في هامش معارك السياسة العامة في تونس ومجادلة كفاءة الحكومة ودور الرئيس وعلى هامش اشتباكات البرلمان التونسي المحتدمة؛ تجري معارك أخرى لا تقل أهمية في بناء الديمقراطية في تونس؛ هي معارك الانتقال القيادي في الاتحاد العام التونسي للشغل وفي حزب حركة النهضة، وهما – كما قال راشد الغنوشي ذات يوم – الحزبان الوحيدان في البلاد اللذان يعوّل عليهما في إدارة الشأن السياسي وفي بناء الديمقراطية.
تعيش النقابة أزمة انتقال قيادي ويعيش حزب النهضة معركة مماثلة، وسنحاول هنا النظر في المعركتين وتأثيرهما على بناء الديمقراطية.
الفصل 20 في قانون النقابة ضمانة الانتقال القيادي الديمقراطي
قبل الثورة كان قانون المنظمة الداخلي لا يحدد المدد النيابية للمسؤول النقابي، لذلك مكث بعض النقابيين في مواقعهم لأكثر من عشر سنوات، لكن بعد الثورة تمت الاستجابة لمطالب داخلية قديمة بتحديد مدد النيابة بفترتين، فتم إقرار ذلك ضمن تعديل داخلي (مؤتمر طبرقة) فصارت 10 سنوات هي الحد الأقصى لبقاء مسؤول نقابي في موقعه. وغادر المنظمة بمقتضى التعديل نقابيون متفرغون دومًا ويعتبرون قيادة تاريخية مقدسة. لكن مع اقتراب المؤتمر الانتخابي للمنظمة عرف نقابيون كثر أنهم في طريق مغادرة مواقعهم ولذلك بدأ الحديث عن مؤتمر استثنائي غير انتخابي يتم فيه تجديد جزئي مع الحفاظ على القيادة الحالية وربما يتم رشوة إطارات وسطى بالنقابة للبقاء في مواقعهم نظير موافقتهم على فكرة المؤتمر الاستثنائي لإنقاذ القيادة الواقفة على باب الخروج ومنهم أغلبية المكتب التنفيذي الحالي.
وقد بدأت أصوات الرفض تسمع، فالمؤتمر الاستثنائي يعني تكلس القيادة والمنظمة ومنعها لكل نفس تجديد وتغيير، أي خروج المنظمة من سياق التغيير الديمقراطي وهي الروح التي بثتها الثورة في المنظمات والأحزاب.
تقف المنظمة هنا أمام منعرج حاسم فإما التزام قوانينها الداخلية (الفصل 20) وعدم تفصيل التراتيب الداخلية على مقاس القيادة الحالية أو النكوص إلى تراتيب ما قبل الثورة ومنع كل تغيير.
يحرم النكوص القيادة النقابية من تطوير إمكانياتها فالقيادة الحالية فقدت الكثير من شرعيتها بما اتخذت من مواقف وما سطرت من سياسات احتجاجية جعلت المنظمة تقف ضد رغبة الشعب التونسي في بناء دولته الجديدة (الجمهورية الثانية). ليس لدينا كبير أمل في أن القيادات الطامحة إلى المواقع لديها سياسات نقابية مختلفة عن الموجودة الآن ولكن الديمقراطية مسار لا نقطة قد يكون الوصول بداية تغيير المواقع والخيارات وهناك خيارات في العمل النقابي ونرى النقابة محتاجة إلى تغيير منهجيتها في المعارضة الاجتماعية.
القيادة الطامحة لم تقدم داخل الحزب ولا خارجه برامج قيادية تكشف اختلافها عن منهج الزعيم المؤسس
حزب النهضة يريد أبعاد الغنوشي
موقع الزعيم التاريخي المؤسس محل جدل في حزبه. والصف الأول يريد التخلص منه وتغيير الطاقم القيادي. هنا أيضًا نتابع معركة انتقال قيادي لا تبدو واعدة بديمقراطية كبيرة. يقول الطامحون إلى القيادة أن الغنوشي أطال المكوث في موقعه واستعمل الحزب في رؤيته السياسية وهمش القيادات التاريخية واستعمل وسائل غير ديمقراطية في إدارة الحزب.
لكن القيادة الطامحة لم تقدم داخل الحزب ولا خارجه برامج قيادية تكشف اختلافها عن منهج الزعيم المؤسس فلا نجد لها في ساحة الأطروحات أطروحة فكرية مختلفة ولا في سوق السياسة منهجًا مختلفًا عن المشاركة ضمن الطيف السياسي الظاهر أي إعادة تسويق التوافقات التي سار عليها الغنوشي منذ الثورة وربما قبلها وإن لم يفرض خياراته التوافقية خاصة في بداية مجزرة بن علي للحزب عام 1990.
نلاحظ على سبيل المثال أن الحزب الآن بقيادة الغنوشي يجنح يمينًا ولكن القيادة التي تعرض نفسها لا تقدم أطروحة يسارية قد توجه إليها الحزب وتقود به معركة اجتماعية بل يشترك الجميع في القول أن الحزب مازال تحت تهديد الاستئصال السياسي (والأمني) بما يمنع أي أطروحة تطويرية غير الدفاع عن الكيان الحزبي في وجه الاستئصال.
إذن، لماذا قد يغيرون الغنوشي بنسخة منه أقل قدرة على القيادة؟ ليس لأي قيادي من الصف الأول أي كتاب منشور يتحدث عن برامج أو اختيارات سياسية، بعضهم لم ينشر مقالًا علميًا أو سياسيًا منذ ظهر في قيادة الحزب مقارنة بإنتاج الغنوشي الفكري وهو يمثل اجتهادًا متميزًا في حقل الإسلام السياسي في مستوى الوطن العربي وربما في العالم.
هل تكفي الحجة الصحية لإقصاء القيادي الأول؟ نعم إنها حجة عادلة ولكن ليس لها ما يعاضدها بما يجعل كل طموح قيادي للتغيير هو كموح شخصاني لا يدل على إنضاج أطروحات حكم يقاد بها الحزب إلى مسار مختلف.
في الأثناء لا يقدم الغنوشي أي مبرر للبقاء في الموقع الأول سوى ما يروج أنصار بقائه بأنه صار شرط وجود للحزب وهو قول قاصر لا يؤمن بالتغيير ويؤجل كارثة التغيير القدري عندما تحل بلا مقدمات. فطلاب التغيير كما طلاب المحافظة مصرون على طلب مواقع لا على اقتراح أطروحات.
التحدي الديمقراطي
تشترك القيادات النقابية الطامحة للبقاء الأبدي مع الغنوشي في أنهم لا يرون العالم يسير بدونهم ويشترك الطامحون إلى القيادة والتغيير إلى الفوز بمواقع لا تقدم بدائل ولكن تستفيد من المواقع بما يجعل كليهما في سياق واحد المحافظة ضد التغيير. إنه نفس الوضع السياسي والأخلاقي الذي وجد فيه بورقيبة نفسه يوم فرض على حزبه الرئاسة مدى الحياة (1974) ونفس خيار بن علي لما عدل الدستور سنة 1999 ليبقى إلى الأبد رئيسًا.
يبقى الحديث عن الديمقراطية محصورًا فيمن بنى بناء وتمسك به فهو يجادل من داخل بنائه لا من خارجه
مع الإشارة إلى تفصيل مهم جدًا بخصوص حزب النهضة بالذات (تفصيل لا تعيشه المنظمة النقابية) وهو أنه كلما اتجه الحديث إلى تغيير داخلي بالأسلوب الديمقراطي سلطت على الحزب ممارسات استئصالية أجلت التفكير في التغيير خوفًا على الحزب واتخذها أعداء التغيير ذريعة (فكأن الغنوشي وفريقه تساعدهم الأقدار على إعادة تدوير الخطاب المحافظ الخائف من الانتقال القيادي).
أمامنا حالتين من حالات البقاء غير الديمقراطي الذي فاجأته الأحداث الديمقراطية وفرضت عليه أسلوبها في التغيير الديمقراطي. فالذين لا يتخيلون العالم بدونهم يشبهون كل دكتاتور أتت عليه الأزمة وأثبتت خطأه في التقدير.
غني عن القول هنا أن الذين لم يفلحوا حتى بناء أحزاب صغيرة ويتحدثون عن التغيير داخل المنظمات والأحزاب لا محل لهم فهم عناوين فشل لا عناوين ديمقراطية. لذلك يبقى الحديث عن الديمقراطية محصورًا فيمن بنى بناء وتمسك به فهو يجادل من داخل بنائه لا من خارجه. وإن كان يحق لكل ملاحظ خارجي أن يقرأ الوقائع والأسلوب.
نختصر فنقول تربح الديمقراطية ولا تخسر عبر سلاسة الانتقال القيادي، فالتغيير السلس في القيادات يجنب المنظمات الهزات العنيفة والانشقاقات الكاسرة والمنظمة النقابية كما الحزب الأول في البلاد واقفون الآن على شفير انكسار جبار قد يكون مؤذنًا بانكسار الديمقراطية. فقد كان وجودهما رغم اختلافهما وعداوتها الظاهرة والكامنة سبيلًا لإدارة حوار سياسي ضمن عدم جنوح البلاد إلى العنف والفوضى.