تسبب ظهور القيادي في مليشيا الجنجويد السودانية علي محمد علي عبدالرحمن الشهير بـ”علي كوشيب” أمام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، قبل 3 أيام في حالة إرباكٍ واضحةٍ للمشهد السوداني خاصة المكون العسكري الأكثر نفوذًا داخل الحكومة الانتقالية التي تم تشكيلها بموجب اتفاق دستوري تم توقيعه بين تحالف قوى الحرية والتغيير من جانب وجنرالات نافذين في نظام الرئيس المخلوع عمر البشير من الجانب الآخر.
كان كوشيب، قد فرّ إلى جمهورية إفريقيا الوسطى عبر الحدود مع إقليم دارفور السوداني في فبراير/ شباط الماضي بعد أن أعلنت الحكومة السودانية عن نيتها تسليم المتهمين في جرائم دارفور للمحكمة في لاهاي. وأبرز هؤلاء المتهمين هم الرئيس المخلوع عمر البشير إلى جانب وزير دفاعه سابقًا عبدالرحيم محمد حسين ورئيس الحزب الحاكم سابقًا أحمد هارون، إذ كانت المحكمة قد أصدرت في العام 2009 مذكرات اعتقال في مواجهة المذكورين أعلاه بتهم ارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في دارفور.
البرهان تراجع عن خطة تسليم البشير إلى الجنائية
جاء هروب كوشيب إلى إفريقيا الوسطى بعد أن أعلن قادة الحكومة الانتقالية وعلى رأسهم عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة عن تعاونهم التام مع المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة المطلوبين في جرائم الحرب والإبادة الجماعية، رغم أن لائحة الاتهامات قد تشمل البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حمديتي” في مرحلة لاحقة، إذ كانا من القيادات العسكرية المقربة من الرئيس المخلوع عمر البشير وتُوجّه إليهما التهم بالمشاركة في ارتكاب المجازر المروعة في إقليم دارفور مطلع القرن الحالي.
إعلان البرهان عن التعاون مع الجنائية الدولية لم يعقبه أية خطوات فعلية لتسليم المطلوبين وعلى رأسهم البشير، فيبدو أن رئيس المجلس السيادي أحسّ بخطورة تسليم الرئيس المخلوع على وضعه هو ورفيق دربه حميدتي، فلم يتخذ الأول أي إجراء تنسيقي مع المحكمة الجنائية لتسليم المطلوبين إلى أن فوجئ بالخطوة التي أقدم عليها علي كوشيب بتسليم نفسه إلى المحكمة عن طريق القوات الدولية الموجودة في إفريقيا الوسطى الدولة المجاورة لإقليم دارفور.
القوانين التي يُمكنها المحاكمة على جرائم الحرب لا وجود لها حاليًا في السودان
شكوك في نزاهة القضاء السوداني
في دارفور كان المشهد مختلفًا تجاه بدء محاكمة كوشيب، إذ عمّت الفرحة ذوي الضحايا وأسرهم في الإقليم بأن يد العدالة قد امتدت أخيرًا لتقبض على أحد الجناة المطلوبين للجنائية، إذ لا يثق كثيرون في منظومة القضاء السوداني الذي يخضع في الوقت الحالي إلى عملية إصلاح وإعادة هيكلة بغرض محاربة الفساد المتغلغل فيه، والذي كان قد حوله إلى جسم تابع للسلطة التنفيذية ولحزب المؤتمر الوطني الذي رأسه البشير، بمعنى أن النظام القضائي تغيّر كثيرًا خلال العقود الثلاثة الماضية، ولم يعد محط ثقة كثيرين في السودان، من حيث الاستقلالية والنزاهة. وفق ما يرى مراقبون.
بموازاة ذلك، يعتبر الخبير القانوني منعم آدم، أن القوانين التي يُمكنها المحاكمة على جرائم الحرب لا وجود لها حاليًا في السودان، وشكّك في إمكانية تطبيق أيّ إصلاحات بأثرٍ رجعي، موضحًا: “أي إصلاحات قانونية مُحتملة لن يكون لها أثرٌ قانوني على الموقف (أي المُحاكمة على الجرائم داخل السودان)؛ لأن انتهاكات القانون الدولي حينها لم تكُن جزءًا من القانون الجنائي السوداني”.
تضارب وجهات النظر داخل المجلس السيادي
كوشيب عمل في قوات الشرطة السودانية مساعدًا طبيًا، قبل أن يتقاعد منها في نهاية تسعينيات القرن الماضي. وعندما تفجر القتال في دارفور عام 2003، التحق الرجل بقوات الدفاع الشعبي، حيث قررت حكومة البشير وقتها تسليح بعض القبائل لمواجهة الحركات المسلحة، فكان ذلك مدخلًا لانخراط كوشيب في ميليشيا الجنجويد المتهمة بارتكاب الفظائع ضد المدنيين في دارفور، ما دعا المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرة توقيف ضده في 27 أبريل/نيسان 2007، بتهمة قيادة العمليات العسكرية ضد المدنيين على أساس عرقي.
وبعد أن سقط نظام البشير في 11 أبريل/ نيسان 2019 بقي كوشيب في مسقط رأسه لقرابة عام بعد سقوط النظام، لكنه استشعر خطرًا متزايدًا من الوضع الجديد بعد التصريحات المتقلبة للعسكريين إذ رفض رئيس المجلس السيادي عبدالفتاح البرهان في يوليو/ تموز 2019 تسليم البشير، ولا أيًّا من المطلوبين الآخرين للجنائية الدولية، وهو موقف يناقضه عضو آخر في مجلس السيادة السوداني في شقه المدني، هو محمد حسن التعايشي، أحد المسؤولين عن ملف السلام في البلاد، الذي قال إن السودان سيقوم بتسليم المطلوبين، باعتبار ذلك من أهم استحقاقات السلام في دارفور.
نتيجة لهذه المواقف المتضاربة مضافًا إليها إصدار النيابة العامة السودانية مذكرة اعتقال في حق شخصه، رأى علي كوشيب أنه من الأفضل أن يخرج من السودان عن طريق الحدود البرية مستغلًا حالة السيولة الأمنية التي تعاني منها البلاد في الوقت الحاليّ، فاتجه في فبراير/ شباط إلى إفريقيا الوسطى ومن هناك قام بتسليم نفسه مؤخرًا.
وقد تواترت أنباء عن أن كوشيب هرب من مسقط رأسه في رهيد البردي إلى منطقة أم دافوق الحدودية بين السودان وإفريقيا الوسطى، مستخدمًا سيارتي دفع رباعي، إحداهما لحمايته والثانية لنقله، كما استعان بالعشرات من أبناء قبيلته لتوفير الحماية له خوفًا من إمكانية ملاحقته بواسطة السلطات أو ربما تعرضه إلى اعتداءات من أهالي الضحايا.
هل سلّم كوشيب نفسه بموجب صفقة؟
يذهب المحل السياسي عبدالله مجاهد إلى تأييد صحة هذه التسريبات، إذ يرى أن كوشيب ذهب إلى المحكمة في إطار صفقة نسّقتها أجهزة مخابرات دولية (لم يسمها)، بمشاركة بعض النافذين من المكوّن المدني في حكومة الفترة الانتقالية.
الصفقة تقتضي أن يتحوّل كوشيب إلى “شاهد ملك”، خلال مثوله أمام المحكمة الجنائية الدولية
وقال مجاهد، إن الحكومة الانتقالية في السودان تهدف إلى إقناع المجتمع الدولي بأن موقفها من العدالة الدولية يختلف عن موقف نظام الرئيس السابق عمر البشير، الذي كان يرفض التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية، بحجة أنها “مسيّسة”.
وشدد على أن الصفقة تقتضي أن يتحوّل كوشيب إلى “شاهد ملك”، خلال مثوله أمام المحكمة الجنائية الدولية، بما يقود لتوفير أدلة ضد الرئيس السابق عمر البشير ووزير دفاعه عبدالرحيم محمد حسين ومساعده أحمد هارون، المطلوبين للمحكمة.
واستشهد المحلل السياسي بالزيارة التي نفذها عضو مجلس السيادة محمد حسن التعايشي إلى منطقة أم دافوق الحدودية بين السودان وإفريقيا الوسطى، قبل أيام قليلة من تسليم كوشيب نفسه إلى الجنائية، وقال إنها “تبرهن على وجود صفقة في محاكمة كوشيب”.
يتفق عضو هيئة الدفاع عن الرئيس المخلوع عمر البشير، المحامي محمد الحسن الأمين، على وجود “صفقة ومؤامرة”، الهدف منها تحويل كوشيب إلى شاهد ملك، بما يقود لتسليم مطلوبين آخرين إلى المحكمة الجنائية.
إذ قال الأمين، إن “الدلائل على وجود الصفقة والمؤامرة ظهرت بوضوح خلال أولى جلسات محاكمة كوشيب، حيث طلب محاميه من المحكمة الوقوف حدادًا على الضحايا الذين تزعم الجنائية أن موكله كوشيب متورّط في قتلهم، مع أن المنطق العدلي يؤكد أن هذا الدور يجب أن يقوم به محامي الاتهام – إذا كان ضرويًا – وليس محامي الدفاع، الذي يتوجب عليه أن ينكر وجود ضحايا، أو أن ينكر علاقة موكله بهم، ولكن يبدو أن هذا الدور مرسوم بعناية”.
مخاوف القادة العسكريين
وبحسب تقرير سابق لموقع ميدل إيست إي البريطاني، فإن عناصر الجيش والميليشيا السودانية، التي كانت في السابق جزءًا من أجهزة دولة البشير، تشارك حاليًا في الحكومة الانتقالية التي تدير البلاد، رغم اتهامها بالتورّط في جرائم دارفور.
ويضيف التقرير أن خير مثال على هذه الشخصيات هو محمد دقلو المعروف باسم حميدتي. إذ يرأس حميدتي قوات الدعم السريع، وهي مجموعةٌ شبه عسكرية تتألّف من مختلف جماعات ميليشيا الجنجويد المُتّهمة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور وقمع اعتصام القيادة العامة السنة الماضية بالقتل والاغتصاب والعنف المفرط، وعلى الرغم من ذلك يتصاعد نفوذ الرجل المثير للجدل حتى تغوّل على معظم صلاحيات السلطة المدنية في الحكومة الانتقالية التي تدير السودان بعد سقوط البشير.
ويعتقد آدم أنّ بعض قادة الميليشيا والجيش يخشون أن تكون لدى المحكمة الجنائية الدولية قائمة اتّهام أخرى غير مُعلنة للمشتبه في تورّطهم بارتكاب جرائم داخل السودان. وأوضح: “جميعهم يتوقّعون إدراج أسمائهم على تلك القائمة”، فيشير الخبير القانوني إلى أن الجيش الذي يتقاسم السلطة حاليًا مع المدنيين يشعر بالتهديد حين تُذكر كلمة “العدالة”، لأنّه كان جزءًا لا يتجزأ من النظام إبان ارتكاب الجرائم الخطيرة في دارفور وأجزاء أخرى من السودان”.
لكوادر القوية التي تفتقر إليها الحكومة السودانية يمكن أن تضغط على العسكريين أو أن تصارح الشعب على الأقل بالعراقيل التي يضعها العسكر
فرصة أمام المدنيين لتصحيح الأوضاع
الكاتبة بصحيفة الجريدة السودانية هنادي الصديق تلفت أيضًا إلى أن مخاوف رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان بدأت تتزايد بشكل أوضح عقب تسليم علي كوشيب نفسه لمحكمة الجنايات الدولية، وحدة التوتر تضاعفت مع تحديد موعد وصول البعثة الأممية بعد أشهر والتي ستكون متزامنة مع نهاية فترة سيطرة المكون العسكري على مجلس السيادة.
وتشير هنادي الصديق إلى أن الوضع الاقتصادي المأزوم يشترك فيه العسكريون بشكل مباشر من خلال تمسكهم بالشركات والمؤسسات الهامة التي يفترض أن يكون منبع ومصب أموالها خزينة وزارة المالية وهو ما لم يحدث حتى الآن، وساهم في التردي الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد.
لا يوجد أدنى شك في أن الأجندة التي يعمل عليها المكون العسكري في مجلس السيادة هي إفشال الفترة الانتقالية وتشويه صورة الحكومة التي يقودها رئيس الوزراء عبدالله حمدوك والتي شُكّلت أصلًا من كوادر ضعيفة عديمة الخبرة، غير أن الفرصة ما تزال مواتية أمام رئيس الوزراء والقوى المدنية الحريصة على مستقبل البلاد وإرساء التحول الديمقراطي من خلال خطوتين أساسيتين:
أولهما: الإسراع في تشكيل المجلس التشريعي على أن يكون بعيدًا عن المحاصصة الحزبية والمجتمعية التي أتت بالحكومة الحالية. والساحة السودانية مليئة بالكفاءات المستقلة عن الانتماءات السياسية.
الثانية: تغيير الطاقم الحكومي الحالي بعد أن أثبت معظم الوزراء فشلًا واضحًا في المهام التي أُسندت إليهم، فالكوادر القوية التي تفتقر إليها الحكومة السودانية يمكن أن تضغط على العسكريين أو أن تصارح الشعب على الأقل بالعراقيل التي يضعها العسكر.
إذا ما اتخذ رئيس الوزراء حمدوك والمخلصين من ائتلاف قوى التغيير، قرارات شجاعة بتنفيذ الخطوتين اللتين سبق ذكرهما، فإن ذلك سيؤدي إلى الاستفادة القصوى من مثول علي كوشيب أمام المحكمة الجنائية الدولية وتوجيه مزيد من الضغط على القادة العسكريين مثل البرهان وحمديتي الذيْن تتزايد سلطاتهما كل يوم بدل العكس.
حتى الآن لا توجد مؤشرات على إمكانية توجيه المحكمة الجنائية الدولية اتهامات مباشرة لعبدالفتاح البرهان وحمديتي، لكنّ الجلسة القادمة لمحاكمة كوشيب التي يتوقع أن تنعقد في ديسمبر/ كانون الأول القادم ربما توضح ذلك، إذ يُنتظر أن يعرض الادعاء أدلة على تورط المتهم في فظائع دارفور.
مثول علي كوشيب أمام المحكمة الدولية وقبلها قرار مجلس الأمن بتشكيل البعثة السياسية لمساعدة السودان على الانتقال يشكلان فرصة ذهبية أمام حكومة حمدوك لوضع حدٍ أمام طموحات العسكريين المدعومين من المحور المعادي للثورات، في مقابل اضمحلال فرص التحول الديمقراطي واقتراب البلاد من شمولية عسكرية إن لم يتم تدارك الأمر سريعًا خاصة أن السخط الشعبي من أداء الحكومة أخذ يتضاعف في الآونة الأخيرة.