فنان تشكيلي بارز، رائد معماري من الطراز الأول، أحد أبرز اللاعبين المؤثرين في العلوم والفنون التركية في القرن التاسع عشر، يعود الفضل له في تحويل متاحف “آثار إسطنبول” إلى واحدة من أهم المجموعات الأثرية الرائدة في العالم، فاستحق عن جدارة أن يكون مؤسس علم الآثار العثمانية.
عثمان حمدي بيك (1842 – 1910).. هذا الاسم الذي يدين له بالفضل كل من طاف بآثار العاصمة التركية، فهو المؤسس الأول للمتحف التركي المعماري والأب الروحي للمدرسة التركية للفنون الجميلة “دار الصنائع النفيسة” التي أثرت المناخ الثقافي والفني بالعشرات من المتخصصين في ترميم الآثار.
كما يُعد أحد قامات الرعيل الأول لمتحف الرسامين الأتراك، باعتباره أول من استخدم الفن التشكيلي في الرسم التركي، وساهم بما لديه من إمكانات ومؤهلات علمية وفنية في تحويل بلاده إلى قبلة للباحثين عن الجمال والأناقة، فعلى يديه تحولت متاحف إسطنبول إلى لوحة فنية يقصدها الجميع من مختلف دول العالم.
الموهبة تتفوق على الدراسة
نشأ عثمان المولود في إسطنبول في 30 من ديسمبر/كانون الأول 1842 لأسرة أرستقراطية محافظة، فوالده إبراهيم أدهم باشا، أحد أبرز مهندسي التعدين في البلاد، عُين رجل دولة وصولًا إلى منصب “الصدر الأعظم” عام 1817، وكان له بجانب عثمان، 6 أشقاء وابنتان، أبرزهم مصطفى مدير جمرك بإسطنبول، وإسماعيل أحمد مؤسسي عليم المسكوكات بتركيا، بجانب خليل الذي عين مديرًا لأحد المتاحف.
التحق عثمان بالمدرسة القضائية “القانونية” عام 1856، ثم أرسله والده عقب نهاية الدراسة بها إلى إكمال تعليمه في باريس لدراسة الحقوق، وظل هناك قرابة 12 عامًا كاملة، درس كل ما يتعلق بالعلوم القانونية، استجابة لرغبة والده وأسرته.
خاض عثمان أول تجاربه الفنية الاحترافية، حين أرسل 3 لوحات فنية إلى معرض باريس العالمي
إلا أنه في الجهة الأخرى وبالتوازي مع دراسته الحقوقية كان شغوفًا بالرسم، فالتحق بورش أشهر رسامي أوروبا في هذا الوقت، جان ليون جيروم وبوولنجر، وفي أثناء تلقيه علوم الرسم والنحت والزخرفة، أوفدت الدولة العثمانية طالبين آخرين لتعلم الرسم في العاصمة الفرنسية، هما شاكر أحمد باشا وسليمان سيد، فكان هؤلاء الثلاثة نواة الرسم التركي الذين قادوا قافلة الفن التشكيلي إلى ما وصلت إليه اليوم من حضور عالمي.
في عام 1867 خاض عثمان أول تجاربه الفنية الاحترافية، حين أرسل 3 لوحات فنية إلى معرض باريس العالمي وقد حملت أسماء “استراحة الغجر” و”الشهم في كمين” و”وفاة الشهم”، لتكون أول مرة يشارك فيها في حدث عالمي كهذا، وهناك تعرف على السيدة ماريا التي تزوجها فيما بعد وأنجب منها فاطمة وخيرية.
الرسام الرحالة
عُرف عن عثمان بك كثرة جولاته ورحلاته، ما بين مهام فنية وأخرى وظيفية إدارية، حيث تقلد عقب عودته لإسطنبول العديد من الوظائف منها إدارة شؤون الأجانب بمحافظة بغداد التي كان يحكمها في هذا الوقت مدحت باشا، المولع بالرسم والفنون، فنشبت بينهما صداقة كبيرة، تعرف خلالها على الروائي المشهور أحمد مدحت أفندي.
كما عمل وكيلًا لمدير بروتوكول القصر عند عودته إلى العاصمة التركية، وشارك كمفوض في المعرض الدولي المقام في فيينا، حيث قدم العديد من الأعمال، وهناك تعرف على نايلا هانم التي تزوجها فيما بعد، وأنجب منها ملاك وليلى وأدهم وناظلي.
كان للفنان التركي دور كبير في الحفاظ على تراث بلاده من النهب، وذلك بمشاركته القوية في إصدار العديد من التشريعات القانونية التي تحد من جرائم سرقة وتهريب الآثار، التي انتشرت في هذه الفترة بصورة كبيرة، وهي القوانين التي تعتمد عليها الدولة التركية حتى الآن في مكافحة تلك الظاهرة.
وعلى مدار سنوات طويلة، داعب فيها عثمان بك اللوحات الورقية والجدران الخشبية، ترك خلالها العديد من التحف الفنية المبهرة، التي لا تزال شاهدة على مدى ما كان يتمتع به من موهبة، ومنها لوحات: لاعبو الشطرنج، ومدرب السلاحف، بجانب ما أبداه من اهتمام كبير بإظهار جماليات الخط العربي، وصور المرأة التركية المنفتحة المثقفة المجادلة القارئة، وهو ما تظهره العديد من أعماله.
مؤسس المتحف التركي
في عام 1881 تم تعيين عثمان بك مديرًا لمتحف الإمبراطورية “همايون” واستمر به قرابة 29 عامًا، بأمر من السلطان عبد الحميد الثاني الذي قلده العديد من المناصب الأخرى التي استهدف من خلالها أن يضع الفنان الأثري القواعد الأساسية لفنون التراث التركي، فتولى مدرسة صنائع نفيسة التي تعد أول معهد للفنون الجميلة في تركيا.
وفي الأشهر الأولى لتوليه متاحف الإمبراطورية ساهم الرجل في إعداد قانون يجرم نقل الآثار القديمة خارج البلاد، وفي عام 1883 تم تعديل قانون (تأسيس آثار أتيكا) لعام 1874، وهي الخطوة التي حفظت للإمبراطورية العثمانية آثارها التي كان معظمها يهرب إلى البلاد الغربية.
كما يعد المدير الجديد للهمايون أول تركي يبتدع فكرة الحفريات العلمية في أثناء إدارته للمتحف، حيث نقب عن الآثار في جبل نمرود ولاجينا (مولا-ياطان) صيدا (لبنان)، وكان من أبرز الاكتشافات التي توصل إليها خلال تنقيبه تابوت الإسكندر في صيدا، الذي يعد من روائع عالم الآثار، ويعرض الآن بالمتحف الأثري بإسطنبول.
نتاجًا لتلك الإسهامات التي قدمها عثمان بك ومن خلفه في إدارة شؤون الآثار التركية، بات في البلاد قرابة 188 متحفًا تابعًا لوزارة الثقافة والسياحة
يذكر أن النشاط المتحفي في تركيا بدأ بالمعنى الحديث أواخر القرن التاسع عشر بفضل عثمان بك، حيث تم توسيع إقامة المتاحف والمنشآت الثقافية والأثرية في البلاد، ومن أبرز المتاحف التي أنشئت في هذه الفترة وكانت تسمى بـ”متاحف الآثار العتيقة” متحف الآثار في إسطنبول والمتحف العسكري في أيايريني ومتحف الأوقاف الإسلامية في مبنى كلية السليمانية وعدد قليل من فروع “متحف الهمايون” لدى المدن الكبيرة في الأناضول.
هذا بخلاف قصر طوب قابي الذي تم تحويله مع كل محتوياته إلى متحف، للزيارة عام 1927، كذلك متحف الأوقاف الإسلامية الذي تحول إلى اسم “متحف الآثار التركية الإسلامية”، بجانب بعض المتاحف الأخرى منها متحف الحيثيين الذي أقيم عام 1940 في بزار محمود باشا، وحوّل إلى متحف حضارات الأناضول بعد ترميمه عام 1967.
ونتاجًا لتلك الإسهامات التي قدمها عثمان بك ومن خلفه في إدارة شؤون الآثار التركية، بات في البلاد قرابة 188 متحفًا تابعًا لوزارة الثقافة والسياحة، بجانب 125 متحفًا خاصًا، فيما ينتشر ما يزيد على 1400 دار للمقتنيات الأثرية في ربوع البلاد، الأمر الذي انعكس بصورة كبيرة على معدلات السياحة وأعداد الزائرين.
وفي الـ24 من فبراير 1910 غادر عثمان بك الحياة في هدوء الكبار، وأقيمت صلاة الجنازة في متحف أيا صوفيا بناءً على وصيته، حيث نقل بعدها إلى القصر الصيني حيث المتحف ثم دفن في قصره في إسكيهي الذي تحول إلى متحف منذ عام 1987 ليخلد ذكراه على جدران كل المتاحف التركية التي تحمل في مضمونها إسهاماته ودوره البارز في تحويل الآثار التركية إلى منصة عالمية للثقافة والفنون.
وتخليدًا لذكراه العطرة وإيمانًا بالدور الذي قام به الرجل أصدرت وزارتا الثقافة والسياحة فيلمًا وثائقيًا يجسد سيرته الفنية والتراثية تحت مسمى “مدرب السحلفاة”، من إخراج المخرج الشهير حاجي فوزيك، لتبقى حياته قصة عذبة الألحان تتغناها الأجيال، جيل بعد جيل.