ترجمة وتحرير: نون بوست
مرت 13 شهرا على اختطاف عالم الاجتماع الروسي المقدام على يد إرهابيين في العاصمة الليبية، وقد تعرض للتعذيب والتجويع وتم ترويعه من خلال محاكاة عملية إعدام بقطع الرأس على يد إسلاميين ساديين، وفي أثناء كل هذه المعاناة، ظل هذا الروسي يرفض الاعتراف بأنه “جاسوس”.
هذه هي على الأقل النسخة الدرامية التي عرضتها روسيا على شاشات السينما، والتي يظهر فيها عالم الاجتماع ماكسيم شوغالاي ومترجمه الروسي، المتورطان في لعب دور في المؤامرات الخارجية الجارية وسط فوضى الحرب الأهلية.
وقد بدأت مغامرة هذين الرجلين في ليبيا في آذار/ مارس من العام الماضي، من خلال ما وصفه الشخص الروسي المشغل لهما بأنه مشروع بحثي، والذي انتهى بهما إلى سجن سيء السمعة على خلفية اتهامات بانتهاك قانون التأشيرة والتدخل في السياسة الليبية.
وفي إطار حملة لتحرير هذين الروسيين، كان مشغلهما، وهو رئيس مؤسسة خاصة روسية غامضة، قد ساعد على تمويل فيلم مطول عرض على شاشة التلفزيون الحكومي خلال الشهر الماضي.
إلا أن هذه القصة أخذت منحى غريب خلال الأسبوع الماضي عندما ذكرت أخبار روسية وعربية أن هذين الشخصين تم اقتيادهما من زنزانتهما قرب مطار طرابلس، ونقلهما بالطائرة إلى تركيا المنافسة لروسيا حول النفوذ في ليبيا، وذلك بهدف التحقيق معهما على يد الشرطة السرية التركية.
إلا أن المسؤولين في الحكومة الليبية المدعومة أمميا في طرابلس، والتي تحتجز هذين الروسيين، نفت هذه الأخبار.
حيث قال أحمد بن سالم، المتحدث باسم الميليشيا التي تسيطر على السجن الذي يقبعان فيه: “لم يتم نقل الروسيين إلى أي مكان آخر.” أما تركيا فلم تدل بأي تعليق.
ورغم ذلك فإن التقارير تبين كيف أصبح مصير هذين الروسيين مرتبطا بالمعركة التي تدور رحاها بين القوى الخارجية في ليبيا، وبشكل خاص تركيا وروسيا.
وبشكل عام ترمز هذه القضية إلى التورط الروسي في هذا البلد الغني بالنفط في شمال أفريقيا، بطريقة متعددة الأوجه ومتناقضة في بعض الأحيان، حيث أن مجموعة متنوعة من الكيانات الرسمية والخاصة العسكرية والسياسية الروسية، تمكنت من بناء علاقات مع قوى ليبية متباينة، ويبدو أن ذلك تم على أمل أن يتسنى في وقت لاحق التحالف مع الطرف الذي يخرج فائزا.
وبشكل عام تعلن موسكو اعترافها بحكومة طرابلس، رغم أن المرتزقة الروس وطائراتها الحربية كانوا في صفوف خليفة حفتر، قائد الميليشيا الذي فشلت حملته على مدى 14 شهرا للسيطرة على طرابلس وانهارت خلال هذا الشهر، وفي نفس الوقت حاول السياسيون ورجال الأعمال الروس مد أيديهم لحلفاء محتملين آخرين.
حيث يقول فريديريك ويهري، المتخصص في الشأن الليبي في معهد كارنيجي للسلام الدولي: “إن الروس يحبون توزيع استثماراتهم، ومنذ البداية كانوا يرون أن حفتر لن يكون بالضرورة هو الرهان الرابح، ولذلك قرروا أن يتركوا لأنفسهم حلولا بديلة.”
والحل البديل في هذه الحالة كان سيف الإسلام القذافي، الإبن الثاني للدكتاتور الذي حكم ليبيا لوقت طويل قبل الإطاحة به، وهو العقيد معمر القذافي، ويعتبر سيف الإسلام من خصوم حفتر وفي نفس الوقت خصما لحكومة طرابلس.
وقد تم اعتقال شوغالاي البالغ من العمر 54 عاما، ومترجمه سمير سيفان في آيار/ مايو من العام الماضي بعد لقاء سري مع ابن القذافي، الذي وجهت له تهم ارتكاب جرائم حرب من قبل المحكمة الجنائية الدولية، ويقال أنه يختبئ قرب الزنتان، وهي قرية تبعد 85 ميلا جنوب غرب طرابلس.
هذه الرحلة التي قام بها الرجلان الروسيان كانت مدفوعة التكاليف من طرف المؤسسة الروسية لحماية القيم الوطنية، وهي منظمة تم تأسيسها في موسكو من أجل الترويج للإيديولوجيا الروسية وحماية المصالح القومية لهذه الدولة. (قامت هذه المؤسسة أيضا بإرسال روسي ثالث هو ألكسندر بروكوفييف، إلا أنه هرب من ليبيا قبيل اعتقال الاثنين الآخرين، ويتواجد الآن في روسيا.)
وإلى جانب الشهادات التي قد يحملها بصفته عالم اجتماع، فإن شوغالاي هو أيضا ناشط سياسي مخضرم، وقد تصدر نشرات الأخبار في العام 2002 عندما قام بابتلاع وثائق لمنع تسليمها للقاضي أثناء خلاف حول الانتخابات في مدينة سانت بيترسبورغ.
وقبل الذهاب إلى ليبيا كان شوغالاي جزء من مجموعة من الروس المتهمين بالتدخل في الانتخابات في دولة مدغشقر.
وفي ليبيا كانت لقاءاته مع بعض الشخصيات السياسية قد أثارت انتباه المخابرات الليبية التي قامت بإلقاء القبض عليه هو ومترجمه، وقد تمكن المسؤولون من مصادرة وثائق وحاسوب محمول، يقولون أنه يظهر كيف أن شوغالاي كان يخطط للتدخل في الانتخابات الليبية وكان ينسق مع ابن القذافي في مخطط لإعادته إلى موقع السلطة.
إلا أن ألكسندر مالكيفيتش رئيس المؤسسة التي أرسلت شوغالاي إلى طرابلس نفى هذه الاتهامات، وقال إنه من غير المعقول اتهامه بالتدخل في الانتخابات والحال أنها لم تجري أبدا في ليبيا.
ويشار إلى أن خطة الانتخابات التي كان يتم التحضير لها في ليبيا انهارت كنتيجة لأعمال القتال، إلا أن النقاش حولها تواصل عندما وصل هذان الروسيان إلى طرابلس.
يذكر أن ليبيا غرقت في أتون الفوضى بداية من 2011، بعد أن قام حلف الناتو بحملة جوية أدت للإطاحة بالعقيد معمر القذافي وقتله، وسرعان ما انطلقت الأعمال القتالية بين مختلف الأطراف الليبية، وتحول الأمر إلى حرب بالوكالة كانت تقودها القوى الدولية الطامعة في النفط والفرص الاقتصادية والأسبقية الاستراتيجية.
وخلال الأشهر التسع الأخيرة، برزت تركيا وروسيا كقوتين مسيطرتين على هذا الصراع، فيما تراجع موقع الولايات المتحدة التي تدعم بشكل رسمي حكومة طرابلس، فيما يبدو أن ترامب يميل إلى صف حفتر.
وقد تدفق إلى ليبيا عدد كبير من المرتزقة الروس لدعم حفتر الذي جندتهم شركة فاغنر جروب، وهي شركة خاصة وصفها الأمريكيون أنها ذراع الدولة الروسية، وخلال الشهر الماضي اتهم البنتاغون الكرملين بإرسال ما لا يقل عن 14 طائرة حربية مموهة إلى ليبيا.
وقد تدخلت تركيا لدعم حكومة طرابلس في كانون الثاني/ يناير الماضي، مسببة انتكاسة لهجوم حفتر، وأجبرت قواته على التراجع مئات الأميال نحو الشرق.
إلا أن الروس لا يكتفون بطرف واحد في هذه الحرب، إذ أن رجال أعمال روس أقاموا علاقات مع أطراف أخرى في مدينة مصراتة في الغرب، وكان رئيس حكومة الوفاق فايز السراج قد زار موسكو في أكتوبر/ تشرين الثاني لحضور لقاء للقادة الأفارقة استضافه الرئيس بوتين، رغم أن المرتزقة الروس كانوا حينها يتدفقون على طرابلس.
ولا يزال البعض يعتقدون أن عائلة معمر القذافي يمكنها أيضا أن تنظم عودة إلى المشهد، وهو احتمال يبدو أنه شجع هذا الناشط السياسي الروسي على التواصل مع ابنه سيف الإسلام.
وقد قال كيريل سيمينوف الخبير في الشأن الليبي في المعهد الروسي للشؤون الدولية: “إن رحلة شوغالاي يبدو أنها جزء من محاولة لكسب النفوذ قام بها رجل أعمال من سانت بيترسبورغ يدعى يفجيني بريغوجين. وكان هذا الرجل قد وجهت له اتهامات من قبل الولايات المتحدة بالتدخل في الانتخابات الأمريكية في 2016، كما تم ربطه بنشاطات فاغنر جروب”. فيما نفى هو هذه الاتهامات الأميركية.
ويضيف سيمينوف: “إن الجيش الروسي لديه موقف، ولكن الكرملين لديه موقف آخر، ورجال الأعمال مثل بريغوجين لديهم موقف خاص بهم.” هذه المواقف أحيانا تنسجم مع بعضها، وأحيانا تتناقض.
ويذكر أن بريغوجين المعروف بتسمية طباخ بوتين يمتلك شركة لخدمات التموين فازت بعقود ضخمة مع الجيش الروسي، ويعتقد أنه غطى نفقات رحلة شوغالاي إلى مدغشقر في 2018، وذلك بحسب مجموعة “دوسييه” البحثية التي يقع مقرها في لندن والمعادية للكرملن، التي تؤكد أيضا أن رجل الأعمال بريغوجين يسيطر أيضا على معهد أفريك للأبحاث الذي يركز على القارة الإفريقية.
وفي آذار/ مارس من العام الماضي، وهو الشهر الذي سافر فيه شوغالاي إلى ليبيا، قدمت معهد أفريك وثائق لإثبات أن هذا الرجل هو باحث في علم الاجتماع وخبير.
أما مالكيفيتش وهو مشغل شوغالاي فقد أكد أن مؤسسته لا علاقة لها برجل الأعمال بريغوجين. إلا أن الولايات المتحدة في العام 2018 كانت قد سلطت عقوبات على مالكيفيتش بسبب دوره في قضية التدخل الروسي في الانتخابات.
وقال مالكوفيتش إنه أرسل ثلاثة باحثين روس إلى ليبيا للبحث في موضوع: “كيف تفتت ليبيا بسرعة تحت يافطة ما يسمى بالديمقراطية”، بعد الإطاحة بالقذافي في 2011. وفي الرواية التي يعرضها الفيلم الروسي حول ما حدث، تم اختطاف شوغالاي ومترجمه على يد رجال مدججين بالسلاح، في عملية تم التنسيق لها من شخص أمريكي شرير يدعى جون.
وقد ذكر مسؤول ليبي رفيع المستوى أن الشخصية الأمريكية في الفيلم ربما تكون إشارة على المعلومة التي تلقاها الليبيون من المخابرات الأمريكية والتي دفعتهم للقبض على شوغالاي.
ويصر مالكيفيتش على أن أحداث الفيلم تتطابق مع الواقع، ويقول إن هذا العمل السينمائي سيساعد على نشر الوعي الدولي بقضية هؤلاء السجناء الروس.
إلا أن مسؤول أمني ليبي في طرابلس تواصلت معه نيويورك تايمز عبر الهاتف، سخر من الفيلم وقال إنه لم يتمكن حتى من إكمال مشاهدته.
أما بن سالم المتحدث باسم الميليشيا المسيطرة على السجن الذي يقبع فيه الروسيان، فقد نفى تعرضهما لأي سوء معاملة، وأكد أن الفيلم لا يعكس الواقع، وعرض صورا للسجناء يرتدون بدلات موحدة، ويقومون بأعمال مثل تحضير الخبز والعناية بالحديقة ولعب كرة القدم.
وتقول حنان صالح الباحثة في الشأن الليبي في منظمة هيومن رايتس ووتش، إن المنظمة وثقت ادعاءات كثيرة حول سوء المعاملة والظروف غير الإنسانية في السجن، وهو ما يثير القلق حول تعرض أي شخص محتجز فيه لنوع من الانتهاكات.
وقد كانت حكومة طرابلس في البداية تأمل في استخدام السجناء كورقة للمقايضة، حيث أن تسجيلا صوتيا مسربا لمكالمة هاتفية دارت بين مسؤولي ليبي رفيع المستوى ومشغل شوغالاي، بينت أن الليبين عرضوا إطلاق سراحه في مقابل تغيير بوتين الطرف الذي يقف إلى جانبه في هذه الحرب، ومساندة حكومة طرابلس.
وبعد عام كامل خرج هذا الفيلم الذي اعتبره المسؤولون الليبيون تكتيكا مفضوحا للتفاوض، حيث أن مستشارا لفايز السراج اعتبر أن قصة الفيلم تحتوي على عديد الرسائل وحتى التهديدات.
إذ أنه في اللقطة الأخيرة من الفيلم يتعرض السجن الذي يقبع فيه الروسيان إلى هجوم، وتندلع فيه الانفجارات وإطلاق النار.
كما يتم قتل القائد الذي كان يتفنن في ممارسة التعذيب، أما شوغالاي فإنه يلتقط بندقية ويقوم بتحرير سجناء آخرين من بينهم المترجم المرافق له، بطريقة بطولية، ثم يخرج الرجلان إلى الحرية وفي المشهد الخلفي يظهر الخراب والنيران تلتهم السجن.
المصدر: نيويورك تايمز