة بالاحتياجات السياسية على الجانب الصيني حيث شعر الضباط والجنود على حد السواء بالحاجة إلى إظهار حماسهم الماوي، مما دفعهم إلى القيام بتصرفات مستفزة على غرار السباحة عبر النهر وهم يلوحون بالكتاب الأحمر لزعيم الثورة الصينية ماو تسي تونغ.
ماذا يمكن أن يحدث بعد ذلك؟
أعلنت الهند أن “كلا الجانبين” يحاولان التخفيف من حدة التوترات، متهمة الصين بانتهاك الحدود عمدا وخرق الاتفاقات التي تم التوصل إليها في المحادثات الأخيرة بين الجانبين. في المقابل، كانت استجابة الصين أكثر تطلبًا حيث اتهمت الهند بـ “تعمّد شن هجمات مادية” في المنطقة – تحديدا في وادي جالوان على طول الحدود التي يُطالب بها كلا الجانبين في لاداخ – التي كانت “دائما لنا”. وحاليا، يجتمع ضباط الجيش في محاولة لحل الوضع.
بينما نجحت محاولات تهدئة أزمة دوكام سنة 2017 – التي عُقدت في أعقابها قمة بين الرئيس الصيني شي جين بينغ مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في مدينة ووهان الصينية – يمكن للأحداث الأخيرة أن تخرج بسهولة عن نطاق السيطرة. وإذا أسفرت مناوشات يوم الإثنين عن عدد كبير من الوفيات، فقد تتراكم الضغوطات اللازمة من أجل الرد والانتقام.
خلق فيروس كورونا حالة من عدم اليقين السياسي المتزايد في الصين، مما أدى إلى ظهور شكل عدواني حديث من دبلوماسية “الذئب المحارب” – التي سميت على اسم فيلم عنيف حقق نجاحًا كبيرًا في الصين لكنه لم يشهد قبولا في بقية العالم. يتعرض المسؤولون الصينيون لضغوط كبيرة ليكونوا قوميين فعليين، وأصبح الاعتدال وضبط النفس سمتان خطرتان بشكل متزايد بالنسبة للقادة السياسيين.
على الجانب الهندي، تزايدت المخاوف بشأن محاولات بكين محاصرة شبه القارة. تعتبر الصين باكستان حليفًا رئيسيًا لها، ناهيك عن أنها تمتلك مصلحة متزايدة في سريلانكا والنيبال، وهما دولتان انقطعت علاقتهما مع الهند في السنوات الأخيرة. كما نجحت الصين في بعث استثمارات ضخمة في البنية التحتية في بنغلاديش.
لقد تغيرت الكثير من المعطيات منذ آخر مرة خاضت فيها الهند والصين اشتباكات دموية في الستينيات والسبعينيات، وذلك في الفترة التي كان فيها حجم اقتصاد كلا البلدين متماثلا. أما اليوم، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للصين خمسة أضعاف الناتج المحلي للهند، وتنفق الصين أربعة أضعاف ما تنفقه الهند على الدفاع.
عرّضت التوترات المتزايدة الهنود في الصين للخطر
من المحتمل أن يؤثر الاشتباك الأخير على المبادلات التجارية. فعلى سبيل المثال، احتشد الهنود مؤخرًا لمقاطعة البضائع الصينية، كما يتضح من التطبيق الأخير تحت اسم “ريموف تشاينا آبس”، الذي تصدّر لفترة وجيزة قائمة التنزيلات على متجر غوغل بلاي بالهند، وذلك قبل أن تتدخل شركة سيليكون فالي الضخمة “غوغل” لحظر التطبيق.
علاوة على ذلك، عرّضت التوترات المتزايدة الهنود في الصين للخطر. فعلى الرغم من انخفاض عدد الجالية الهندية في الصين إلى حد ما بسبب أزمة فيروس كورونا، لا يزال هناك مجتمع كبير من رجال الأعمال والطلاب في البلاد. وخلال أزمة دوكلام، راقبت شرطة بكين الهنود في المدينة وزارتهم في منازلهم.
لا يعني تفاقم الأزمة إمكانية اندلاع حرب شاملة بالضرورة، وإنما على الأرجح استمرار المناوشات والمحادثات المُحتدة على امتداد الحدود لأشهر، وقد يصحبها على الأرجح المزيد من الوفيات العرضية. لكن من الممكن أن تتحول أي من هذه الاشتباكات والمحادثات إلى تبادل حقيقي للنيران بين الجيشين. مع ذلك، تقيد الظروف والتضاريس في جبال الهيمالايا بشدة العمل العسكري، حيث تستغرق القوات ما يصل إلى أسبوعين حتى تتأقلم مع ارتفاع الجبال، كما أن الخدمات اللوجستية والإمدادات محدودة للغاية، إلى جانب ضيق نطاق عمل القوة الجوية. (تتمثل أحد الاحتمالات المقلقة حول حدوث مزيد من الوفيات في تحطم المروحيات، مثل تلك التي قتلت وزيرًا نيباليًا السنة الماضية).
في حالة نشوب صراع عسكري خطير، يعتقد معظم المحللين أن الأفضلية ستكون للجيش الصيني. ولكن على عكس الصين التي لم تخض حربًا منذ غزوها للفيتنام سنة 1979، تخوض الهند قتالًا مستمرا مع باكستان وتمتلك قوة عسكرية أكثر خبرة.
هل يوجد حل دائم؟
حلت الصين خلافاتها الحدودية مع روسيا ودول ما بعد الاتحاد السوفيتي الأخرى في تسعينيات القرن الماضي والألفية الثانية من خلال حملة دبلوماسية جدية من كلا الجانبين ومن خلال تبادل واسع النطاق للأراضي، ولم تعد هذه النقاط محل صراع منذ ذلك الحين. ولكن على الرغم من أن المنطقة المعنية كانت أكبر بكثير، إلا أن النزاعات الإقليمية في جبال الهيمالايا تعد أكثر حساسية وأصعب في حلها.
يعود ذلك إلى سبب واحد، وهو أن السيطرة على المرتفعات على طول الحدود تعطي ميزة عسكرية في الصراعات المستقبلية. تعد قضايا الموارد وخاصة المياه بالغة الأهمية، حيث يعتمد 1.4 مليار شخص على مياه الأنهار التي تغذيها جبال الهيمالايا. وعلى عكس النزاعات التي تكون ثنائية إلى حد كبير على طول الحدود الشمالية، هناك أطراف متعددة معنية في هذا النزاع، وهي النيبال وبوتان والصين وباكستان وبالطبع الهند. أضف إلى ذلك، القوة والقومية المتزايدة في الصين التي تقابلها الوطنية العدوانية على الجانب الهندي. ولهذا السبب تبدو فرص التوصل إلى حل طويل المدى ضئيلة.
المصدر: فورين بوليسي