من الظواهر الغريبة لأزمة العنصرية الدائرة في الولايات المتحدة الأمريكية منذ أسابيع، التي امتد لهيبها إلى أوروبا في ظل تشابه الحواضن الاجتماعية والسياسية، تجاهل “إسرائيل” تمامًا لأي تضامن ممكن مع اليهود السود، وكأنها تريد التأكيد على تجريد سياستها من الإنسانية والقيم الأساسية لحقوق الإنسان.
لم تستهدف اليهود السود بحملاتها التي تنتشر بقوة لاستقطاب يهود الشتات خلال أزمة جائحة كورونا، وأدارت ظهرها تمامًا لمن انخرط منهم في حراك ضد العنصرية، الأمر الذي يطرح العديد من الأسئلة عن الأسلاك الشائكة في علاقة الدولة العبرية بقضايا العرق والتمييز داخل وخارج “إسرائيل”.
برود إسرائيلي تجاه مقتل فلويد
يعيش الكوكب حالة من الغضب العالمي، بسبب الطريقة التي قتل بها المواطن الأمريكي من أصل إفريقي جورج فلويد، انضم اليهود السود إلى الاحتجاجات الكبرى في الشوارع الأمريكية ضد إهانة العرق واستمرار التمييز ضد بني جلدتهم، لكن يبدو أن هذا الغضب لا يعني شيئًا لـالمنظمات اليهودية الأمريكية التي فضلت أن تبقى في حالة من الكمون والتحفظ الشديد.
رد الفعل “البارد” تجاه وفاة جورج فلويد ليس جديدًا، إذا علمنا أن “إسرائيل” لم تساعد اليهود السود أصلًا خلال أزمة كوفيد-19 المستمرة حتى الآن، مع أن اللوبيات اليهودية اجتهدت بقوة في إنقاذ البيض، بل وحملتهم إلى الهجرة إليها، وتناول “نون بوست” الجهود الإسرائيلية للاستفادة من الجائحة وإغراء أفضل الخبراء للسفر إليها في تقرير مفصل.
تجاهلت الاتحادات والمنظمات اليهودية في الخارج مساعدة الأمريكيين السود، ولم تمنحهم مليمًا واحدًا رغم نداءات بعضهم المتكررة وخاصة يهود إثيوبيا لمساعدتهم في مقاومة هجمة الفيروس التاجي، لكن الدولة العبرية على ما يبدو من المستحيل لها أن تتجاهل العرق ولعناته في تقديم خدماتها.
هذا التمييز يجعل اليهود السود يقارنون دائمًا بين أداء هذه المنظمات التي لها امتدادات فيما يقرب من 70 دولة بالعالم عند طلبهم لمساعدتها، ومسارعتها لنجدة أي مجتمعات يهودية أخرى أقل فقرًا منهم ولكنها من البيض، أو حتى غير اليهود التي تساعدهم من أجل إصلاح صورة “إسرائيل” الذهنية وتوسيع قاعدتها الشعبية في العالم.
يكشف اليهود من أصل إثيوبي على وجه التحديد، ما وراء هذه المعاملة التي يلقونها في أمريكا، ويؤكدون أنها متجذرة في علاقتهم بـ”إسرائيل” التي تغيب أنشطتها الدينية اليهودية عن البلدان الإفريقية وخاصة بلدهم الأم، إذ لا يوجد ممثل رسمي واحد للمنظمات المجتمعية أو الحاخامية الرئيسية أو الأرثوذكسية المحافظة في هذه البلدان على الأقل في العقدين الماضيين.
ما يقوله اليهود الإثيوبيون يعتبره مراقبون تعبيرًا واضحًا عن حجم تأثير العرق في الثقافة الإسرائيلية، خاصة إذا رأينا حجم توسع النشاط الديني الاستقطابي في روسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابقة والبلدان الأوروبية وأمريكا، مقارنة بالبلدان الإفريقية.
عواقب رفض الانضمام للاحتجاج العالمي
ما يحياه العالم أجمع من لحظات فريدة من التضامن بين السود والبيض الذين نظموا معًا مظاهرات حاشدة ضد العنصرية بعد اغتيال جورج فلويد، في محاولة جادة لمحاربة العنصرية المؤسسية في العالم، لم يؤثر على الداخل الإسرائيلي المتصلب حتى الآن، رغم المحاولات التي تبذلها السلطات ومؤسسات المجتمع المدني المؤيدة للمساواة منذ عام 2015 لإنهاء هذه الوصمة من على عائق التجربة الصهيونية.
الموقف الإسرائيلي المريب من الانتفاضة العالمية، دفع إحدى الروابط الأمريكية المؤيدة للقضية الفلسطينية والناشطة في الاحتجاج على مقتل فلويد لاتهام الجيش الإسرائيلي بالتسبب فيما حدث، بسبب تدريبهم للضباط الأمريكيين على أساليب “عنصرية” في التعامل مع السود.
الحملة الأمريكية لحقوق الفلسطينيين المعروفة اختصارًا باسم (USCPR) قالت نصًا: “الجيش الإسرائيلي يدرب الشرطة الأمريكية بطريقة عنصرية وقمعية، وهو أساس التكتيكات الأمنية التي تستهدف الأجساد الملونة بشكل منهجي”.
The Israeli military trains US police in racist and repressive policing tactics, which systematically targets Black and Brown bodies. The recent murders of George Floyd, Breonna Taylor, and Ahmaud Arbery are examples of racialized, systematized violence. https://t.co/DJ7T2qh6RL
— US Campaign for Palestinian Rights (@USCPR_) May 28, 2020
تضع الحملة الأمريكية خطر “العنصرية” على مرتبة متقاربة من “الصهيونية” كنظام سياسي يميز حقوق اليهود على حقوق الآخريين، ورغم قلة فعاليات الحملة، فإن شعاراتها تؤمن بها الكثير من المجموعات الحقوقية المحلية المنتشرة في جميع أنحاء الولايات المتحدة، التي ترى أن توريط “إسرائيل” فيما يحدث رأي صائب وموضوعي، لا سيما بعد كشف سبل التعاون بين تل أبيب وواشنطن في تقرير لمنظمة العفو الدولية عام 2016.
التقرير الذي أحدث ضجة وقت صدوره أوضح وجود صلة كبيرة بين بعض المسؤولين الأمريكيين عن إنفاذ القانون والشرطة الإسرائيلية، وهو ما جعل المنظمات المناهضة للصهيونية، تربط بين وفاة أشخاص سود على أيدي الشرطة الأمريكية، وحوادث عنف مماثلة في “إسرائيل”، مما يعني أن القسوة في أمريكا على السود انعكاس لتطبيقات دروس عنصرية مستوحاة من الإسرائيليين.
يستند هؤلاء إلى الشكاوى المتزايدة للسود في “إسرائيل” منذ سنوات، والعنف المؤسسي لنظام إنفاذ القانون ضدهم، الذي كان سببًا في اندلاع احتجاجات غير مسبوقة قبل عام ونصف في المدن الكبرى بـ”إسرائيل”، التي اتخذت طابعًا عنيفًا وتخريبيًا خاصة في القدس وتل أبيب.
وتظهر الإحصاءات الكثير من أوجه عدم المساواة بين اليهود السود والبيض داخل “إسرائيل”، حيث يتم القبض عليهم بمعدل أعلى من عامة السكان، ووفقًا لتقرير صدر مؤخرًا عن الوحدة الحكومية لتنسيق مكافحة العنصرية، تتضاعف بقوة عدد الشكاوى المقدمة ضد التمييز العنصري، لدرجة أن بعض السود ما زالوا يشكون من الحظر المفروض عليهم في التبرع بالدم بسبب وصمهم بمرض نقص المناعة البشرية ـ الإيدز ـ رغم إزالة هذه القيود رسميًا عام 2017 بعد مقاطعة استمرت لعقود.
المد العرقي في “إسرائيل” وصل إلى مستويات غير مسبوقة، ولم تسلم منه حتى روضات الأطفال التي تخصص الكثير منها بعض الفصول للأطفال السود بعيدًا عن البيض، وكانت قضية رأي عام منذ سنوات وعلى إثرها لجأت السلطات إلى إغلاق بعضهم بعدما خرجت بعض الأمهات لتحكي على مواقع التواصل قصصًا مثيرةً عن مأساة الفصل العرقي بين الأطفال على أساس اللون، والتقطت وسائل الإعلام العالمية هذه الحكايات لتكشف بشكل مباشر أو غير مباشر الوجه الآخر للحداثة الإسرائيلية.
هذه المظاهر وغيرها كانت سببًا في إقامة تجمع التحالف ضد العنصرية المعروف اختصارًا باسم (CAR) الذي بدأ في عام 2003 بتشكيل مكون من 43 منظمة غير ربحية تمثل أصوات الأقلية في “إسرائيل”، وعملت مع المواطنين الفلسطينيين في “إسرائيل” بجانب المجموعات الناطقة بالروسية والإثيوبية واللاجئين، لتعزيز حقوق النساء والمعوّقين والأطفال والفلسطينيين والمسنين.
ينشر التحالف تقارير سنوية توثق حالات العنصرية خلال العام السابق بجميع لغات أعضاء الائتلاف، بما في ذلك الأمهرية والعربية والعبرية والروسية لرصد الانتهاكات المختلفة لوسائل الإعلام العامة والعالمية ونشر المواد التي تعزز بعض الأنشطة والممارسات التي لها طابع عنصري.
نُظمت فعاليات ثقافية في مناطق مختلفة بجميع أنحاء “إسرائيل” لجمع الجماهير من يهود وعرب بيض وسود وشحنهم ضد العنصرية والتمييز من خلال تشجيع الاختلاط وتبادل الثقافات والاحتفال بها وخاصة في منطقة الجليل التي تعد موطنًا لمجموعة واسعة من الأعراق والقوميات والأديان، ورغم ذلك هي الأكثر عزلة في “إسرائيل”، ومن يدخل من أبنائها إلى مؤسسات الشرطة أو الجيش تظهر عليهم بصمات العنصرية والتحامل على غيرهم.
يمكن القول إن التغيير الاجتماعي في النظرة الإسرائيلية للسود بالداخل والخارج ليس واردًا في المدى المنظور، ومع أن هناك بعض الحلول التي تطرح إلا أن الأخذ بها يجري بشق الأنفس، وهو ما يجعل “إسرائيل” ضمن الخريطة الكبرى للعنصرية والصراع القائم على العرق في العالم، ولهذا – إلى جانب العنصرية الموصوفة والفجة تجاه الشعب الفلسطيني – ستظل “إسرائيل” مريضة بالانقسام والعنصرية والصراع حتى إشعار آخر!