ينصب اهتمام الفلسطينيين على خطوة الاحتلال الإسرائيلي المتعلقة بقرار الضم للضفة الغربية المتوقعة مطلع يوليو القادم، خطوة كشفت عمق الفجوات لدى الفلسطينيين، فطالبت أصوات بإعادة الاعتبار السريع لمنظمة التحرير وإرجاعها لأعلى سلطة سياسية لدى الفلسطينيين في الداخل والخارج، ودعت أصوات أخرى لحل السلطة، أو تتوقع ذلك في حالة تصعيد ستشهده الضفة، لكن مما لا شك فيه أن الفلسطينيين محبطون جدًا أمام فشل حل الدولتين أو عدم قدرتهم على استدعاء العسكرة مرة ثانية تحديدًا في الضفة الغربية بالنسبة لفصائل مثل حماس والجهاد وفتح، ثم عجزهم عن تدبير وتوفير حاضنة مالية مستقرة لهم، الأمر الذي أدخل الحركة الوطنية الفلسطينية في أزمة كبيرة.
رحلة المنظمة
منذ البداية نشأت حركة التحرر الفلسطينية كحركة لجوء، وعلى أساس ذلك نشأت منظمة التحرير الفلسطينية كأعلى سلطة فلسطينية على الصعيد الدولي، وقد منحت المنظمة اعترافها الدولي بالاحتلال الإسرائيلي مقابل الاعتراف بها دوليًا، لا سيما أمريكيًا وإسرائيليًا، على أمل الاعتراف بالدولة الفلسطينية بعد مراحل أوسلو التي كان من المفترض أن تفضي إلى إنهاء التفاوض على قضايا الحل النهائي. لكن الفلسطينيين أصيبوا بخيبة أمل.
وفق المخطط الدولي كان من المفترض أن تجمع المنظمة كل الفصائل الفلسطينية تحت إطارها، ثم يتم دمج المنظمة بفصائلها تدريجيًا في السلطة الفلسطينية وبعدها تحل المنظمة، لكن منظمة التحرير الفلسطينية عجزت أن تجمع كل الفصائل، فقد ظلت حماس والجهاد الإسلامي – بما يمثلانه من ثقل شعبوي فلسطيني – خارج المنظمة، ومع هذا الفشل بدأت تتداخل الصلاحيات بالكامل بين المنظمة والسلطة الفلسطينية، وتداعت الفروق بين كلتا المؤسستين، وأضحت معها المساءلة شبه مستحيلة، والأهمية للسلطة على حساب المؤسسات، وتداخلت معها الصلاحيات والمصالح المتمايزة بحيث أصبحتا مؤسستين قابلتين للتبادل بشكل متزايد، كانت المشكلة في أنه لم يكن للمنظمة الأولوية للسابقة المؤسساتية.
ظهرت فجوة التمويل والسيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية الإطار الجامع للكل النخبوي الفلسطيني – كان من الممكن إدخال الفصائل الفلسطينية – لكن المشروطية الفلسطينية بحد ذاتها توافقت مع المشروطية الدولية، إدخال الفصائل المتبقية في المنظمة إذا اعترفت بما تعترف به المنظمة، أصبحت معها السلطة ذات الحدود الجغرافية المحدودة أهم من المنظمة ذات الامتداد والاعتراف العالمي في ظل الاحتلال الإسرائيلي وديناميات حركات التحرر الفلسطينية، ثم بدأت المنظمة بمكوناتها تتلقى تمويلها ومواردها المالية من السلطة الفلسطينية وليس العكس، ما أضعف أي دور رقابي للمنظمة.
وفي نهاية المطاف لأن السلطة تخضع لسيطرة ونفوذ الاحتلال الإسرائيلي، وما دام الكيانان يتشاطران القيادة نفسها ويقعان في المقر ذاته من الطبيعي أن يخضع مسؤولو منظمة التحرير الفلسطينية للضغط القسري ذاته الذي يخضع له مسؤولو السلطة بما يعيق استقلالية صنع القرارات وفعاليتها بشكل كبير.
زاد تعقيد المشهد تأسيس حماس للمؤتمر الشعبي لفلسطيني الخارج الذي اعتبرته السلطة محاولة لفرض بديل عن منظمة التحرير الفلسطينية
المقاربة التي حصلت لرأب الصدع في منظمة التحرير الفلسطينية، بعد اتفاق اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني الفلسطيني بحضور كل الفصائل في بيروت خلال يناير 2017 على عقد مجلس وطني فلسطيني يضم القوى والفصائل الفلسطينية كافة، وتشكيل حكومة وحدة فلسطينية تمارس صلاحياتها في كل مناطق السلطة الفلسطينية كانت خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها سرعان ما أضيفت لخيبات الأمل الفلسطينية المتسارعة على المستوى الداخلي بعد عقد اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في رام الله مايو 2018، تحت سيطرة الاحتلال، ما منع مشاركة فصائل مثل حماس والجهاد واستثناء الخارج الفلسطيني، لتظل منظمة التحرير خاضعة للسلطة الفلسطينية بدلًا من فصلها كمؤسسة جامعة للكل الفلسطيني.
زاد تعقيد المشهد تأسيس حماس للمؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج الذي اعتبرته السلطة محاولة لفرض بديل عن منظمة التحرير الفلسطينية، في حين اعتبرته حماس حالة طبيعية ضمن الفراغ الحاصل، وقد أجج ذلك الخلاف السياسي الداخلي الفلسطيني وأدخل الفلسطينيين في التيه.
ركائز البناء
وإن كانت المنظمة ملاذًا للكل الفلسطيني في الداخل والخارج، هناك ثلاث ركائز جيدة من الممكن البناء عليها لإعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك الحركة الوطنية الفلسطينية:
الوضوح المؤسساتي: يتمثل في فصل منظمة التحرير الفلسطينية عن السلطة الفلسطينية باعتبار الأولى الإطار الجامع للكل الفلسطيني، وعدم المزواجة في المناصب القيادية بينهما، وتوضيح أدوار كل من المنظمة والسلطة مع إعادة الأسبقية في مجال السياسة الوطنية وصنع القرارات.
الوضوح التمثيلي: إصلاح النظام الانتخابي لتشمل المنظمة كل الفصائل الفلسطينية، بعدها إجراء انتخابات لإعادة هيكلة المنظمة بما يشمل كل الفصائل وضمن المساحة العامة لتبادل الأفكار والبرامج السياسية.
الوضوح العلائقي: تقييم العلاقة بين المؤسسات الفلسطينية أولها منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي خارج إطار أوسلو، بالارتكاز على عدم التعاون مع نظام الاحتلال الصهيوني الإسرائيلي، وتوحيد الموقف الفلسطيني تجاهه.
في نهاية المطاف إن كان المجتمع الدولي السياسي ومجتمع المانحين غير قادرين على تسوية الصراع الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي بما يرضي حقوق الفلسطينيين، فإن الفلسطينيين لم يقدموا لأنفسهم أي خطوات للمعالجة ضمن (صراع الإرادات والصلاحيات والبرامج) الحاصل الذي أفلت منه جيل جديد كامل، أصبح خارج المشروع الوطني الفلسطيني وإستراتيجياته في ظل الفراغ المعاش غير القادر على استيعابهم ضمن المشروع الوطني الفلسطيني.
وهنا يطرح تساؤل مهم: لماذا لا يتجه الفلسطينيون نحو ذاتهم لعلاج أهم إشكالياتهم (الإطار الجامع) والمرتهن بالإرادة السياسية والنخب الفلسطينية بما يضمن عودة منظمة التحرير الفلسطينية لمشروعها الثوري التحرري الجامع بدل المشروع الكياني الواقعة فيه.