سلطت عمليات القصف المدفعي التي قام بها الحرس الثوري على منطقة الحاج عمران التي تقع في إقليم كردستان العراق، التي يتمركز بها مقاتلو الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وحزب الحياة الحرة الكردي بيجاك، الأضواء على الطبيعة المعقدة للعلاقات الإيرانية الكردية، التي شهدت بدورها العديد من المحطات التاريخية المؤثرة، كانت بدايتها العملية مع إسقاط جمهورية مهاباد الكردية التي أسسها القاضي محمد مع مصطفى البرزاني في 22 من يناير 1946، إلا أن الضغط الكبير الذي مارسه الشاه الإيراني آنذاك رضا شاه على الولايات المتحدة، من أجل سحب القوات السوفيتية من الأراضي الإيرانية، كان كفيلًا بإسقاط هذه الجمهورية بعد 11 شهرًا من قيامها.
شكل الأكراد حالة معقدة في البيئتين الداخلية والخارجية الإيرانية، وذلك بسبب امتداد الأكراد إلى أكثر من مساحة جغرافية، وهو ما جعلهم قومية مترامية الأطراف، كما هو حال القوميات الأخرى في إيران، وعلى الرغم من التعاطي الإيراني الحذر مع المتغير الكردي، فإنها لم تصل معه إلى تسوية شاملة، كما حصل مع الأذريين الإيرانيين، مع التأكيد هنا أن الآلة العسكرية الإيرانية كانت الأكثر حضورًا في مسار العلاقات بين إيران والأكراد.
ومع الإشارة هنا أنه لا توجد حتى الآن إحصائية رسمية دقيقة توضح عدد الأكراد في إيران، لكن يمكن القول إنهم يشكلون القومية الثالثة في إيران بعد الفرس والأذريين، في ظل تغييب واضح لهويتهم القومية والثقافية، ومحدودية واضحة في تولي المناصب الرسمية في البلاد.
واقع الأكراد بعد ثورة 1979
استمرت المعاناة الكردية حتى بعد قيام الثورة في إيران عام 1979 التي أدى فيها الكرد دورًا كبيرًا، وذلك من خلال تحالفهم مع الحركات اليسارية في إيران، كما أنهم دعموا المرشد الأعلى للثورة الخميني من أجل الوصول إلى السلطة، على أمل تحسين وضعهم السياسي والثقافي والاجتماعي الذي كان مهمشًا في عهد الشاه، إلا أن الوضع سرعان ما تغير، إذ عمل الخميني على استبعاد الكرد من عملية صياغة الدستور الجديد للبلاد عام 1979، كما فعل مع أغلب القوى اليسارية والقومية الأخرى، ونتيجة هذه الخطوة رفضت القوى السياسية الكردية مسودة الدستور الجديد، مما دفع الخميني إلى الإفتاء بتكفير الكرد، وهو ما أدى إلى استخدام القوة العسكرية ضدهم، فبدأت المدافع والدبابات والطائرات الإيرانية قصف القرى والمدن الكردية غرب إيران، وهو ما دفع الكرد إلى إعلان “الكفاح المسلح” الذي استمر منذ عام 1979 وحتى العام 1988.
تجدر الإشارة إلى أن الكرد لعبوا دورًا كبيرًا خلال الحرب العراقية الإيرانية، من خلال تقديم الدعم والإسناد للقوات العراقية، على أمل أن تسقط هذه الحرب النظام السياسي في إيران، إلا أنها لم تؤد إلى النتيجة المرجوة، حيث اعتقلت قوات الحرس الثوري العديد من القيادات الكردية ونفذت حكم الإعدام بها، كما أنها دمرت ما يقرب من 271 قرية كردية في المناطق الكردية بإيران.
حقق الأكراد في العراق مزيدًا من التمظهر الثقافي والسياسي والأمني، ما جعلهم قوة سياسية وأمنية تتمتع بكل مقومات الدولة
على الرغم من تأكيد الدستور الإيراني الصادر عام 1979، على عدم التمييز بين الإيرانيين على أساس العرقية والقومية، كما جاء الفصل الثالث منه، فإن الكرد شأنهم شأن القوميات الأخرى غير الفارسية في إيران، عانوا من تهميش واضح في حقوقهم السياسية والاقتصادية والثقافية، إذ لم يتم إعطاؤهم الحق في إطلاق التسميات الكردية على المناطق والمدن التي يقطنون بها، فضلًا عن عدم منحهم الحق في ممارسة الوظيفة العامة في البلاد على مستوى المناصب الرسمية الرفيعة، إلى جانب القيود التي تم فرضها على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وغيرها، كما يعاني الأكراد من واقع آخر أشد تعقيدًا، فرغم أنهم قومية كردية، فإن أغلبهم على المذهب السني، ما جعلهم يحملون وزر القومية والمذهب في آن واحد.
وما ساهم في تعقيد الأوضاع الكردية في إيران أكثر، ما وصل إليه الأكراد في العراق، وتحديدًا بعد عام 2003، إذ حققوا مزيدًا من التمظهر الثقافي والسياسي والأمني، ما جعلهم قوة سياسية وأمنية تتمتع بكل مقومات الدولة، وهو واقع يفتقر له الأكراد في إيران، وعلى الرغم من نجاح الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي 1997-2005، في التخفيف من هذه الاحتقانات الكردية بعض الشيء، فإن مجيء الرئيس الإيراني محمود أحمد نجاد عمق هذه الاحتقانات أكثر، من خلال إعادة القبضة الأمنية للحرس الثوري على هذه المناطق، واستهداف وملاحقة الكثير من الشخصيات الكردية في إيران وخارجها، وهو وضع سار عليه الرئيس حسن روحاني أيضًا.
معضلة الربط بين الأكراد والأمن القومي
تثبتت المخاوف الأمنية الإيرانية بعد فتح حزب العمال الكردستاني التركي فروع له في العديد من الدول، ولم تكن إيران بدورها ببعيدة عن تأثيرات هذا الحزب، إذ شهد عام 2004 ولادة حزب الحياة الحرة الكردي بيجاك في إيران، وهو فرع لحزب العمال الكردستاني التركي، ولا بد من التأكيد أن العلاقات السياسية بين إيران وحزب العمال الكردستاني التركي كانت قوية جدًا، خصوصًا خلال الفترة التي كان فيها زعيم الحزب عبد الله أوجلان في سوريا، إذ نسجت إيران خلال هذه الفترة علاقات قوية مع أوجلان، وذلك على حساب تجاهل أوجلان للمظالم الكردية في إيران، إلا أن هذه العلاقات لم تدم طويلًا، خصوصًا بعد التقارب الكبير الذي حصل بين تركيا وسوريا، الذي كانت أبرز نتائجه تسليم أوجلان لأنقرة، وهو ما شكل بداية فك الارتباط بين إيران وحزب العمال الكردستاني التركي.
حيث اعتقلت إيران وأعدمت كذلك العشرات من عناصر الحزب المقيمين بها، كما قام حزب الحياة الحرة الكردي بتحييد عناصره عن التطورات الداخلية الإيرانية التي شهدتها إيران عام 2009، كما أن الإدارة الأمريكية آنذاك، حاولت في العديد من المرات التقارب مع هذا الحزب وقدمت دعوة رسمية لزعيم الحزب عبد الرحمن حاجي أحمدي لزيارة واشنطن وتقديم كل وسائل الدعم المالي والعسكري، مقابل تخلي الحزب عن الإشارة إلى حزب العمال الكردستاني التركي في أدبياته السياسية، خصوصًا أن الولايات المتحدة تعتبر حزب العمال الكردستاني التركي منظمة إرهابية، إلا أن عبد الرحمن رفض العرض الأمريكي وفضل الارتباط الإيديولوجي على العلاقات مع الولايات المتحدة.
مما يدلل على التأثيرات الإقليمية للمشكلة الكردية، كانت دول الشرق الأوسط الأربعة ذات القوميات الكردية الكبيرة (تركيا وإيران والعراق وسوريا) قبل تسعينيات القرن الماضي وحتى بعد هذا التاريخ، ترتبط بعلاقات أمنية فريدة مثلت فيها القضية الكردية حافزًا رئيسًا، إذ عملت كل من سوريا وإيران على توظيف الكرد في صراعهم ضد تركيا، في حين وظفت تركيا الطرف الكردي العراقي “الحزب الديمقراطي الكردستاني” في صراعها مع إيران، في حين احتفظت إيران بنفوذها مع الطرف الآخر “الاتحاد الوطني الكردستاني”.
أما التأثير العراقي على الكرد، فقد انحسر على الطرف الكردي الإيراني، وخلال الحرب العراقية الإيرانية تحديدًا، أما على الجانب التركي، فقد احتفظ العراق بعلاقات مرحلية مع حزب العمال الكردستاني التركي، خصوصًا خلال فترة تصاعد الخلاف بين العراق وتركيا إثر تمركز القوات التركية في معسكر بعشيقة شمال العراق، إلا أن العلاقات توقفت نوعًا ما بعد هذه الأزمة، أي أن الكرد تحولوا إلى إحدى أوراق الصراع الإقليمي بين القوى الإقليمية المتصارعة، وهو ما غيب القضية الكردية وأدخلها في متاهات وحسابات إقليمية معقدة، وهو أيضًا ما أكدته التداعيات الإقليمية والدولية لاستفتاء إقليم كردستان العراق عام 2017، التي أظهرت حالة من الإجماع الإقليمي بين الدول الأربعة، في القضاء والوقوف بوجه الطموحات الكردية الانفصالية.
يأتي القصف الإيراني مؤخرًا على المناطق الكردية العراقية بعد يوم واحد من غارات شنتها طائرات حربية تركية، استهدفت عدة مناطق في مخمور وسنجار
تحاول إيران دائمًا الربط بين أمنها القومي وتأثير المتغير الكردي، كونه أحد أكثر المتغيرات النشطة في الساحة الإيرانية، مقارنة بالقوميات الأخرى، ما جعل إيران تنظر إلى محاولات الأكراد في إيران أو في الدول الأخرى التي يوجدون بها، لتشكيل نواة دولة قومية في المنطقة، بأنه مقدمة عملية لتقسيم إيران مستقبلًا، ولهذا نجد أن إيران لعبت دورًا فاعلًا في إفشال استفتاء استقلال إقليم كردستان العراق عام 2017، كما أنها عملت على تضييق الحصار الاقتصادي على الإقليم بالتعاون مع تركيا، وعلى الرغم من محاولتها تكرار نفس السيناريو في سوريا، فإنه بسبب بيئة الصراع المعقدة هناك، لم تتمكن إيران من تطبيق سياساتها حيال الأكراد، إلا في الإطار الذي يتعلق بنظام بشار الأسد، فهم يدركون أن السماح للأكراد بتشكيل كيان كردي مستقل على طول الشريط الحدودي الشمالي العراقي السوري، يعني مزيدًا من الضغوط الأمنية والاقتصادية عليها، وتحديدًا من “إسرائيل” والمملكة العربية السعودية.
إن النجاح الإيراني في إفشال تجربة إقليم كردستان العراق، لم يفلح في وضع حد للطموحات الكردية فيها، وعلى الرغم من بيانات التهدئة التي أعلنتها الأحزاب الكردية الإيرانية في فترات متباينة، لم تثمر في خلق جو من الاستقرار الأمني والسياسي في مناطق كردستان إيران، وهو ما يؤشر لعمليات القصف الصاروخي المستمرة التي يشنها الحرس الثوري على مدن كردستان إيران أو على قواعد عسكرية كردية إيرانية في إقليم كردستان العراق، ففي عام 2019 هاجم الحرس الثوري مواقع لحزب الحياة الحرة الكردي بالطائرات المسيرة والصواريخ قرب الحدود مع مناطق إقليم كردستان العراق، وتتكرر الاشتباكات في هذه المناطق بين القوات الإيرانية والجماعات المسلحة الكردية، التي تتخذ من العراق المجاور قاعدة لها، من أجل تحقيق الحكم الذاتي لكردستان إيران.
يأتي القصف الإيراني مؤخرًا على المناطق الكردية العراقية بعد يوم واحد من غارات شنتها طائرات حربية تركية، استهدفت عدة مناطق في مخمور وسنجار، وعلى الرغم من أن هذه الهجمات الصاروخية والجوية تأتي مترافقة مع الأيام الأولى لحكومة السيد مصطفى الكاظمي، يمكن القول إنها جاءت بعد تنسيق أمني عالٍ بين العراق وإيران وتركيا.
ففي بداية الشهر الحاليّ زار قائد قوة القدس إسماعيل قآني، بغداد، وتبعته زيارة لرئيس جهاز المخابرات التركية هاكان فيدان لبغداد الأسبوع الماضي، ما يعني أن هذا الأمر قد يكون توجهًا ثلاثيًا لتصفير هذا الملف في المرحلة المقبلة، إذ شدد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف خلال زيارته لأنقرة يوم الإثنين الماضي، على أهمية التعاون المشترك بين البلدين في مواجهة مثل هذه التهديدات.
والجدير بالذكر أن وزارة الدفاع التركية أعلنت بدء عملية عسكرية “مخلب النمر” في شمال العراق ضد حزب العمال الكردستاني التركي، وهي عملية لاقت دعمًا ضمنيًا من إقليم كردستان العراق على لسان رئيسه نيجيرفان بارزاني الذي قال إن وجود حزب العمال الكردستاني التركي وحزب الحياة الحرة الكردي الإيراني، يشكل حالة عدم استقرار أمني في المثلث العراقي التركي الإيراني.