يبدو أن تجاهل الدروس المستفادة للأحداث وعدم التعلم منها ليس حكرًا على المجتمعات التي تعاني من وعي متدنٍ فحسب، فحتى المجتمعات التي تصنف بأنها على درجة كبيرة من الوعي والتعلم تقع في مثل هذا المستنقع بسهولة ودون عناء أو مشقة.
فبينما كان العالم على صفيح ساخن جراء مقتل المواطن الأمريكي من أصل إفريقي، جورج فلويد، في الـ25 من مايو/أيار 2020، على يد شرطي، في مدينة منيابولس، بولاية مينيسوتا في الولايات المتحدة الأمريكية، وما تلاها من احتجاجات عنيفة ضد عنصرية الرجل الأبيض في البلاد، كانت بريطانيا هي الأخرى على موعد مشابه، لكن العنصرية هذه المرة كانت ضد الأقلية المسلمة.
ففي الوقت الذي يحارب فيه العالم وباء كورونا المستجد الذي أسقط عشرات آلاف الضحايا دون تمييز في اللون أو العرق أو الدين، كان المسلمون في المملكة المتحدة أمام حملات عدائية ممنهجة، لا تراعي المعايير الإنسانية أو القيم الأخلاقية، وهو ما تجسده الأرقام والإحصاءات الخاصة بجرائم الكراهية في هذه الفترة.
مستشار الحكومة البريطانية لتعريف الإسلاموفوبيا الإمام كاري عاصم، في حوار مع “الجزيرة” كشف كيفية استغلال اليمين المتطرف في بلاده لفيروس كورونا (كوفيد-19) للتحريض ضد المسلمين وتعزيز مشاعر الكراهية ضدهم عبر ترويج أكاذيب وادعاءات تزيد حالة الاحتقان ضدهم في الشارع البريطاني.
استغلال كورونا لنشر الإسلاموفوبيا
لم يراعي اليمين المتطرف في بريطانيا الأجواء الصعبة التي غلفتها الجائحة التي بدروها تتطلب تضافر الجهود كافة لمواجهتها، بل على العكس من ذلك استغلها لبث سموم كراهيته ضد كل ما هو مسلم، وهو ما جسدته مؤسسة “تيل ماما” الرقابية في تقريرها بشأن الاعتداءات التي تعرض لها المسلمون خلال شهر مارس/آذار الماضي.
التقرير كشف أنه في خلال هذا الشهر الذي مثل حينها ذروة تفشي الوباء ارتفع عدد الاعتداءات العنصرية بحق المسلمين، حيث دشن الشعبويون حملات ممنهجة تحذر من انتشار الفيروس خلال شهر رمضان بسبب المسلمين وضرورة التصدي لذلك، وهو ما عمق حالة الكراهية.
ارتفعت حوادث الانتهاكات ضد المسلمين في بريطانيا بنسبة 375%، وذلك في أعقاب تعليقات رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بشأن ارتداء النساء للنقاب
ويؤكد مستشار الحكومة البريطانية في حواره أن المسلمين كانوا هدفًا وضحيةً لعدد من نظريات المؤامرة التي تم ترويجها ضدهم، فيما روج يمينيون متطرفون عبر صورة قديمة ادعوا خلالها أن مساجد المسلمين ما زالت مفتوحة، ما يزيد من احتمالية تفاقم الأزمة وتفشي الوباء، تزامن ذلك مع دعوات لهدم تلك المساجد.
ويستعرض المسؤول البريطاني من أصل مسلم كيف استغل اليمين المتطرف الأزمة الحاليّة للهجوم على الأقلية المسلمة، مضيفًا “وصلتنا معلومات أنه في مدينة ليدز قامت مجموعة من الأشخاص يدعون أنهم صحفيون بعملية رصد أمام المساجد، وحاولوا الحديث مع الناس ومحاولة استدراجهم لتصويرهم والحصول على لقطات مزيفة تظهر أن المسلمين ما زالوا يتجمعون أمام المساجد”، وذلك لتصدير صورة مزيفة للشارع البريطاني.
جهود لمكافحة العنصرية.. ولكن
ورغم ما تقوم به الحكومة البريطانية من مواجهة الجرائم العنصرية وتغليظ العقوبة ضد كل من يرتكبها، في محاولة لتصدير نموذج الدولة المتسامحة التي تعلي من قيم المساواة والعدالة، فإن قطاع كبير من الأقلية المسلمة يرى أن تلك الجهود غير كافية، معتبرة أن الحكومة ليست صارمة بما فيه الكفاية ضد السياسيين وبعض وسائل الإعلام عندما يستخدمون خطابًا منحطًا ضد المسلمين.
ومما يزيد من تفاقم الأزمة الخطاب الذي يتبناه الإعلام البريطاني، الذي لعب دورًا كبيرًا في شيطنة المسلمين، بحسب مستشار الحكومة، حيث يتم تغذية الصور النمطية بمشاعر الخوف عبر العزف على عدد من الأوتار التي تمس المواطن البريطاني منها أن المسلمين يسلبون العديد من الوظائف التي هي من حق البريطانيين ما يؤدي إلى تنمية مشاعر الحقد لديهم.
استهداف المسلمين بالخطاب العدائي لم يكن حكرًا على اليمين المتطرف البريطاني فقط، بل وصل الأمر إلى تبني العديد من الصحفيين العاديين خطاب الكراهية ذاته، وهو ما كشفته العديد من الدراسات التي أوضحت أن التقارير الإعلامية التي نشرت خلال الفترة الأخيرة ساهمت بشكل كبير في خلق جو عدائي ضد مسلمي بريطانيا، وذلك من خلال استخدام عناوين عنصرية تستهدف المسلمين على وجه التحديد.
كما تحملت المرأة المسلمة في بريطانيا جزءًا كبيرًا من تلك العنصرية، حينما تعرضت لأبشع صور التمييز، وهو ما تجسده عشرات القصص والوقائع المخجلة، منها البصق على وجوههن، وأخريات تم نزع حجابهن بالقوة، والاعتداء على حقوقهن في التمتع بالحرية.
نجح اليمين المتطرف خلال السنوات الماضية أن يقدم نفسه للشارع الغربي، الأوروبي والأمريكي، كبديل عن التيار المحافظ، عازفًا على وتر المستجدات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وبعض المناطق الأوروبية
تزايد جرائم الكراهية
خلال الأعوام الماضية ومع تنامي نفوذ اليمين المتطرف في أوروبا تزايدت الجرائم العنصرية ضد المسلمين، وهو ما توثقه التقارير الحقوقية والرقابية، ففي أغسطس 2019 ارتفعت حوادث الانتهاكات ضد المسلمين في بريطانيا بنسبة 375%، وذلك في أعقاب تعليقات رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بشأن ارتداء النساء للنقاب، بحسب تقرير نشرته صحيفة “الغارديان” عن مؤسسة “تيل ماما”.
التقرير استعرض أبرز الملاحظات على جرائم الكراهية ضد المسلمين في 2018- 2019 منها ما حدث في فصل الربيع تحت عنوان “يوم عقاب مسلم”، “عندما تم بعث رسائل إلى منازل مسلمين ونواب مسلمين ومؤسسات وأماكن عمل، وتقترح الرسالة على الناس أنه بإمكانهم كسب نقاط مقابل جملة من الأنشطة التي تستهدف مسلمين، بما في ذلك إزالة نقاب امرأة من فوق رأسها أو ضرب شخص ما”.
كذلك ما جرى في يوليو 2018 عندما كتب جونسون عمودًا أشار فيه إلى النساء المسلمات اللاتي يستعملن غطاء الوجه، مشبهًا إياهن بسارقات البنوك، واصفًا النقاب بقوله: “إنه لمن المثير للضحك أن الناس يتجولون وهم يبدون كصناديق الرسائل”.
وبحسب أحد الإحصاءات الرسمية فقد سجلت جرائم الكراهية في بريطانيا ارتفاعًا بنسبة 40% خلال عام 2018 منهم قرابة 52% راح ضحيتها مسلمون، فيما سجلت جرائم الكراهية رقمًا قياسيًا إذ بلغت 94098 جريمة من أبريل/نيسان 2017 إلى مارس/آذار 2018، أي بارتفاع نسبته 17%، ويصنف أكثر من ثلثي هذه الجرائم، أي نسبة 76%، ضمن “جرائم العنصرية”.
رغم ما تعرض له التيار الشعبوي من ضربات خلال الأشهر الماضية، فإن ملايين المهاجرين واللاجئين والأقليات الإسلامية يترقبون مصيرهم الذي بات يتأرجح يمينًا ويسارًا
صعود اليمين المتطرف
نجح اليمين المتطرف خلال السنوات الماضية أن يقدم نفسه للشارع الغربي، الأوروبي والأمريكي، كبديل عن التيار المحافظ، عازفًا على وتر المستجدات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وبعض المناطق الأوروبية التي جاءت بمثابة الهدية التي لا ترفض للشعبويين.
ساعده على ذلك تصاعد أعمال العنف التي تزامنت مع صعود التيارات الدينية المتشددة في الشرق الأوسط وآسيا وبعض دول إفريقيا، التي كان لها تداعيات على الشارع الأوروبي نفسه، كانت فرصة سانحة للتيار اليميني لتعزيز حضوره السياسي، وهو ما ترجمته الماراثونات الانتخابية في العديد من الدول.
وبعيدًا عن مظاهر النفوذ التوسعية لهذا التيار في العديد من بلدان الغرب إلا أن الصدمة الكبرى كانت في بريطانيا حين نجح الشعبويون في إخراج البريطانيين عن عباءتهم الأوروبية عبر استفتاءات “البريكست”، التي تعززت حين فاز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الماضية.
أستاذ العلاقات الدولية في جامعة لندن، فواز جرجس، استعرض 3 أسباب رئيسية وراء تصاعد هذا النفوذ، على رأسها فشل النخب السياسية والاقتصادية التقليدية في توفير الأمن والاستقرار لشعوبها، ثانيها: “العولمة” التي أدت إلى تراكم الثروات في أيدي القليلين وتهميش قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى والطبقة العاملة.
أما السبب الثالث لصعود “القومية الفجة” كما يلقبها أستاذ العلاقات الدولية في جامعة لندن، فيتمحور حول “الثورة المعلوماتية” التي أدت إلى زعزعة الأفراد في المجتمعات متعددة الثقافات، معربًا عن اعتقاده بأن ما نشهده الآن هو صراع هويات وحنين إلى الماضي وإلى الهوية الأصلية لتلك الشعوب.
وفي المجمل ورغم ما تعرض له التيار الشعبوي من ضربات خلال الأشهر الماضية، فإن ملايين المهاجرين واللاجئين والأقليات الإسلامية يترقبون مصيرهم الذي بات يتأرجح يمينًا ويسارًا دون رؤية واضحة في ظل موجات المد والجذر بين التيارات المتطرفة والمحافظة في الشارع الغربي.