بينما تسارع العديد من القوى الإقليمية والدولية لمنع فتيل التصعيد المتوقع بين مصر وإثيوبيا في أعقاب إصرار الأخيرة على ملء سد النهضة دون التوصل إلى اتفاق مع أطراف الأزمة (مصر والسودان) تلتزم الإمارات، الحليف الأبرز للقاهرة في الوقت الراهن، الصمت رغم علاقاتها الوثيقة مع نظام آبي أحمد.
حالة من الغضب الشعبي تخيم على المشهد المصري بسبب تعنت الجانب الإثيوبي في تعامله مع الملف الذي بات يمثل مسألة حياة أو موت للمصريين الذين يعتمدون على مياه النيل كمورد أساسي إن لم يكن وحيد لمياه الشرب والزراعة، وباتت الخيارات جميعها على طاولة النقاش، أقلها التدويل.
وفي الجهة الأخرى يعتبر الإثيوبيون سد النهضة بوابتهم الرئيسية نحو التطوير والنمو، رافضين كافة المساعي لإثنائهم عن مشروعهم القومي، الأمر الذي وجد فيه آبي أحمد الذي يعاني من توترات داخلية فرصة كبيرة لتوحيد كلمة الشارع خلفه وحكومته.
لا يمكن فصل قضية النزاع حول السد عن اللعبة الكبيرة في منطقة الشرق الإفريقي التي تعبث فيها أبو ظبي في محاولة للتأثير في الجغرافيا السياسية للمنطقة بما يتناسب وأجندات أبناء زايد الخارجية، وذلك بعدما نجحت في تجربتها في بعض بلدان الشرق الأوسط، ليبقى السؤال: لماذا لا تقف الإمارات مع حليفتها القاهرة في مأزقها الذي يهدد حياة شعبها؟
تزايد النفوذ الإماراتي إفريقيًا
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال قبل العودة إلى عدة سنوات مضت، تحديدًا عام 2014، حين بدأت الإمارات بشكل فعلي تعزيز حضورها العسكري عبر بوابة الاقتصاد، في شرق القارة لاسيما منطقة القرن الإفريقي، نظرًا لما تمثله هذه المنطقة من موقع إستراتيجي يخدم أهداف أبو ظبي الإقليمية، سواء في اليمن أو غيرها.
البداية كانت مع الحكومة الصومالية، والتي أغدقت عليها المال والمساعدات العسكرية، لكن ربيع العسل بينهما لم يدم طويلًا، فسرعان ما توترت العلاقات خلال السنوات الأخيرة، حين رأى الصوماليون في التواجد الإماراتي خطرًا على استقرارهم عبر دعم القوى المعارضة، فضلًا عما رأته أبو ظبي نفسها من تقريب في العلاقات الصومالية مع منافسيها قطر وتركيا.
وفي إبريل/ نيسان 2018 توقف التعاون بين البلدين بصورة شبه نهائية بعد أن صادرت قوات الأمن الصومالية 10 ملايين دولار قادمة من الإمارات على متن طائرة إماراتية، حيث رأى الشارع الصومالي أن تلك الأموال ذاهبة لدعم التيارات المعارضة، فيما أشارت السلطات الإماراتية أنها تابعة لسفارة بلادها في مقديشيو، ولا يمكن مصادرتها، وأنها مخصصة لدفع رواتب وحدات من الجيش الصومالي، وإقليم بونتلاند.
العديد من التقارير الأخرى تناولت مخطط أبوظبي لبسط نفوذها في القارة عبر الدبلوماسية الناعمة، ومن أكثر الأمثلة تجسيدًا لتلك الحالة مشاركتها في “مبادرة الحزام والطريق” التي تعمل الصين على تنفيذها عبر عدة موانئ بالسواحل الإفريقية.
وبجانب النفوذ العسكري الذي تسعى أبو ظبي لتوسعة رقعته، فإنها كذلك تعول على مكانتها كشريك اقتصادي مهم للصين عربيًا، لاستنساخ هذا النموذج داخل إفريقيا كذلك، إذ تمر أكثر من 25% من الصادرات الصينية للدول العربية تمر عبر الإمارات.
وتعد شركة “موانئ دبي العالمية” الذراع الأطول لأبناء زايد لتوسعة حضورهم الإفريقي من خلال عملياتها في السنغال وموزمبيق وإقليم “أرض الصومال”- رغم ما يحمله من مخالفة قانونية – والجزائر، كذلك توقيع اتفاقات مع مالي لإقامة منصّة لوجيستيات، ومع الكونغو الديمقراطية لتطوير وإدارة ميناء مياه عميقة بقيمة 1 بليون دولار.
لماذا لا تتدخل في أزمة السد؟
من حيث الشكل فإن الأجواء ملائمة تمامًا لتدخل إماراتي يقرب وجهات النظر بين مصر وإثيوبيا، وربما تعزيز أبو ظبي لهذه الإستراتيجية قد يعود عليها بالنفع فيما بعد، ويحسن صورتها التي تعاني من تشوهات عدة، بدلًا من تغذيتها لمناطق النزاع في الشرق الأوسط.
للإماراتيين استثمارات عدة في القاهرة، كذلك الوضع في أديس أبابا، وبصرف النظر عن طبيعة تلك الاستثمارات ومدى علاقتها بتأجيج الأوضاع المشتعلة في البلدين من الأساس، فإن الاستقرار الداخلي لنظام السيسي ونظيره آبي أحمد يصب في النهاية في مصلحة الإمارات، حفاظًا على حزمة استثماراتها المليارية في البلدين.
تقاعس أبو ظبي عن القيام بهذا الدور لتخفيف الأجواء المتوترة يثير الكثير من التساؤلات المغلف كثير منها بالشكوك في النوايا الحقيقية للدولة التي لا تجد حرجًا في تحقيق مصالحها وأهدافها الخاصة ولو على حساب حلفائها، ولعل ما يحدث في اليمن من تباين كبير في وجهات النظر بين الإمارات والسعودية يعكس تلك السياسة بشكل واضح.
البعض يرى أنه وكما في استقرار النظم الحاكمة في القاهرة وأديس أبابا مصلحة للإمارات، فإنه من جهة اخرى ربما يحمل تهديدات تضع أجندة الإماراتيين في إفريقيا على المحك، فالاستقرار هنا ربما يدفع للتنسيق الإقليمي والتفاهم والتعاون بين الشركاء عل مستوى القارة، ويحول دون تمرير أي سياسات أجنبية بداخلها، وعليه فإن استمرار الوضع على هذه الوتيرة المشتعلة يعبد الطريق أمام القوى الأخرى لتنفيذ مخططاتها من خلال اللعب على كافة الأحبال بما يحقق مصالحها، او كما يشير المصطلح السياسي العسكري “فرق تسد”.
اللعب على جميع الأحبال
تتبنى الإمارات بعد رحيل الشيخ زايد آل نهيان، سياسة مثيرة للجدل، أقل ما يقال عنها أنها ميكافيللية في المقام الأول، لا تراعي أي ثوابت أو أعراف سياسية متفق عليها في علوم السياسة المعروفة، ففي اليمن تجدها تتحالف مع السعودية ضد الحوثيين وفي الوقت ذاته تفتح قنوات اتصال عدة معهم عبر الأبواب الخلفية.
الوضع كذلك مع إيران، فبينما ترفع شعار الخصومة السياسية معها، إرضاء لحلفائها الخليجين أو تماشيا مع كونها تتعامل مع دولة تحتل أجزاء من أرضها، تجدها في الوقت ذاته تعزز علاقاتها الاقثصادية مع طهران، حتى أصبحت إيران ثاني أكبر سوق للصادرات الإماراتية عام 2016، بقيمة 8.8 مليارات دولار، كما وصل حجم التبادل التجاري بينهما في 2017 إلى 11 ملياراً و114 مليون دولار، أما في 2018 بلغت نسبة صادرات إيران إلى الإمارات إلى 14.7% من الوزن، و16.17% من إجمالي قيمة الصادرات الإيرانية إلى العالم، وهو ما يجعل الإمارات في المرتبة الأولى من قائمة الدول المستوردة من إيران.
الوضع يتشابه إلى حد التطابق مع الموقف من القاهرة وأديس أبابا، حيث يفضل الإماراتيون اللعب على جميع الأحبال، بما يحافظ لهم على مصالحهم مع الجميع، فمسألة الانتماء لحلف ذو مبادئ ثابتة لا تتغير مهما كانت المستجدات فكرة بعيدة نسبيًا عن القاموس السياسي للقائمين على حكم الإمارة الخليجية، وهو ما أكدته العديد من الخبرات والتجارب السابقة.
فبينما كانت الإمارات أحد أبرز الدعائم الأساسية لترسيخ أركان نظام السيسي منذ 2013 وحتى اليوم، فضلًا عن دورها في إجهاض ثورة يناير عبر مخططات الثورة المضادة التي تمولها في بلدان الربيع العربي، كانت في الوقت ذاته الداعم الأبرز للإثيوبيين، تعزز هذا الدعم بعد وصول آبي أحمد لرئاسة الحكومة.
ففي 15 فبراير الماضي، رئيس الوزراء حاكم دبي، محمد بن راشد آل مكتوم، استعداد بلاده لتقديم المساعدة اللوجيستية والخبرة لإثيوبيا، لتمكينها من تحقيق تطلعات وأهداف شعبها، وذلك خلال استقباله رئيس الوزراء الإثيوبي والوفد المرافق له خلال جولتهم الخليجية حينها.
وبعد هذا اللقاء بعشرة أيام تقريبًا، وقع صندوق خليفة لتطوير المشاريع الإماراتي، اتفاقية اقتصادية شاملة، مع الحكومة الإثيوبية ممثلة في وزارة المالية، لدعم وتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة في البلد الإفريقي بقيمة 100 مليون دولار أميركي.
وكانت الإمارات في خضم التوتر بين القاهرة وأديس أبابا بسبب فشل مفاوضات سد النهضة، وتلويح كلا الطرفين بالتصعيد، قد أعلنت عن حزمة مساعدات واستثمارات للحكومة الإثيوبية الجديدة بقيادة آبي أحمد، بقيمة 3 مليار دولار وذلك في يونيو/ حزيران 2018.
لم تكن الإمارات وحدها من تخلت عن القاهرة في معركتها المائية، حيث شاركت العديد من الدول الحليفة لنظام السيسي في عملية بناء السد، على رأسها “إسرائيل” من خلال شركتها “رافيل” المتخصصة في الصناعات الدفاعية، والتي تعاقدت مع أديس أبابا لتزويدها بمنظومة صواريخ دفاعية لتأمين السد والمناطق المحيطة به من أي هجمات، وذلك بعد تلويح المصريين أكثر من مرة بالخيار العسكري.
الأمر ذاته مع السعودية، التي يبلغ حجم استثماراتها في إثيوبيا قرابة 5.2 مليار دولار، وأقرضت الحكومة الإثيوبية 140 مليون دولار ديسمبر 2019، فيما تشارك مجموعة “العامودي” المملوكة لرجل الأعمال السعودي من أصول إثيوبية محمد حسين العمودي، في عملية البناء، علمًا بأن العامودي الذي تُقدر ثروته بنحو 13.5 مليار دولار، كان أحد معتقلي “الريتز كارلتون” لابتزازه ماديًا في أعقاب حملة الاعتقالات الشهيرة التي شنها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، نهاية 2017.
وكالعادة تجيد أبو ظبي العزف على جميع الأوتار، حتى ولو كانت نغماتها شاذة فيما بينها، لتصبح أجندة أبناء زايد هي الهدف الذي لا يجب أن يعترضه أي مبادئ أو أعراف سياسية، ليبقى التعويل على دور لهم في حلحلة أزمة سد النهضة حلمًا بعيد المنال يداعب الكثير من المصريين المؤمنين بقوة التحالف مع الدولة الخليجية، هذا إن لم يستحل الحلم كابوسًا يومًا ما حين يتم الكشف عن دور أعمق للإمارات في تعطيش مصر عبر مساعدات لوجستية أكبر في بناء السد.