المدينة كتاب مفتوح، يقرأها المتبصر بأحوالها، المراقب لخلجات نفسها وهمساتها، ولكل مدينة روح مختلفة عن نظائرها، وطبقات تحكي تاريخها وأحداثها المتنوعة على مر الزمان، وكما يجادل سوديتش في كتابه لغة المدن، فإن المدن ليست مجرد تكتل لمبانيها الحاليّة، بل تتشكل وتتغير طبقًا لطبقات عديدة متراكبة مثل القيم العُليا للمجتمع والدين والمستبدين والتجارة والصناعة والخطط العسكرية وفن الحكم والتضاريس والمناخ، وغيرها من العناصر بجانب أهل تلك المدن والأحداث التي تشهدها أي مدينة مما يساعدها أن تكون معنا في كل ركن من أركانها، وسيكون من المفيد إلقاء نظرة سريعة على القاهرة من خلال هذه العدسات لفهم تحولها بشكل أفضل.
فكيف آلت القاهرة إلى ما هي عليه الآن؟ ما مراحل تكونها وتطورها في المئة عام الأخيرة؟ كيف تغيرت أنماط حياة المصريين؟ وكيف أثر هذا التغير على الحياة الحضرية والمدنية؟
تُعد القاهرة المدينة الأكبر إفريقيًا، والـ16 كأكبر منطقة حضرية عالميًا بنحو 22 مليون نسمة يعيشون بين أكنافها، القاهرة مدينة ضخمة ممتدة زمانيًا ومكانيًا، مزدحمة ازدحامًا متزامنًا في جميع أطرافها، ورغم تلك الفوضى الخلاقة التي قد تظنها عشوائية للوهلة الأولى، فإن القاهرة ليست عشوائية أبدًا، بل كما يشير نيل شوسترمان أن كل ما بالمدينة ينمو بدافع الحاجة إلى حل مشكلة موجودة بالفعل – كحل غير رسمي – وهذا قد يخلق المزيد من المشاكل التي تحتاج إلى حلول.
فالحلول غير الرسمية قد لا تكون الأنسب، ولكنها لم تُخلق بدافع عشوائي كما قد تخيله لك الفوضى الموجودة بشوارعها، ومن الواضح أن تلك الفوضى الظاهرة دفعت الكثير إلى اتجاه الحنين لعصر القاهرة الذهبي بين أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.
ورغم أن هذه الصورة الخيالية تفشل في تحديد الحياة الواقعية للقاهريين وتفاعلهم مع مدينتهم، فإن الكثير من القاهريين تملكهم سحر الصور المثالية التي تصور جزءًا من الصورة الكبيرة التي لا تناسب معظم القاهريين في عصرنا هذا كما سنناقش في هذا الملف، لكن دعونا نبدأ بدراسة التغير الحادث للقاهرة الذي حولها من ذلك العصر الذهبي المنشود إلى الواقع الذي يسعى الجميع للهرب منه إلى واقع آخر مسببًا صدامًا ينتج عنه ارتباك في عقل المواطن المصري ونظام أفكاره الذي يقوده إلى نقطة هروب أو ضوء وهمي في نهاية نفق الماضي.
إطلالة على القاهرة في عصر الحداثة
في حين أن القاهرة مدينة تنمو باستمرار إما بطرق طبيعية أو عن طريق الهجرة، بدأت الكثير من المساكن غير الرسمية – أو فيما يُسمى بالعشوائيات – في الظهور لتحاول حجز مكانها في العاصمة، مما خلق أزمة حضرية أو ما قد نسميه مشكلة التحضر – أي زيادة نمو المدينة – وتلك الزيادة غير المخطط لها قادت القاهريين إلى التوق إلى الماضي كنموذج العدد المحدود من السكان والمساحة، مما يوحي بمفهوم تقلص المدينة، وبدلًا من تنفيذ هذا التقليص فإن رد فعل الدولة على هذه العملية هو “هدم المساكن غير الرسمية منخفضة الكثافة، وبناء المساكن الرسمية ذات الكثافة الأكبر”!
لقطة جوية لحي إمبابة بالقاهرة
مدينة تحيا مصر مرتفعة الكثافة السكانية
كانت كل سُلطة متعاقبة على حكم مصر تحاول إضفاء سياسات عمرانية مختلفة عن سابقتها، ولكننا لا يجب هنا أن نخلط بين السياسات العمرانية المختلفة والمتضاربة أحيانًا، ومفهوم الفيلسوف الألماني والتر بنيامين “العيش دون آثار الماضي”، والفارق هنا أن بنيامين قصد بذلك أن ترك آثار الحقب الماضية سيكون خيانة للحداثة نفسها، يذكر أوين هيثرلي في كتابه “الحداثة العسكرية” أن بنيامين أراد محو تراكم الخنق المؤرخ الذي شكل الجمالية البرجوازية قائلًا “لقد قام المهندسون المعماريون الجدد بزجاجهم وفولاذهم بإنشاء غرف يصعب فيها ترك آثار”.
أو ما قاله مارينيتي وسانت إيليا في بيان العمارة المستقبلية: “ستدوم منازلنا وقتًا أقل مما نفعل، وسيتعين على كل جيل أن يصنع منزلًا خاصًا به، لأن الحداثة معادية للتراث وفقًا لهاثرلي، هذا هو المقصود من محو الآثار وتجاوز العالم القديم قبل أن تُتاح له الفرصة للحاق بك”.
وفي ضوء هذا المفهوم لا ينبغي لنا أن نقارن بين هذا النهج الذي انتهجته العديد من المُدن الغربية وما يُسمى بمدن وعواصم دول العالم الثالث في عصر الحداثة، على الرغم من أن الكثير منها قد تم استعمارها بالفعل في القرن الماضي، والحكم عليها بنفس المعايير لن يؤدي حقًا إلى أي نتائج متماسكة، على النقيض من ذلك قد تضلل إلى مفاهيم وتحيزات خاطئة، فالقاهرة وحكامها لم يعبأوا بمحو الماضي ظاهريًا بقدر اهتمامهم بتخليد أسمائهم وتنفيذ مشروعات تنموية تُضاف إلى قائمة إنجازاتهم، وعلى الرغم من ذلك فإن الأيدلوجيات المختلفة للحكام المتعاقبين أثرت تأثيرًا لا مفر منه في عمارة وعمران المجتمع والمدن.
تأثير التحويلات الأيدلوجية على عمران مصر
سياسيًا، مرت القاهرة في العصر الحديث بتحولات حادة من المملكة بتأثيراتها الغربية على الطبقية والعمارة وأساليب الحياة، التي وصلت إلى نهايتها عام 1953 لعصر اشتراكي قومي عربي تحت حكم جمال عبد الناصر جذب كل ما هو سوفيتي إلى الشرق! كان لعصر ناصر أيضًا نقطة البداية للمساكن غير الرسمية “العشوائيات” على أطراف القاهرة آنذاك.
استمر عهد عبد الناصر حتى عام 1970 عندما مات ناصر ثم انتقل إلى نظام ليبرالي بالكامل تحت حكم السادات، وكان يسمى عصر الانفتاح الذي غير الدفة قليلًا إلى الاتجاه القومي المصري الخالص، مغيرًا اسم الدولة المصرية من الجمهورية العربية المتحدة إلى جمهورية مصر العربية.
حدث تغيير جذري آخر بعد حرب 1973 مباشرة عندما انتهى النفوذ الاشتراكي، وجعلت السياسات الرأسمالية الليبرالية المثقفين المصريين يتبنون أفكارًا جديدة مثل الليبرالية والديمقراطية التي أدت إلى تحويل وجهة النظر الفردية إلى مجال مفتوح مما أعطى الفرصة للمهندسين المعماريين المصريين من مجرد الاستقبال السلبي للهندسة المعمارية المستوردة إلى المشاركة والتكامل بين التيارات التقليدية والغربية، مما جعل بعض الناس يشعرون أن هذه العمارة بدأت في الاقتراب منهم، كما نلاحظ أيضًا صعود الطراز الفرعوني المعماري الذي كان معارضًا قويًا للاتجاه العربي الذي تمت الدعاية له في عهد ناصر.
أحد الأمثلة التي يمكننا رؤيتها بوضوح هو نصب الجندي المجهول الذي تم افتتاحه عام 1975 وكان له شكل هرم وتم اختيار شكل الهرم كرمز لفكرة الخلود في حضارة المصريين القدماء، ومن المفارقات أن السادات دفن في هذا المكان بعد اغتياله عام 1981.
حافظ مبارك على خطى السادات حتى حدثت ثورة 2011 ، ومن ثم استمر الحال دون تغيرات جذرية الى أن تولى السيسي رئاسة مصر الذي نرى العمران في عهده إكمالًا لتلك الهوية الفرعونية في الكثير من المشاريع الحديثة، كما سنرى بشكل أكثر تفصيلًا في المقالات القادمة.
نقطة واحدة يجب ملاحظتها في القاهرة أنه على الرغم من أن بعض الرؤساء حاولوا تغيير السياسات السابقة، فإن القاهرة لم تعمل على إزالة الآثار كما جادل بنيامين، وبدلاً من ذلك عملوا على مبدأ الطبقات المتراكبة أو بتعبير أوريلي: “مدن بداخل المدينة”.
واختصارًا، فإن نظرنا إلى العلاقة بين السلطة والعمران من عام 1952 إلى يومنا هذا، نجد أن الممارسة المعمارية في مصر اتسمت بالازدواج الفكري والفوضى الأيدلوجية، ففي عهد عبد الناصر الساعي للاشتراكية والتودد للسوفيت، تم استيراد نماذج من ذلك الجزء الشيوعي من العالم، والتأميم وهدم منازل النوبيين والكثير من السياسات التي عزلت الشعب عن عمرانه، ومن بعد ذلك سياسات السادات التي أعطت الحرية العمرانية التي عكست محاولات تطويرية تسعى للاندماج سواء كانت ناجحة أم سطحية، فإنها تعكس التغيير المصاحب للتغيير الأيدولوجي للحكومات.
كل هذه التغييرات الجذرية أثرت حتمًا على القاهرة كونها العاصمة والبوابة التمثيلية لمصر، ناهيك بصعود وسقوط الأيدلوجيات المتوالي وسقوط وصعود الدين المتتالي في حياة المصريين وتأثير ذلك على حياة المدينة التي هي مسرح أحداث الشعوب.
نشأة “العشوائيات” في القاهرة
خريطة المناطق الرسمية وغير الرسمية بالقاهرة
عندما حكم عبد الناصر مصر، كانت هناك حاجة لنسخة مصرية من الثورة الصناعية، مما جعل الكثير من المهاجرين يتدفقون إلى القاهرة مما تسبب في سبب رئيسي للوضع الراهن للقاهرة مترامية الأطراف، ولم تحاول تلك المساكن غير الرسمية الجديدة أو حتى الرسمية محو أو تدمير أي آثار برجوازية، فتلك الآثار البرجوازية وعلى العكس احتلها الكثير من الضباط الأحرار وتحكموا في ممتلكاتها!
وفي عهد مبارك، وصلت المساكن غير الرسمية إلى ذروتها ووجدت الدولة نفسها في طريق مسدود حيث لا يوجد حل آخر إلا هدم تلك العشوائيات الموجودة ووقف ظهور أي مناطق غير رسمية جديدة، فالأنظمة الرأسمالية تنظر إلى تلك المساكن غير الرسمية في المقام الأول كمناطق ذات قيمة أرض مرتفعة لأنها تتمتع بموقع ممتاز في القاهرة – بعضها مجاور للمناطق الفاخرة – وتحت ضعف الدولة، بدأت المناطق غير الرسمية في التوسع بشكل كبير، فوفقًا لبعض الإحصاءات، 2/3 من مستوطنات القاهرة غير رسمية، وأصبح القبح هو المسيطر في الكثير من مناطق القاهرة.
وخلال هذه الصراعات، كان للعالم المعماري والحضري فترة خمول نظرية كما يناقش فيليب أورسبرونج في مقاله “نهاية النظرية؟” وهنا بدأ عصر حضاري ومعماري جديد ألا وهو “النوستالجيا الحضرية” أو الحنين إلى الأيام الماضية الخالية!
فلماذا يحن المصريون إلى الزمن الذهبي للقاهرة؟ وهل كان هذا الزمن ذهبيًا حقًا؟ هذا ما سنعرفه في المقال القادم باذن الله.