لم يكن أحد أقربائي ينفك بتذكيري أن يوم ميلادي 9 من يناير 1987 كان فألًا حسنًا على العراق، إذ حقق الجيش العراقي تلك الليلة – يقول قريبي – نصرًا ساحقًا على الجيش الإيراني في معارك شرق البصرة وكانت الإذاعات تضج بأخبار النصر يوم كانوا ينتظرون قدومي لهذه الدنيا، ومع تكرار الملاحظة بقي الموضوع في ذاكرتي طويلًا ثم دفعني الفضول لمعرفة تفاصيل أكثر عن ذلك اليوم المجيد من مصادر عسكرية موثوقة!
كانت المفاجأة بوقع الصاعقة، فلم يكن هناك هجوم ولا انتصار ولا أي من ذلك! في كتاب (دروس من الحرب الحديثة II: الحرب العراقية-الإيرانية) يقول كبير الباحثين في معهد الدراسات الإستراتيجية والدولية أنتوني كوردسمان: “في ليلة يوم 9 يناير عام 1987 قامت القوات الإيرانية بهجوم ضخم من محورين باتجاه منطقة التنومة – البصرة، وقد حقق الهجوم في بدايته تلك الليلة تقدمًا كبيرًا بمواجهة الفرقتين الثامنة والحادية عشر العراقية إلى حد أن بحيرة السمك المقابلة للبصرة قد وقعت بيدها”!
ليس ببعيد عن الحرب وبالتوسع أكثر في ذلك الكتاب، كانت الأحداث التي يتدوالها الناس نقلًا عن الراوية الرسمية العراقية في كيف بدأت الحرب وكيف سارت، معكوسة تقريبًا، أكثر من ذلك وبتدقيق مماثل، يتبين أن أغلب الرويات التي يتداولها الناس عن الحروب والأحداث العربية لا علاقة لجوانب كبيرة منها بالحقيقة، فكيف هضمت الجماهير ذلك الكذب؟
لماذا يُصدق الشعب الأكاذيب؟
لأننا نريد ذلك ببساطة! الشعوب هي مجموعات كبيرة من الأفراد، ونحن كأفراد نصدق ما تميل إليه أنفسنا وما يصب بمصلحتنا، في تحقيق لشبكة NBC الأمريكية يقول الخبير النفسي ديان بارث: “من الطبيعي أن يميل الناس لتصديق الكذب حتى عندما يكون لديهم دليل جوهري على أنه تم الكذب عليهم، مثل الآباء الذين يعتقدون أن أطفالهم لا يتعاطون المخدرات، حتى بعد العثور على مخبأ في درج جورب الطفل، العشاق الذين يصرون على أن شريكهم مخلص على الرغم من الملابس الداخلية غير المألوفة في الغسيل! وشركاء الأعمال الذين يعتقدون أن الخسائر المالية هي لسبب غير مفسر بخلاف أن أفضل صديق لهم يسرق منهم”.
ووفقًا لتقارير طبية نشرها مجموعة من الأطباء في مايو كلينيك فإن “تصديق الكذب، وسيلة لحماية النفس، على الصعيد الفردي والمجتمعي، فبدل تصديق الحقيقة، يوحي تصديق الكذب بعدم وجود مشكلة وأن كل شيء على ما يرام حتى لو كان الحال بغير ذلك، والأمر على كل حال قد يساعد على العمل لإيجاد حلول قد يصعب إيجادها في حالة الذعر والقلق”، ويقول الكاتب غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجيا الجماهير: “الجماهير لم تكن يومًا ظمأى للحقيقة، وأمام الحقائق التي تزعجهم فإنهم ينظرون دومًا للاتجاه الآخر، وهم يفضلون تأليه الخطأ إذا ما جذبهم الخطأ، فمن يعرف إيهامهم يصبح سيدًا لهم، ومن يحاول إيقاظهم يصبح ضحية لهم”.
يؤمن كثير من الناس أن رأفت الهجان حقق اختراقًا مهولًا في “إسرائيل”، ولا يريد أحد الاعتقاد بغير ذلك
قد يصبح الآن ممكنًا – في ضوء هذه التقديرات – تكوين مفاتيح لفهم تصرفات بعض الشعوب العربية في التاريخ الحديث، لم تكن الجماهير تدرك مثلًا أن نكسة أصابت العرب جميعًا، حين كانوا يقرأون عناوين الصحف التي تعلن أن الجيوش العربية تحاصر تل أبيب عشية بدء الحرب، ولم تكن تعرف أن الطيران الإسرائيلي نفذ إحدى أكبر عمليات القصف الجوي، بينما هي تنتشي بأخبار إسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية في سماء مصر، في وقت كان جيشها الزاحف نحو تل أبيب، قد تكبد 11500 قتيل و10 آلاف جريح مع آلاف الدبابات والمدرعات والعربات العسكرية وقطع المدفعية!
لكنها حتى مع إدراكها للحقيقة، خرجت تطالب بعودة الرئيس الذي تسبب بكل هذا بدلًا من المطالبة بمحاكمته، تمامًا كأن شيئًا من الحقائق لم يظهر للعيان!
قِس على ذلك كثيرًا من الأحداث، خذ مثلًا موضوع الجاسوس المصري رأفت الهجان، يؤمن كثير من الناس أن الرجل حقق اختراقًا مهولًا في “إسرائيل”، ولا يريد أحد الاعتقاد بغير ذلك، حتى مع ذكر أن تقرير الجيش المصري عن حرب 67 الذي كتبه الفريق أول عبد المحسن مرتجي قائد الجبهة الشرقية خلال الحرب بعنوان “أمانة”، والمذكرة التي كتبها الفريق محمد صادق مدير المخابرات الحربية بتاريخ 25 من يونيو 1967 لرئاسة الجمهورية يقولان فيهما إن مصر ليس لديها عميل واحد له قيمة داخل “إسرائيل” وأننا نعاني من نقص شديد في المعلومات، حتى مع تلك الحقائق يفضل الناس تصديق مسلسل تليفزيوني على وثائق يكتبها رؤساء الأركان لرئيس الجمهورية جمال عبد الناصر.
هذه ليست إلا أمثلة في قائمة طويلة تفضل فيها الشعوب تصديق الأكاذيب، بدءًا من الانتصارات العربية في حرب 48، إلى حصار تل أبيب في النكسة، إلى تحرير الجولان عام 73 إلى الانتصارات العراقية خلال الفترة الوسطى من حرب إيران، إلى دحر العدوان الثلاثيني في حرب الخليج الثانية، إلى انتحار الجيش الأمريكي على أسوار بغداد عام 2003، إلى كذبة أن الجيوش درع للأمة العربية!
عقل واحد.. سحر واحد
لا يرتبط تصديق الشعوب للأكاذيب بوجود الديكتاتورية حصرًا، فيتكرر الأمر نفسه في الغرب وإن كان بدرجات مختلفة، فقد انتخب الجمهور البريطاني رئيسًا للحكومة قرر غلق البرلمان بشكل غير قانوني وتعرض لاتهامات بنشر أكاذيب فيما يخص الخروج من الاتحاد الأوروبي “البريكست”، وفي أمريكا، كان المواطنون مخيرين بين مرشح تصل نسبة قوله الحقائق خلال حديثه 75%، ومرشح يخالف الحقائق في 70% من حديثه، فقرروا اختيار رئيس تجاوز عدد أكاذيبه 19 ألف كذبة منذ توليه المنصب، بحسب إحصائية واشنطن بوست!
إن الأكاذيب، تعمل عمل المخدرات حين تكون موافقة للعقل الجمعي لسامعيها وما يريدون سماعه، ففي دراسة لجامعة غرب أستراليا أجراها اثنان من كبار علماء النفس الدكتور أولريخ إيكر والدكتور ستيفان ليفندوفسكي، يورد التقرير: “من المرجح أن تظل المعلومات الخاطئة عالقة في الدماغ إذا توافقت مع معتقدات سياسية ودينية واجتماعية مسبقة، كما أن محاولة تصحيح المعلومة قد تؤدي لنتائج عكسية تفضي لتعزيز تلك المعطيات وما بُني عليها من نتائج”.
يمكن رؤية كيف يكون هذا النوع من الأكاذيب فاعلًا حين يقترن مع الوطنية والشعبوية التي ينتهجها تيار اليمين في الغرب أو الأنظمة الشمولية في الشرق، فيصدق بعض المصريين الحديث النبوي عن خير أجناد الأرض رغم الأدلة الكثيرة على أنه حديث ضعيف جدًا! وتصدق فئة من السعوديين أن بلدهم دولة عظمى على مستوى أمريكا وروسيا رغم أنها بالكاد تصمد بوجه قبائل متناثرة في اليمن.
في الغرب لا تمانع الشعوب في ربط الإرهاب بالعرب والمسلمين طالما أن الأمر يوافق نظرتهم لتلك البلدان، وفي الولايات المتحدة، لم يكن لدى الأمريكيين مشكلة في إعادة انتخاب الرئيس بوش الابن رغم احتلاله العراق بسبب أسلحة دمار شامل اكتشف العالم أنها لم تكن موجودة أصلًا!
في كتابه “التفكير السريع والبطيء” يوضح الكاتب الحائز على جائزة نوبل دانييل كانمان أن ترسخ معلومة في العقل حتى مع عدم الإيمان بها يولد فيه انطباعًا تلقائيًا يغيب معه التحكم البشري، فيخرج بصورة طبيعية قد يشكل في بعض الأحيان رد فعل تلقائي تجاه حدث أو موقف ما، وهنا تكمن خطورة الأكاذيب! فالتعرض المستمر لها – خاصة مع محدودية الثقافة -،يشكل أفكارًا وعقائد يصعب تغييرها حتى مع كشف الكذبة الأصلية المسببة لها وينشأ على ضوئها شريحة كبيرة في المجتمع تصدق كل ما يُقال لها طالما أنه يغذي فيها شعورًا بالعظمة حتى لو كان كل ذلك حزمة من الأكاذيب المخدرة، الجيش الذي يحاصر “إسرائيل” أنموذجًا!