ربما يستغرب البعض الحديث عن الاتحاد الأوروبي حول ظاهرة العنصرية التي تفجرت بالولايات المتحدة أثر مقتل المواطن الأمريكي من أصل إفريقي جورج فلويد على يد بعض عناصر الشرطة، خاصة أن الاتحاد ليس له أساس يذكر في الأزمة حتى توجه إليه أصابع الاتهام، ولكن للعنصرية بأوروبا مسيرة حافلة في مجاهل القرون الوسطى.
ولنكن أكثر إنصافًا في حديثنا فأن أوروبا أفضل بكثير من الولايات المتحدة في قضايا العرق، فهي تملك بالفعل أفضل أنظمة اندماج اجتماعي في العالم، وأفضل برامج حماية ورعاية صحية شاملة، عدا عن قوانينها التي تحارب بواسطتها كل مظاهر العنصرية وكره الأجانب .
إذ تشمل تشريعات الاتحاد الأوروبي آليات واضحة لمواجهة كل الجرائم ذات الصلة بمكافحة العنصرية مثل كره الأجانب والجرائم التي ترتكب بدافع التحيز، بما يضمن حظر التمييز على أساس الأصل العرقي أو الإثني في مجالات الحياة المختلفة وخاصة العمل، ولكن الإرادة البيضاء التي تريد القفز نحو «المساواة» الحقيقية ومنع انتشار التعصب والكراهية، لا زالت غائبة والنظام القانوني للاتحاد الأوروبي ينتهك باستمرار.
جرائم لا يمكن إخفاؤها
تكشف تقارير عدة أن العنصرية لا يمكن إخفاؤها حتى بين جدران الاتحاد نفسه، وتتضح بشدة في مستوى تمثيل السود بأروقة المؤسسة العملاقة المختلفة، الذين لا يزيدون عن 24 مندوبًا من 705 مندوبين بيض، مما يعني أن مستوى تمثيلهم أكثر بقليل من 3٪ على الرغم من أن عدد السكان السود في البلدان الأوروبية، يتجاوزون حوالي 10٪ من إجمالي السكان.
يعرف السود جيدا، أن خطاب الكراهية السياسي والتطرف اليميني الذي استهدف من قبل المسلمين واللاجئين في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، لن يضعهم بمرتبة أعلى من ذلك
قضية التمثيل التي يمكن الاختلاف عليها، إذا ما تصورنا على الفور من ذكر إحصائية على هذه الشاكلة، أن معيار التواجد في وظيفة كان يجب أن يكون للكفاءة وليس اللون، ولكن واحدة من هؤلاء الـ 24 من أعضاء البرلمان الأوروبي وهي “أليس كونكي” ممثلة حزب الخضر السويدي، ترفض هذا التصور.
تشعر السياسية السويدية الشابة بالخجل، لأنها لا تمثل جميع الأوروبيين، وتعتبر أن مستقبل هذه البلدان مرهون بزيادة عدد الذين يبدون مختلفين ولديهم خلفيات مختلفة.
ما تقوله كونكي، يتفق مع تقارير الاتحاد نفسه، الذي كشف في إحصائية منتصف العام الماضي، أن 1 من كل 3 سود يعانون من مضايقات عنصرية، و4 من كل 10 لا يرون فائدة أصلًا من إبلاغ السلطات بما تعرضوا له.
يعرف السود جيدًا، أن خطاب الكراهية السياسي والتطرف اليميني الذي استهدف من قبل المسلمين واللاجئين في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، لن يضعهم بمرتبة أعلى من ذلك، حتى لو كان تاريخهم في هذه البلدان يمتد لنحو 4 قرون من المعانة بكل أشكالها وأنواعها.
كما تكشف تقارير الاتحاد أيضًا، أن 15 دولة فقط من أصل 28 دولة أعضاء، هم الذين لديهم خطط عمل واستراتيجيات جدية لمكافحة العنصرية والتمييز العرقي، وباقي البلدان تتجاهل التعامل مع الثغرات الكبيرة في القوانين الوطنية التي تجرم العنصرية.
مسئولية أوروبا عن تفشي العنصرية
ما يحدث الآن في الغرب بشكل عام، وأوروبا بشكل خاص ليس محض صدفة، بل كان متوقعًا منذ أكثر من عشر سنوات، وربما أصدق التقارير التي تنبأت بالأوضاع الجارية، تقرير وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية عام 2008، الذي حذر من زيادة عدد حالات العنصرية والتمييز.
كشف التقرير الذي ذكرت به الوكالة العام الماضي خلال تقرير جديد، عن التواطؤ الذي جرى أنذاك من البلدان الأوروبية، وتعنتها في عدم استخدام التشريعات الأوروبية لمكافحة هذه الظواهر بشكل فعال.
كان الوقت لا زال بعيدًا عن إشكاليات تضخم ملف الهجرة بفعل اشتعال بلدان الربيع العربي، ولكن بدا واضحًا أن هناك سوء نية على أقل تقدير، لاختزال الحقوق والحماية من التمييز والعنصرية في مجرد نظريات تردد بالمؤتمرات الفخمة، دون ترجمة حقيقية على الأرض.
أمام تفشي العنصرية، حاولت مفوضية الاتحاد الأوروبي إظهار العين الحمراء، وأرسلت تحذيرات إلى 14 دولة من دول الاتحاد الأوروبي
يمكن القول أن منهج «العلمانية اللينة» المتسامحة مع جميع المرجعيات، بما فيها المرجعيات الدينية التي تتبعها بريطانيا، كان سبب تسجيل مواقف قوية في مكافحة التمييز منذ عام 2006-2007، حيث كانت أهم دولة أوروبية وأكثرهم جدية في فرض عقوبات أكثر ردعًا لوأد تكاثر الظاهرة.
هذه الإجراءات البريطانية، تزامنت مع صعود مماثل للعنصرية والتمييز بجميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، إلا أن 12 دولة على رأسهم ألمانيا وسلوفاكيا فضلوا تجاهل القضية تمامًا، ولم يطبقوا أي عقوبة جامعة متفق عليها، رغم سلطوية الاتحاد الأوروبي، وقدرته عبر لوائحه الداخلية على فرض قوانينه على الجميع، بغض النظر عن الاختلافات المحلية في قوانين البلدان الأوروبية.
في ضوء هذا التجاهل، ارتفع عدد الهجمات المرتكبة بدافع العنصرية وكراهية الأجانب في ألمانيا بزيادة 20% في حوالي 6 سنوات فقط حتى عام 2006، كما تضاعفت الأرقام ثلاث أضعاف في سلوفاكيا بسبب رفض البلدين مقاضاة التمييز جنائيًا، وتعنتهما في فرض أي عقوبة أو غرامة لهذا السبب.
أمام تفشي العنصرية، حاولت مفوضية الاتحاد الأوروبي إظهار العين الحمراء، وأرسلت تحذيرات إلى 14 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، ونبهتهم إلى خطورة عدم تنفيذ أحكام الاتحاد الأوروبي وقوانينه للقضاء على هذه النبتة التي قد تهدد مستقبل أوروبا بأكملها.
استكملت هذه البلدان طريقها في التعنت رغم تزايد الشكاوي، وضيقت في المقابل على مكاتب الوكالات المعنية بحقوق الإنسان والحريات، وكأنها تريد ترسيخ ثقافة جديدة، تفرض على السود القبول بمعاملة غير متساوية بالعمل وفي استئجار المنازل والتعليم والصحة.
كل هذا قوض جهود وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية، التي أنشأت عام 2007 لتعويض الدور الذي كان يلعبه المركز الأوروبي لرصد العنصرية وكره الأجانب، ولم ينتبه أحد لتقارير الوكالة، ولا تنبيهاتها المتكررة لمؤسسات الاتحاد والدول الأعضاء بشأن انتهاكات الحقوق الأساسية، التي تعززها آلية موثقة في جمع البيانات وتحليلها.
وجهًا لوجه أمام المرآة
رغم القوانين الصارمة، والنداءات التي خرجت منذ عقدين للقضاء على هذه الظواهر المشينة، لم يستطع الاتحاد فرض قيمه وتصوراته العامة وتحذيراته على أعضاءه، ما فتح الباب على مصراعيه لصعود الشعبوية، التي تضع الاتحاد الأوروبي على حافة الهاوية، بعدما أصبح يواجه حزمة مشكلات بسببها لم يسبق لها مثيل.
يحتاج الاتحاد إلى تفعيل ترسانة القوانين التي يملكها وعلى وجه السرعة حتى لا يضطر السود في النهاية إلى تبني أساليب أكثر عنفا تحرق الأرض
ومعروف تاريخيًا أن أكثر الأزمات التي واجهت الاتحاد الأوروبي، كانت في أغلبها أزمات فردية، سواء النزاع على الميزانية مع مارجريت تاتشر في الثمانينيات، أو التجاذبات بين الدول المختلفة لإقرار الدستور الأوروبي عام 2005، ولكن الآن أصبح الأوروبيون أمام مواجهة خاصة مع الإرهاب، ومع تفشي التطرف القومي والشعبوي، الأمر الذي انعكس في النهاية على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
نفس الخطر يواجه فرنسا بسبب صعود اليمين المتطرف هناك، وبعض المراقبين يؤكدون أن تولي يمينية عنصرية مثل مارين لوبان رئاسة فرنسا، يعني بداية القضاء على أوروبا وعودتها للعصور الوسطى.
القضية هنا ليست متعلقة فقط بالعنصرية وكراهية الأجانب والإسلاموفوبيا، بل ستتخطى نيران التطرف اليميني لتلتهم كل شيء، بما في ذلك أسس الأنظمة السياسية التي تضمن استمرار التحالف مع البلدان الآخرى.
وتحاول لوبان هدم المصالحة التاريخية بين ألمانيا وفرنسا، التي هي أساس أوروبا الآن، ولهذا يتخوف مناهضون لصعود اليمين المتطرف من فوز لوبان، التي تقيس ارتفاع شعبيتها في الشارع، بالمزيد من كسر النظام السياسي الفرنسي والتزاماته الدولية في ضوء شعارها “فرنسا أولاً”.
شعار لوبان الذي تقف خلفه يتضمن تصورات أكثر تطرفًا حتى عن شعار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب «أمريكا أولًا»، وهي شعارات في مجملها تعيد إحياء نبتة التطرف، وتودع العولمة إلى مثواها الآخير، وتضرب التعاون الغربي والعالمي في مقتل، بفعل الانعزال والتقوقع حول الذات من جديد.
ربما تكون حالة الطوارئ الحالية بسبب تصاعد الاحتجاج على العنصرية مناسبة للغاية، لوضع الاتحاد الأوروبي أمام المرآة، ودراسة كل ما يمثل تهديدًا لقيمه التأسيسية التي وضعت حقوق الإنسان في صدر أولويات بلدانه.
في كل ملاحظات الاتحاد الأوروبي على بلدان الشرق الأوسط، كان يضغط على القوى المتصارعة لتحويل نقاط ضعفهم إلى قوة، ودارت المقادير وجاء الوقت الذي أصبح الاتحاد هو نفسه في أمس الحاجة لهذه النصائح، لتحويل التهديدات -التي قد تصفي المشروع الأوروبي إذا استمرت التجاوزات المجحفة لأعضاءه وانتهاكات حقوق الإنسان- إلى فرص جديدة.
يحتاج الاتحاد إلى تفعيل ترسانة القوانين التي يملكها على وجه السرعة حتى لا يضطر السود في النهاية إلى تبني أساليب أكثر عنفًا تحرق الأرض ومن عليها رفضًا لسياسة الأمر الواقع التي يريد إرغامهم عليها اليمين الشعبوي وعصابات التفوق الأبيض، فإما الموت حتى لو تكلف ذلك حروب أهلية جديدة، أو القبول بالوصم والعنصرية، ما يضع مستقبل الغرب كله على المحك.