يستمد المجتمع العربي حكمته بصورة عامة إما من الدين أو من الموروث الشعبي بما يشمل العادات والأعراف والتقاليد والأمثلة الشعبية، وفي بعض الأحيان قد لا يتفق هذان العنصران، ففي الوقت الذي تنهى فيه التعاليم الدينية عن العنصرية القائمة على اللون مثلًا، يزخر تراثنا بمئات السطور العنصرية، سواء كانت أقوالًا سائرة أم أمثالًا شعبية أم أغاني شعبية، حيث جرى ترديدها وتناقلها عبر عشرات بل مئات وآلاف السنين، دون التعمق لوهلة فيما تحمله من معانٍ قد تكون مؤذية، حتى جاء الجيل الجديد ليعيد النظر فيما وصل إليه نقلًا عن أسلافه.
أهمية الأمثال الشعبية
المثل الشعبي من أكثر فروع الثقافة الشعبية ثراءً، حيث يجسد نتاج تجربة شعبية طويلة تخلص إلى عبرة وحكمة، ومجموعة الأمثال الشعبية في مجتمع ما تساهم في تكوين الوعي العام الموجود فيه، فهي جزء مهم من ملامح الشعب وأسلوب حياته ومعتقداته ومعاييره الأخلاقية.
وكما ذكر جمال طاهر في موسوعته للأمثال الشعبية، فإن المثل “لون أدبي معبر طريف المنحى، عظيم الفائدة، يلخص تجربة إنسانية، يتردد على ألسنة الناس. على أن شعبية المثل مكنته من احتلال موقع جليل في نفس قائله وسامعه، وجعلت له مكان الصدارة، من حيث الأهمية والتأثير بين سائر فنون القول الشعبية”.
واهتم العرب بالأمثال الشعبية منذ القدم، فحفظوها وجمعوها وحرصوا عليها، إلا أن الجيل الجديد أعاد النظر في كثير منها، عادًّا إياها أحد مظاهر التمييز المجتمعي والوصم والعنصرية.
في هذا التقرير نستعرض عددًا من تلك الأمثال – لا كلها -، ونحاول أن نرى كيف أمكن لتلك العبارات السائرة على الألسن أن تحدث أثرًا سلبيًا عميقًا وربما مدمرًا في مجتمعاتنا، بتمييزها ووصمها وعنصريتها تجاه بعض فئاته.
العنصرية في الأمثال الشعبية
تقول بعض الأمثال الشعبية المنتشرة في الشام: “لبّس الأسمر أحمر وضحاك عليه” في دلالة أن اللون الأحمر لا يليق إلا بأصحاب البشرة البيضاء، أما قول “سودا زرقا وقاعدة عالتخت وبيضة شقرا مالا بخت” بمعنى أن السوداء رغم قبحها بطبيعة الحال بسبب لون بشرتها، سعيدة أكثر من البيضاء، ويعد مصطلح “زرقا” لفظ تحقيري شائع لوصف أصحاب البشرة الداكنة.
أما أحد الأمثلة التونسية، فيقول: “إذا صبحت على كحلوش أرجع أرقد خير”، ويقصد بالكحلوش صاحب البشرة السوداء، أي أنك إذا رأيت شخصًا أسود في بداية صباحك فهي ليست بشرة خير لك في هذا اليوم، كما يقال في بلاد الشام: “حبيبي بحبه ولو كان عبد أسود” ويقابلها في مصر “حبيبك اللي تحبه ولو كان عبد نوبي”، وفي هذين المثلين إشارة إلى أن شدة الحب تعمي صاحبها عن كل نقص أو عيب، حتى إن كان هذا النقص هو اللون الأسود بذاته.
البدو والفلاحون أيضًا لهم حصتهم من الأمثال ذات الطابع التمييزي ضدهم
وهنالك مثل آخر يقول “شو بيعيب الأسود من شحار الوجه” ويستخدم في مناسبات متعددة منها لوصف شخص سيئ بكل الأحوال ولن تزيد صفة سيئة أخرى على سوئه، ويستمد الناس هذه الكنايات والمعاني العنصرية في الأمثال من القناعات السائدة في المجتمع، التي تميّز بين الناس على أساس اللون بشكل كبير، وتعود جذور هذا التمييز لأسباب كثيرة منها الصور النمطية للجمال التي تظهر في وسائل الإعلام أو بسبب تاريخ العبودية والاضطهاد الطويل الذي تعرضت له أقسام كبيرة من قارة إفريقيا وأصحاب البشرة السوداء، وأسباب أخرى كثيرة تركت لدى الناس اعتقادًا بأن أصحاب البشرة الأفتح هم الأعلى شأنًا والمطابقين لمعايير الجمال التي وضعها المجتمع.
من جهة أخرى، في حديث لبيان جبسة مع نون بوست عددت لنا بعض الأمثال الشعبية العنصرية بناءً على المنطقة أو الجنسية: “يقال للشيء غير المتناسق (مثل جرابات الكردي)، أما عن أهل حي جوبر الدمشقي (يهود خيبر ولا أهل جوبر) وصدمت جدًا عند سماعي لهذا المثل بدايةً! لاحقًا قيل لي إن هذا المثل محرّف وأصله (إسلام جوبر ولا يهود خيبر)، ويقال إن أكبر تجمع لليهود آنذاك كان في جوبر وخيبر، لكن عندما فتح المسلمون بلاد الشام ورأى اليهود حسن تعامل المسلمين أطلقوا هذا المثل على أنفسهم، وذلك لأن مسلمي جوبر بحسن تعاملهم أفضل من يهود خيبر”.
وفي هذا السياق يوجد عشرات الأمثال المتبادلة بنسخها المختلفة التي تحمل طابعًا عنصريًا، فيقول العرب “استكرده” وترد أحيانًا بقصد معنى أنه أحد ما استغبى الآخر، والأكراد أنفسهم لديهم مثل شعبي يترجم إلى “يا سوداء اجلسي هنا ريثما أبحث عن البيضاء” بما معناه أن البيضاء ذات شأن أعلى من السوداء.
والبدو والفلاحون أيضًا لهم حصتهم من الأمثال ذات الطابع التمييزي ضدهم، فيقال مثلًا “نزل البدوي على المدينة، ما اشتهى غير الدبس والطحينة”، ويقال “الفلاح إذا تمدّن متل الحمار إذا تكدّن”، ويقصد بذلك أنه لا يليق بالريفي تقليد حياة المدن التي كانت تعتبر أرقى من طبيعة حياة الريف.
وتعتبر إجراءات بعض الحكومات العربية الجائرة بحق سكان الريف وحرمانهم من حقوقهم المدنية مثل عدم بناء مدارس ومستشفيات في قراهم أو عدم مد خطوط الكهرباء والماء أو عدم تعبيد الطرقات وإصلاحها، وغيرها من الأمثلة عوامل ساعدت بخلق هذه النظرة الاستعلائية تجاه أبناء الأرياف.
أما الأمثال المتعلقة بذوي الاحتياجات الخاصة نذكر منها “الأعور بين العميان ملك” و”قال الأعرج للمكرسح ما نجي نتفسح”، كما يقال بالتشجيع على الزواج من الفتاة العفيفة “خود البنت المستورة ولو كانت فكحة وعورة”.
وإلى جانب الأمثال الشعبية الدارجة، لا يزال استخدام بعض الأقوال العنصرية القديمة عند العرب قائمًا في أيامنا الحاليّة، مثل الاستناد إلى قول المتنبي “لا تَشْتَرِ العَبْدَ إلاّ وَالعَصَا مَعَهُ/ إنّ العَبيدَ لأنْجَاسٌ مَنَاكِيدُ”، أو قول “شراية العبد ولا تربايته”.
وقد تلعب الأمثال الشعبية دورًا في تكوين شخصية الطفل، من خلال سماعه للكبار يتداولونها فيما بينهم على أنها شكل من أشكال الحكم، وبالتالي ينشأ الطفل على هذه الأفكار معتقدًا أنها الصواب.
الأغاني الشعبية
رغم تطور الأغنية الشعبية عبر العصور، وحذف الكثير من المقاطع والكلام الذي أصبح مرفوضًا بالعصر الحديث، فإن هنالك بعض الأغاني التي يعتبرها البعض تحمل نزعة عنصرية أو استعلائية واضحة، وتتابع بيان جبسة في حديثها عن بعض أشكال التراث الشعبي التي يجب علينا تطويرها أو تجاوزها بالكامل:
“هنالك أغنية شعبية من نوع الزجل أو العتابا: تقول (لا تعيرني بسوادا أنا حبيتا وقلبي رادا.. خود البيضا وشوف عنادا ما بتتعاشر يا أخوانَّا، فيرد عليه الآخر: البيضا هي المحبوبي، من الدنيا هيي المطلوبي والسمرا وجها مقلوبي متل إبليس والشيطانّا).
يعتبر التمييز والعنصرية في مجال الفن بالعالم العربي موضوعًا واسعًا جدًا يصعب حصره ضمن عدة سطور
ويوجد أيضًا أغنية طفولية تغنّى في الأعياد أو المناسبات عند اللعب، تقول: “يا حج محمد يويو خلف بنات يويو بناته سود متل القرود، بناته بيض متل العفاريت”، وهنالك أهزوجة أخرى يرددها الأطفال في بعض المدن السورية أيضًا تقول “كان كردي ع الجبل، غط راسو باللبن ، قالت أمو وينو؟ فشكة تقلع عينو”.
العنصرية في الأغاني الحديثة
يعتبر التمييز والعنصرية في مجال الفن بالعالم العربي موضوعًا واسعًا جدًا يصعب حصره ضمن عدة سطور، لكن سنذكر هنا مثال واحد من الأغاني الحديثة وهي أغاني الفنانة اللبنانية الشهيرة فيروز التي يعتبرها جمهورها عمودًا من أعمدة الفن وإحدى أيقونات الزمن الجميل، ورغم ذلك وردت في بعض أغانيها مصطلحات اعتبرها البعض عنصرية بحتة مثل قولها في أغنية “ليلية بترجع يا ليل”: “أنا مش سودا بس الليل سوّدني بجناحه”، مما يعطي انبطاعًا بأن اللون الأسود أمر مشين، وتبرره بأن الليل هو من سوّدها.
وفي أغنية أخرى تقول فيروز: “ردي منديلك ردي، بيضا والشمس حدة، بكرا بيجي محبوبك وبيلاقيكي مسودة”، أما في مسرحية “سهرة حب” تقول: “باب البوابة ببابين قفولة ومفاتيح جداد، وعالبوابة في عبدين الليل وعنتر بن شداد”، وهنا يبدو الربط واضحًا بين العبودية وذوي البشرة السوداء.
بالمقابل، نتيجة ارتفاع نسبة الوعي في المجتمع العربي مؤخرًا، وانخفاض نسبة الأمية، تخلى المجتمع عن الكثير من الأمثال العنصرية، ولم يعد سماعها مستساغًا لدى نسبة كبيرة من أبناء هذا الجيل، إلا أنها لم تختف بشكل كامل.
أيقظت الأحداث الأخيرة في أمريكا عقب مقتل جورج فلويد دعوات نبذ العنصرية حول العالم، وطالت هذه الدعوات الوطن العربي أيضًا، حيث انتشرت مئات الدعوات على مواقع التواصل الإجتماعي التي تنبه إلى مصطلحات أو سلوكيات عنصرية تمارس في مجتمعنا ويجب التوقف عنها، ولاقت هذه المنشورات تفاعلًا قويًا على مختلف منصات التواصل من الجمهور المتابع، لكن رغم رفض الجيل الجديد إجمالًا للغة العنصرية، يلاحظ وجود آثار للتراكمات العنصرية التي تعرض لها هذا الجيل منذ الصغر، فما زال الكثيرون يعتبرون أن كلمة “أسود” عنصرية، وذلك بسبب النظرة المسبقة لديهم بأن أصحاب البشرة السوداء أقل شأنًا أو مثيرين للشفقة، مما يحتّم ضرورة تسليط الضوء على هذه المواضيع بمختلف زواياها، لضمان إزالة أي ترسبّات عنصرية قديمة ما زالت موجودة.