تحاول الكثير من المجمعات الجديدة والمشاريع الحضرية إعادة إنشاء القاهرة في العصر الذهبي على الأقل معماريًا، ولكن في صحراء قاتمة بعيدة عن القاهرة. ومن جهة أخرى تحاول الدولة إنشاء نسخة مقلدة تقليدًا سطحيًا من العمارة الفرعونية المهجنة، وهذا التقليد يقتل بالفعل القيمة الأصلية، من خلال فصل الشكل الذي تم إنشاؤه عن المحتوى، وهذا له بعض النتائج مثل تدمير التاريخ والميل إلى استخدام السينوغرافيا.
طمس التاريخ
يتم تدمير التاريخ – أو طمسه – على مرحلتين أو مرورًا بمستويين: الأول انهيار السلسلة الدالة التاريخية، والثاني الإبدال العشوائي للماضي التاريخي. أما انهيار السلسلة الدالة التاريخية، فمشكلة تنظيم زمني وهذا أمر بديهي لفكرة أن أي شيء له جذور في الزمان والمكان، وتمزق العلاقة المتشابكة بين الدال والمدلول ترك أنقاضًا من الدوال متميزة ومستقلة، كسلسلة هدايا نقية ولكنها غير ذات صلة في الوقت، فيحدث خسرانًا في المعنى عندما تنقطع أوصال العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل.
يمكننا تصنيف الإزاحة العشوائية للعناصر المعمارية من التاريخ تحت عنوانين: الأول هو “التاريخ كزمن” أي التشكيك في المعنى الخاص بالزمن، خاصة عندما يكون من الصعب تحديد الوقت، علينا أن نسأل مثل كيفين لينش: “ما الوقت في هذه المساحة؟ في أي وقت هذا المكان؟”، والثاني استخدام الزخارف والأفكار بغض النظر عن الظروف التي تم إنتاجها، ففي بعض الأحيان لا ترتبط هذه الصور المؤثرة بالسياق، وتأتي الصور أحيانًا من مصادر عديدة لا ترتبط ببعضها البعض تاريخيًا وضمنيًا.
العمارة تخاطب معاصريها، هل طرأ على عقل المعماري أن يفكر ولو للحظة في زائري ومستخدمي هذا البناء، كيف يعيشون؟ كيف يلبسون؟ كيف يأكلون؟
بهذه الطريقة، تصبح مدينة مثل عاصمة مصر الجديدة المخطط لها ويتم تنفيذها حاليًّا أو “العاصمة الإدارية الجديدة” عبارة عن فسيفساء مجمعة تتكون من رموز مجازية معروفة، وهذه المدينة بالطبع لا يمكن أن تتجاوز المحاكاة الساخرة الفارغة، والمنتج الناتج هو بنية دون حوار، دون أي علامة على الاستمرارية في السلسلة، ويصبح منتجًا لا معنى له يتكون فقط من الاقتباسات والأقواس! كمرجع يجد الماضي نفسه تدريجيًا بين قوسين ويختفي تمامًا بمرور الوقت، ولا يترك شيئًا سوى نص فارغ خلفه، وتؤدي العملية التدريجية لهذه المفاهيم إلى انخفاض قيمة التراث، حيث إنه الاتجاه العام لتقليل معنى العمارة، أي الإنتاج، لتصبح سلعة!
العمارة تخاطب معاصريها، هل طرأ على عقل المعماري أن يفكر ولو للحظة في زائري ومستخدمي هذا البناء، كيف يعيشون؟ كيف يلبسون؟ كيف يأكلون؟ قبل أن ينتج تلك النسخ الرديئة من عمارة صُممت لأناس عاشوا قبل آلاف السنين؟
وكما ذكرت من قبل في مقالي نحو فهم جديد للعمارة فإن العمارة الناجحة هي التي تجاوز سطحية فكرة إنشاء مجسم فيزيائي من العدم إلى فكرة الإنشاء الواعي لجعل العمارة تقص علينا ما احتوت، فالعمارة الواعية إذًا تحول كتل الطوب تلك من الحالة الفيزيقية إلى عالم ميتافيزيقي يستحق التأمل والاستمتاع، فالعمارة جزء من عدة ظروف محيطة أكثر عمومًا، كالظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وخلافه، وحتى الخصائص المرئية الفيزيائية كمواد البناء وطريقة الإنشاء وخلافه، قد تساهم في حالة استخدامها بشكل موفق في نقلنا إلى ذاك العالم الميتافيزيقي المذكور أعلاه.
فالعمارة متأصلة في الوقت والمكان والكيف وتلك المعاني الضمنية التي تحتويها العمارة بالطبع قد تسمح بتفسيرات شخصية مختلفة، بل وتضيف قيمة معنوية أو رمزية مع مرور الوقت، إضافة إلى احتمالية تغير تلك المعاني مع اختلاف الزمان.
في هذا الاتجاه تصبح الحقيقة بأكملها صورًا، ومن الأسهل إنشاء هندسة معمارية عن طريق فصلها إلى وجود داخلي (مساحات) ووجود خارجي (صورة) تمامًا مثل مفهوم السقيفة المزخرفة لروبرت فينتوري، أي انفصال الواقع عن الصور المعروضة.
فالمشكلة هنا ليست فقط في قضية الهوية، فلنؤجل الحديث فيها لاحقًا، المشكلة أيضًا في سطحية هذا الطرح والتقليد الرديء الذي يضر أكثر مما ينفع، فكما وضحت بالأعلى، العمل المنفصل عن زمانه ومكانه ليس له أي قيمة بل ويقتل القيم الموجودة بالفعل، ومن السهل في بلد يهمل شعبها تراثهم أن يقول قائل: ما المانع من هدم هذا المبنى التاريخي، سوف نبني أفضل منه فيما بعد؟
يمثل العرض الفرعوني ملاذًا آمنًا في وقت تعاني فيه الدول العربية والإسلامية ومصر من هزائم متتالية، فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية.
وقد رأينا بالفعل الكثير من الشعب يعتبر تراثه “مجرد حجارة”، فهل نفعت تلك النسخ المقلدة في تصحيح ذلك أم زادت الطين بلة؟ فهذا بعينه هو إساءة استخدام التراث، إما عن طريق تدمير المنتجات المعمارية الأصلية ثم محاولة استنساخ نسخة طبق الأصل لا معنى لها تحفز على غياب الأصول الأصلية واستهلاكها أو بإهمالها بالكامل أو عن طريق تحويل هذا التراث إلى نسخة تجارية رخيصة مستخدمة لجذب الاستهلاك السطحي.
يقول الدكتور والمنظر المعماري علي عبد الرؤوف في مقاله متى يعلنون وفاة الفراعنة “المشكلة معقدة عندما نتحول إلى دولة ذات حضارة متراكمة ومعقدة مثل مصر وعاصمتها القديمة القاهرة التي تعتبر وفقًا لآراء أهم المؤرخين الحضريين مع إسطنبول وروما المدينة الأكثر تعقيدًا في فصولها التاريخية. يمثل العرض الفرعوني ملاذًا آمنًا في وقت تعاني فيه الدول العربية والإسلامية ومصر من هزائم متتالية، فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية. يذكر العصر الفرعوني المصريين بل ويخدرون خدرًا لطيفًا يجلبهم إلى عوالم المجد والنصر والسيطرة على العالم التي مرت لآلاف السنين.
لنتأمل في كيفية استهلاك فن ورموز الحضارة الفرعونية في مشاركتنا المصرية في المهرجانات والمعارض الدولية والمنتديات الدولية ومن السهل ملاحظة أن هناك عودةً قويةً للهوية الفرعونية أو غير الإسلامية كمرجع مرئي ليس فقط إلى هندسة المدينة، ولكن تقريبًا إلى أي شيء يتعلق بالثقافة والفنون. خاصة المباني العامة والمؤسسية والحكومية التي توضح لنا تعبيرًا عن اتجاه الدولة أو المؤسسة أو السياسة العامة”.
لقد أصبحنا محاطون بتلك الأمثلة المتعلقة بذلك التراث المستهلك، سواء في العاصمة الإدارية الجديدة أم تجديدات ميدان التحرير الأخيرة، وفي المقابل فلا تتعجب إن سمعت أن الحكومة هدمت أثرًا يعود إلى ألف عام مضى، فقد تم بناؤه عام 1273 وهدم في 2019 ألا وهي وكالة العنبريين، وغيرها الكثير مما يُهمل أو يُهدم لأنها كما قلنا “كومة من الحجارة” فلماذا لا يتم هدم مبنى قديم مختل وظيفيًا واستبداله بمشروع جديد سيوفر الكثير من الأموال للدولة؟
في المقال القادم بإذن الله وقبل استكمال الحديث عن صراع الأيدلوجيات بالدولة المصرية، سوف نلقي نظرة على الطبقية المجتمعية المصرية وكيف تؤثر على شكل المدينة.