“أديس أبابا ستملأ بحيرة سد النهضة باتفاق أو بدونه.. إثيوبيا لن تتوسل مصر والسودان للسماح باستغلال مواردها المائية، والمصريون يبالغون في دعايتهم بشأن قضية السد ويلعبون مقامرة سياسية، يبدو أن بعضهم يتوق إلى اندلاع حرب”، تصريح مثير للجدل لوزير الخارجية الإثيوبي غيدو أندارغاشو، أصاب الشارع المصري بالصدمة، بعدما بات أمنه المائي على المحك.
تحول كبير هو الأول من نوعه منذ بدء مفاوضات سد النهضة عام 2011، حيث ألقت مصر الكرة في ملعب مجلس الأمن الدولي للتدخل في القضية المثيرة للجدل التي باتت مصدرًا كبيرًا للتوتر داخل القارة الإفريقية، يضع معه السيناريوهات كافة – حتى المستبعد منها – على طاولة المفاوضات.
دعت القاهرة، الجمعة 19 من يونيو/حزيران 2020، في بيان صادر عن وزارة خارجيتها، مجلس الأمن “إلى التدخل من أجل تأكيد أهمية مواصلة الدول الثلاثة، مصر وإثيوبيا والسودان، التفاوض بحسن نية، تنفيذًا لالتزاماتها وفق قواعد القانون الدولي من أجل التوصل إلى حل عادل ومتوازن لقضية سد النهضة الإثيوبي”، حسب ما جاء في بيان للخارجية المصرية.
ويأتي هذا التصعيد في ضوء “تعثر المفاوضات التي جرت مؤخرًا بشأن سد النهضة، نتيجة للمواقف الإثيوبية غير الإيجابية وعدم توفر الإرادة السياسية لدى إثيوبيا وإصرارها على المضي في ملء سد النهضة بشكل أحادي”، وفق ما ذكر بيان الخارجية المصرية.
تزامن هذا التحرك مع مقترح تقدم به السودان لتصعيد المسار التفاوضي إلى مستويات أعلى بعد الفشل في تحقيق أي تقدم ملموس خلال الجولات المكوكية التي جرت على مدار السنوات التسعة الماضية، وذلك عبر إحالة المفاوضات مع مصر وإثيوبيا بشأن السد إلى مستوى رؤساء وزراء الدول الثلاثة وليس وزراء الخارجية والري.
وكانت الدول الثلاثة قد استأنفت على مدار الأسبوع الماضي مباحثات التفاوض بشأن النقاط الخلافية التي تتمحور في كيفية تشغيل السد في فترات الجفاف وآلية حل النزاعات، إلا أنها لم تسفر عن شيء، حيث أشارت وزارتا الري في القاهرة والخرطوم إلى فشل المفاوضات بصورة رسمية، فيما وجهت أديس أبابا اتهامها للجانب المصري بالتعاطي مع القضية بعدم جدية.
مشروعية اللجوء لمجلس الأمن
إلقاء الكرة في ملعب مجلس الأمن أثار جدلًا كبيرًا بشأن مشروعية تلك الخطوة، حيث ذهب فريق إلى أنها لا قيمة لها وأنه تحرك لا جدوى منه، يفتقد للبعد القانوني، في ضوء معارضته للمادة العاشرة من اتفاق إعلان المبادئ الذي وقعت عليه مصر في مارس 2015، فيما يتعلق بمبدأ التسوية السلمية للمنازعات.
وتشير تلك المادة إلى أن تسوية أي منازعات بين الدول الثلاثة بشأن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق لا بد أن يكون بـ”التوافق” من خلال المشاورات أو التفاوض وفقًا لمبدأ حسن النوايا، وأضافت “إذا لم تنجح الأطراف في حل الخلاف من خلال المشاورات أو المفاوضات، فيمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق، الوساطة أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول/رئيس الحكومة”.
وفي الجهة الأخرى يرى فريق آخر مشروعية هذا التحرك، استنادًا إلى إخلال أديس أبابا بالمادتين الخامسة والعاشرة من الاتفاق والمتعلقتين بالتوافق بشأن قواعد ملء وتشغيل السد، وعليه لا يحق لإثيوبيا الشروع بعملية الملء دون الاتفاق، وفي حالة البدء في ذلك تكون مخالفة للاتفاق.
الخبير السياسي المصري حمدي عبد الرحمن، يبرر تقديم مصر شكوى لمجلس الأمن على اعتبار أن الأزمة باتت تشكل تهديدًا للأمن والسلم الدولي وفقًا للمادتين 34 و35 من الفصل السادس لميثاق الأمم المتحدة، وفي نهاية المطاف يستطيع المجلس وفقًا لنصوص الفصل السابع أن يفرض السلام ويصدر قرارات ملزمة واجبة النفاذ.
وأضاف عبد الرحمن في مقال له على صفحته الشخصية على “فيسبوك” أن ما دفع الجانب المصري إلى هذه الخطوة وصول المفاوضات بين الأطراف الثلاث إلى طريق مسدود، فكل طرف يتمسك بموقفه ويرفض التنازل قيد أنملة، لافتًا أن هذا هو ما حدث بالفعل بعد الجولة الأخيرة من المفاوضات التي انتهت وفقًا للبيان المصري دون تقدم يذكر، وهو ما يعني أن الجانب الإثيوبي ضرب بكل التفاهمات السابقة عرض الحائط بما في ذلك اتفاق إعلان المبادئ عام 2015.
إعلان المبادئ.. نقطة ضعف القاهرة
المعضلة التي تواجه المفاوض المصري الآن تتمثل في القيود القانونية التي كبلت بها القاهرة نفسها بتوقيعها – ممثلة في رئيس الدولة – على اتفاق المبادئ الذي كان بمثابة طوق النجاة لأديس أبابا للحصول على التمويل الدولي لبناء سدها، ومن ثم فإن أي تحرك في وجود هذا الإعلان محكوم عليه بالفشل مقدمًا.
القاهرة تراهن على خرق أديس أبابا لبعض بنود هذا الاتفاق بالبدء في ملء خزان السد بصورة منفردة دون الاتفاق مع الطرفين الآخرين، مصر والسودان، وهي النقطة التي تحول المسار كله إلى مرحلته الصفرية، ويجعل إعلان المبادئ كأن لم يكن، ولعل هذا ما يفسر هدوء رد الفعل المصري بشأن التصريحات الإثيوبية التي فسرها الكثيرون بـ”الاستفزازية”.
غير أنه في الجهة المقابلة هناك من يحذر من رضوخ القاهرة لأي ضغوطات إقليمية أو دولية لتوقيع اتفاق جزئي أو منقوص للموافقة على بدء ملء الخزان، لافتين إلى أنه في هذه الحالة من الصعب تحقيق مصر أي نقاط إيجابية في معركتها الدبلوماسية الأممية.
أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة، نادر نور الدين، يتساءل في مقال له على صفحته الشخصية على “فيسبوك” قائلًا: هل نلغي إعلان مبادئ سد النهضة قبل العرض على مجلس الأمن بسبب المخالفات الإثيوبية؟ مستعرضًا العديد من البنود التي خالفتها أديس أبابا ونسفت بها الاتفاق المزعوم.
وفي مقدمة تلك المخالفات ما أقره الإعلان بشأن وجود مكتب استشاري يحدد نظام الملء والتشغيل، إلا أن أديس أبابا استبعدت المكتب الفرنسي بعد أن قدم تقريره التمهيدي الأول الذي رفضته بما يخالف الاتفاق، كذلك “وجود مبدأ التعويضات المستحقة لمصر والسودان في حالة ثبوت وقوع أضرار بالغة للسد على دولتي المصب، وهو ما رفضت إثيوبيا مناقشته”.
علاوة على مخالفة الجانب الإثيوبي البند العاشر من الاتفاق المتعلق بحتمية اللجوء إلى وسيط دولي عند تعثر المفاوضات وهو ما تم رفضه في مباحثات واشنطن والبنك الدولي، وبناء عليه يكون من حق مصر سحب اعترافها بإعلان المفاوضات، حسبما أشار الخبير المصري.
إعلان حرب
كثير من المحللين المصريين يذهبون إلى أن ملء خزان السد دون اتفاق مع بقية الأطراف بمثابة “إعلان حرب” من جانب إثيوبيا، فالبدء في هذه الخطوة سيؤثر على حصة مصر من مياه النيل، الأمر الذي يهدد بتعطيش المصريين وهو ما لا يقبله الشارع، وفق ما أشار أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، عباس شراقي.
شراقي أوضح خلال تصريحات صحفية له أن الحالة الوحيدة للعودة إلى مائدة المفاوضات إثناء أديس أبابا عن قرار الملء منفردة، موضحًا أن هناك سوء نوايا من الجانب الإثيوبي، كونها ترفض التوقيع على اتفاق ملزم وتتمسك فقط بقواعد إرشادية، وهو ما تم الوقوف عليه خلال الجولات التفاوضية السابقة.
أما الخبير المائي، هاني رسلان، مدير مركز الأهرام للدراسات الاجتماعية والتاريخية، فيصف رسالة وزير الخارجية المصري، سامح شكري، لمجلس الأمن بأنها “ذات لهجة ضعيفة”، لافتًا إلى أنه ما كان مقبولًا أن يحث الوزير إثيوبيا على العودة للتفاوض، وكان الأجدر الاكتفاء بحثها على عدم الملء الأحادي، متسائلًا: ما سيفعل السيد شكرى لو عادت هذه المفاوضات الميته؟ هل سيقبل اتفاقًا جزئيًا مثلًا؟!
وأضاف أنه رغم فشل المفاوضات، فإنها خرجت بنتيجة إيجابية واحدة وهي وحدة الموقف المصري السوداني الرافض للتصرف الأحادى من جانب إثيوبيا وتجديد الولايات المتحدة التأكيد على موقفها السابق الرافض لملء خزان سد النهضة قبل التوصل لاتفاق عادل حوله، وهو ما يعد نقلة دبلوماسية جيدة في مسار عملية التفاوض كانت تفتقدها مصر خلال السنوات الماضية.
ماذا عن الخيار العسكري؟
التصريحات الصادرة عن القاهرة، تذهب في اتجاه محاولة تجنب الخيار العسكري قدر الإمكان، وذلك رغم وجود صوت ليس بالمنخفض داخل الشارع المصري يميل إلى التدخل العسكري لحسم المعركة حال استمرار أديس أبابا في تعنتها إلا أنه ترك الوقت والآلية والتفاصيل للجهات المختصة بذلك.
أستاذ التاريخ والفكر السياسي المصري، شريف يونس، يميل إلى الرأي المتعلق باستخدام الخيارات الدبلوماسية الأخرى ولو كانت خشنة، بدلًا من العمل العسكري، مستعرضًا مبررات تجنب هذا الخيار، على رأسها الضغوط التي من الممكن أن تواجهها الدولة المصرية حال استخدام القوة العسكرية في حل الأزمة، حيث إنها ستكون ضربة قاصمة للاقتصاد المصري وسيكون الثمن كبيرًا.
أما المبرر الثاني – من وجهة نظر الخبير المصري – فهو إستراتيجي، حيث إن توجيه أي ضربة عسكرية، أيًا كان مستواها، سيخلق عداوة مع إثيوبيا لعقود طويلة قادمة، وربما السودان أيضًا، وهو ما قد يكون له أضرار كبيرة على الاستقرار الأمني والسياسي للدولة المصرية، وسيظل الخطر باقيًا حتى لو تم الصلح بين البلدين لاحقًا.
واختتم يونس حديثه بأن وضعية مصر كدولة مستوردة للسلاح وتعاني من أزمات اقتصادية وسياسية يجعل استخدام جيشها كقوة ردع مرهونًا بحسن استخدامه فيما لا يمثل اعتداءً على الغير، وهو ما يتناغم مع آراء أخرى تحذر من أنه في حال القيام بهذا العمل ستجد مصر نفسها أسيرة عقوبات وضغوطات مرهقة قد لا تقدر عليها.
مباراة الدجاج
من النظريات الفلسفية التي تجسد أزمة السد الحاليّة، تلك التي تسمى بـ”مباراة الدجاج” التي أطلقها الفيلسوف البريطاني برتراند راسل التي تتمحور في منافسة دجاجتين في سباق تصادم، كل واحدة منهما تأخذ مسار سباق باتجاه الأخرى، وهنا ثلاثة احتمالات رئيسية.
إما أن تستمر أحدهما في السباق مسرعة، بينما تنجرف الأخرى عن الطريق خشية التصادم، وفي هذه الحالة تفوز الأولى وتخسر الثانية، أما الاحتمال الثاني فهو عكس الأول تمامًا، تنجرف الأولى وتفوز الثانية، فيما يأتي الحل الثالث وهو الأكثر عقلانية، حيث يقرر الطرفان الانحراف عن الطريق وتجنب الاصطدام وبالتالي يبقيان على قيد الحياة على الأقل.
الخبير المصري حمدي عبد الرحمن، قدم روشتة تفصيلية لكيفية تعزيز الاحتمال الثالث العقلاني، وذلك عبر عدد من النقاط التي يجب الأخذ بها والانطلاق من خلالها تجنبًا لصدام ربما يكبد الطرفين خسائر كبيرة، الأول يتعلق بضرورة النظر إلى أزمة سد النهضة باعتبارها “مشكلة سياسية تتجاوز بكثير أبعادها الفنية وهو ما يعني ضرورة توافر الإرادة السياسية والقدرة على الاعتراف بمخاوف الأطراف الأخرى”.
وفي هذه الحالة هناك فرصة للوسطاء الإقليميين والدوليين للتقريب بين الآراء، كما فعل الوسيط الأمريكي والبنك الدولي بجانب وسطاء آخرين على رأسهم جنوب إفريقيا والاتحاد الإفريقي وغيرها من المنظمات والكيانات التي من الممكن أن تؤدي هذا الدور.
أما النقطة الثانية فضرورة إيمان أديس أبابا بأن نهر النيل شريان حياة المصريين وأن المساس به مغامرة غير محسوبة، استنادًا إلى موافقة القاهرة والخرطوم من خلال إعلان المبادئ على حق إثيوبيا في الاستفادة من مواردها المائية، الأمر الذي يجب أن تقدره جيدًا.
وعلى اعتبار أن نهر النيل نهر دولي وليس إثيوبيًا، فإن هناك نظامًا قانونيًا يحكم المسألة وليس على هوى أي من الأطراف المتنازعة، فقد كانت إثيوبيا في عهد منليك الثاني (1844- 1913) دولة مستقلة عندما تم توقيع اتفاقية مياه النيل عام 1902 وعليه فإن ادعاء ملكية السد زعم يتعارض مع أبسط قواعد القانون الدولي.
وفي المجمل فإن القاهرة باتت في موقف لا تحسد عليه بالمرة، فاللجوء إلى مجلس الأمن خطوة غير مرضية للكثيرين، إيمانًا بفقدان المجلس لدوره لا سيما في مثل هذه القضايا التي تحتاج إلى وقت طويل وسجال هنا وهناك، يصب في النهاية في صالح إثيوبيا المتشبثة بموقفها.
ورغم ذلك فإن الوقت ما زال متاحًا أمام المفاوض المصري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، حتى لو بدأت أديس أبابا في ملء السد، فإنه خلال العام القادم – وفق المقرر- سيحتاج السد 4.9 مليار متر مكعب لاختبار أول توربينين به، وهي كمية غير مؤثرة بالشكل المقلق على حصة مصر، لكن خلال هذا العام لا بد من تحركات دبلوماسية مكثفة، لتقريب وجهات النظر، وإلا فمستقبل 100 مليون مصري سيكون على المحك.