بعد ساعات قليلة من تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشأن ليبيا والتلويح بالتدخل العسكري حفاظًا على ما أسماه “الأمن القومي” لبلاده، سارعت السعودية والإمارات لإعلان تأييدهما الكامل لتلك التصريحات وذلك من خلال بيانين رسميين صادرين عن الدولتين الخليجيتين.
سعوديًا.. قالت الرياض إنها تقف إلى جوار القاهرة في الدفاع عن حدودها وأمنها القومي، معبرة عن تأييدها لكل ما جاء في كلمة السيسي، داعية المجتمع الدولي إلى الاضطلاع بمسؤولياته للتوصل إلى حل شامل يؤكد سلامة وأمن الأراضي الليبية.
إماراتيًا.. أكدت وزارة الخارجية والتعاون الدولي دعم أبو ظبي الكامل لما يتخذه النظام المصري من إجراءات لحماية أمنه واستقراره من تداعيات التطورات في المشهد الليبي، مشيدة بما وصفته “حرص القاهرة على حقن دماء الأشقاء من أبناء الشعب الليبي، وتهيئة الظروف العاجلة لوقف إطلاق النار، وبدء مفاوضات العملية السياسية الشاملة تحت رعاية الأمم المتحدة”.
وقال السيسي خلال تفقده عناصر المنطقة العسكرية الغربية، أول أمس السبت: “أي تدخل مباشر لمصر في ليبيا باتت تتوفر له الشرعية الدولية سواء للدفاع عن النفس أو بناء على السلطة الشرعية الوحيدة المنتخبة في ليبيا وهو مجلس النواب (في طبرق)”، مضيفًا “ستكون أهدافنا حماية الحدود الغربية، وسرعة دعم استعادة الأمن والاستقرار على الساحة الليبية، باعتبارهما جزءًا من الأمن القومي المصري”.
كما أكد في الوقت نفسه أن “تجاوز سرت والجفرة خط أحمر بالنسبة لمصر”، وأنه لن يدافع عن ليبيا إلا أبناؤها، معربًا عن استعداد مصر “لتسليح أبناء القبائل (الليبية) وتدريبهم”، وهي التصريحات التي أثارت الكثير من الجدل، ورفضتها حكومة الوفاق الشرعية الليبية واعتبرتها “تدخلًا غير مقبول” في الشأن الليبي.
تأتي تصريحات السيسي في وقت تتصاعد فيه الأجواء بشأن ملف سد النهضة، في ظل إصرار أديس أبابا على ملء خزان السد دون حاجة لاتفاق مع الجانب المصري والسوداني، وهي الخطوة التي تهدد أمن مصر المائي وتضع مستقبل الملايين من المصريين على المحك.
ورغم ما يحمله هذا الملف من تهديد لمستقبل مصر الاقتصادي والمعيشي، كون مياه النيل مسألة حياة أو موت بالنسبة للشعب المصري، الأمر الذي يجعل من هذا الملف الأشد خطورة للقاهرة، فإنه لم يصدر أي رد فعل من الحليفتين، السعودية والإمارات، لدعم الموقف المصري في أزمته تلك، ما أثار الكثير من التساؤلات على لسان رجل الشارع العادي، لماذا التسارع لإعلان التأييد في الملف الليبي الأقل تهديدًا فيما يُغض الطرف عن ملف السد وهو الأشد خطورة؟
لماذا ليبيا إذًا؟
لم يكن الدعم الإماراتي السعودي للواء المتقاعد خليفة حفتر وميليشياته على سبيل الهدية، أو من باب القناعة الأيديولوجية والسياسية بأحقيته في التمويل والمساندة، لكنه موقف يقف خلفه الكثير من البواعث التي تستهدف في المقام الأول المصالح الاقتصادية واللوجستية لكلا البلدين.
قيام دولة مدنية داخل ليبيا خط أحمر بالنسبة لأبو ظبي على وجه التحديد ومعها الرياض إلى حد ما، وعليه كان الدعم غير المنقطع لحفتر وجنرالات الجيش طيلة السنوات الماضية في مواجهة الحكومة المدنية المعترف بها دوليًا، وهو التوجه الذي يدفع للتساؤل عن خشية تلك الدول من استقرار المشهد الليبي وفق نظام مدني.
تداعيات إقامة دولة مدنية اقتصاديًا وسياسيًا هي ذاتها الإجابة عن السؤال السابق، فهزيمة العسكر وفرض التوجهات المدنية سيطرتها على المشهد ربما يفتح ملف الأموال الليبية المنهوبة في بنوك الإمارات، التي تلاعب فيها أبناء زايد مع عارف النايض، عراب الإمارات في ليبيا، وهو ما قد يعرضها للمساءلة الدولية.
من جانب آخر فإن دولة مدنية في ليبيا تعني إنشاء كيان اقتصادي قوي على البحر المتوسط، يتقاطع بشكل كبير مع الموانئ الأوروبية، وهو ما يعني تهديد وجودي لموانئ دبي، عصب الاقتصاد الإماراتي، وعليه لا بد من إبقاء الوضع على ما هو عليه، فمزيد من الاشتعال يضمن تفوق أبناء زايد.
وفي الأخير فإن نجاح الثورة المدنية في ليبيا يمثل هاجسًا لدى النظم الحاكمة في الإمارات والسعودية، خشية تصدير عدوى الثورة، وهو ما دفعهما منذ 2011 إلى وأد أي تحركات ثورية ومحاولة إجهاض أي نجاحات لها، في مقابل دعم النظم العسكرية سهل السيطرة عليها والتعامل معها، ولعل ما حدث في مصر خير دليل على ذلك، وما يمارس في تونس الآن يعكس هذا التوجه بشكل بالغ الوضوح.
ولعل تأييد الدولتين الخليجيتين لتحديد السيسي مدينة سرت كـ”خط أحمر” يكشف النقاب عن نقطة جزئية في هذا الدعم السريع، فتلك المدينة التي تبعد 450 كيلومترًا شرق طرابلس وكانت معقلًا لتنظيم الدولة قبل أن تسيطر عليها قوات حكومة الوفاق العام 2016 وإن سقطت في يناير/كانون الثاني الفائت في أيدي قوات حفتر مرة أخرى، تمثل كنزًا إستراتيجيًا للحلف الدعم لحفتر، كونها تمثل المصدر الرئيسي للنفط وفيها موانئ تصديره، بحد متوسط 900 ألف برميل يوميًا، مقابل 30 ألف برميل في الغرب.
وفي المجمل فإن الموقف الإماراتي السعودي الداعم لتوريط الجيش المصري في مواجهات عسكرية داخل الأراضي الليبية يصب في مصلحة البلدين اللذين يغضبهما الوجود التركي القوي الداعم لحكومة الوفاق لا سيما بعد إلحاقها الهزائم المتتالية بصفوف ميليشات حفتر، هذا بخلاف المكاسب الاقتصادية التي سيحصلون عليها حال ترجيح الكفة لصالح الجنرالات على حساب الدولة المدنية كما ذكرنا آنفًا.
ماذا عن ملف السد؟
إن كان هذا هو الموقف الرسمي لأبو ظبي والرياض بشأن دعم القاهرة في معركتها للدفاع عن أمنها القومي في ليبيا كما ذكرت البيانات الرسمية الصادرة عن البلدين، الذي يتناغم مع العلاقات الحميمية التي تربط بين أنظمة الدول الثلاثة منذ تولي السيسي رئاسة البلاد في 2014، ليبقى السؤال: ماذا عن الموقف من سد النهضة؟ علمًا بأن مصر تواجه مأزقًا كبيرًا يهدد مستقبلها المائي.
اللافت أن هناك حالة تجاهل تام لهذا الملف رغم خطورته، فبينما تستخدم البلدان مكبرات الصوت الدبلوماسية للإعلان دعم حليفهما المصري في المسار الليبي نجدهما في ملف السد، وهو الأخطر، يتواريان عن المشهد بأكمله، في صورة تعكس تناقضا كبيرًا يفضح عمق الميكافيللية والمصالح الذاتية على حساب الالتزامات التي يقرها مبدأ الدفاع عن الحلفاء.
وبالعودة إلى الوراء قليلًا، قبل عامين تحديدًا، وبينما كانت الأجواء في القاهرة على صفيح ساخن جراء تعنت أديس أبابا في موقفها من السد، وتعمدها المضي قدمًا في ملء خزانه بما يعني تعطيش الملايين من المصريين، كانت الرياض وأبو ظبي تتجملان لاستقبال رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد آبي أحمد، الذي اختار البلدين الخليجيين ليكونا محطته الأولى ضمن أولى جولاته بعد انتخابه في مارس 2018.
في 18 من مايو/آيار من نفس العام، أي بعد شهرين فقط من توليه رئاسة الحكومة، التقى أبي أحمد بولي عهد السعودية في الرياض، وكانت الزيارة ناجحة بامتياز، على المستويين السياسي والاقتصادي، فالمملكة تعتبر المستثمر الثالث بأديس أبابا، باستثمارات تقدر قيمتها بأكثر من 5 مليارات دولار في قطاعات متنوعة، بخلاف العمالة الموجودة بالمملكة.
وقد عبرت الرياض عن دعمها لتوجهات رئيس الحكومة الجديد بإبداء حسن نيتها تجاهه وذلك من خلال الموافقة على إطلاق سراح نحو ألفي سجين إثيوبي، بجانب طلب الإفراج عن رجل الأعمال السعودي، محمد حسين العمودي، أحد أكبر المستثمرين في سد النهضة، والمعتقل بتهمة الفساد “حملة الريتز كارلتون”، وكشف أبي أحمد حصوله على وعد بالإفراج عنه.
وفي اليوم التالي مباشرة، توجه إلى أبو ظبي، ملتقيًا ولي عهدها محمد بن زايد، حيث تناولا سبل التعاون المشترك، فالإمارات تعتبر ثاني أكبر وجهة لصادرات إثيوبيا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خلال عام 2016، وتاسع أكبر وجهة للصادرات الإثيوبية على مستوى العالم خلال العام ذاته، كما تحتل المرتبة الثانية بين المستثمرين الخليجيين في إثيوبيا بعد السعودية.
تصاعد نفوذ إثيوبيا القاري
المتابع للمشهد السياسي الإثيوبي يجد أنه منذ عام 1991 حين وصل حزب الجبهة الشعبية الديمقراطية الثورية إلى سدة الحكم، بقيادة رئيس الوزراء الراحل ميليس زيناوي، نجحت أديس أبابا في ترسيخ أقدامها السياسية والاقتصادية داخل القارة بعد عقود من التهميش.
فعلى المستوى الاقتصادي فرضت نفسها بقوة حين تخطت معدل نمو سنوي حاجز الـ7% سنويًا لتكون إحدى أكبر القوى الاقتصادية ذات النمو الاقتصادي المرتفع في القارة الإفريقية، رافق ذلك تعزيز دورها القيادي في القارة، جعلها قبلة للباحثين عن الوساطة وهو ما حدث في الصومال والسودان وإريتريا وغيرها، لتسحب البساط من تحت أقدام القاهرة التي تخلت عن عمقها الإفريقي منذ سنوات طويلة لصالح تقوية علاقاتها بدول الخليج.
ورغم أنها دولة حبيسة، باتت خلال السنوات الأخيرة على وجه الدقة مقصدًا للعديد من القوى الإقليمية والدولية الساعية للتحالف معها، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين وتركيا و”إسرائيل”، بجانب الدول الخليجية كذلك وفي مقدمتها الإمارات والسعودية وقطر.
تلك المقومات السياسية والبشرية (109 ملايين حسب تعداد 2018) جذبت لها شراكات اقتصادية هائلة، فالصين على سبيل المثال منحت الإثيوبيين خلال الفترة من 2000-2017 حزمة تمويلات تجاوزت 12.3 مليار دولار، كما أسهمت في الوقت ذاته في بناء مشاريع إستراتيجية لأديس أبابا مثل سد النهضة والسكة الحديد بينها وبين جيبوتي التي يتجاوز طولها 700 كيلومتر بتكلفة تجاوزت 3 مليارات دولار.
بين القاهرة وأديس أبابا
الحضور القاري القوي لإثيوبيا وتعزيز دورها الإقليمي جعلها أحد أبواب إفريقيا الكبيرة وهو ما يدعو للتساؤل: هل يضحي زعماء الخليج بعلاقتهم بأديس أبابا لأجل القاهرة؟ وهو سؤال يبدو في ظاهره صعب الإجابة عنه في ظل تقاطع العديد من الملفات بين الخليج والعاصمتين الإفريقيتين، إلا أن العديد من الشواهد ربما تُميل الكفة هنا أو هناك.
الرياض وأبو ظبي على يقين بأن غياب حضورهما القوي داخل إثيوبيا سيفتح المجال أمام خصومهما، تركيا وقطر على وجه التحديد، بالتمدد أكثر وأكثر في ظل العلاقات القوية التي تجمع بينهما والنظام الإثيوبي، فقد تخطت استثمارات أنقرة هناك نحو 3 مليارات دولار، فيما تتجاوز الاستثمارات القطرية نصف مليار دولار، بجانب أن هناك أكثر من 22 ألف إثيوبي يعيشون في قطر.
المواقف السياسية خلال الأعوام الأربع الأخيرة تشير إلى تخلٍ واضح من الخليج لحليفهم المصري في ملف سد النهضة
ومن هنا يخشى البلدان أن يتركا الساحة الإثيوبية للنفوذ التركي القطري، كما يمكن لأبو ظبي الاستعانة بأديس أبابا في تحقيق أهدافها داخل إفريقيا في مقابل تلبية مطامع إثيوبيا في منطقة القرن الإفريقي لفك عزلتها البحرية والبحث عن سواحل لها هناك.
المواقف السياسية خلال الأعوام الأربع الأخيرة تشير إلى تخلٍ واضح من الخليج لحليفهم المصري في ملف سد النهضة، بل إنه في بعض الأوقات استخدمت تلك الدول وعلى رأسها السعودية هذا الملف لمناكفة مصر خلال أوقات التوتر التي كانت تشهدها العلاقات بين البلدين.
ففي ديسمبر/كانون الأول 2016 توجه وزير الزراعة السعودي إلى أديس أبابا في زيارة سريعة لبحث أوجه التعاون الزراعي بين البلدين، وبعدها بأيام قليلة زار مستشار العاهل السعودي أحمد الخطيب، سد النهضة، للوقوف على إمكانية توليد الطاقة المتجددة، وهو ما أثار الجدل حينها داخل الشارع المصري.
وعليه ورغم ما هو معلن إعلاميًا بشأن قوة التحالف بين مصر والسعودية والإمارات، فإن الواقع ينافي ذلك في كثير من الملفات، فغياب الدعم الكافي للحليف المصري في ملف السد في ظل ما تملكه تلك الدول من أوراق ضغط كبيرة ضد إثيوبيا، خاصة على الجانب الاقتصادي، يؤكد أن حكام البلدين لا يرغبون في التضحية بعلاقتهم بأديس أبابا لصالح القاهرة، وهو ما يفسر – حتى كتابة هذه السطور – حالة الصمت المخيم على مواقف البلدين حيال هذا الملف تحديدًا مقارنة بالملف الليبي.. وهو السؤال الذي ما زال الشارع المصري يبحث عن إجابة عنه.