“إحنا شعبين شعبين شعبين
شوف الأول فين
والتاني فين
وأدي الخط ما بين الاتنين
بيفوت”.
– قصيدة الأحزان العادية لعبد الرحمن الأبنودي
الطبقية المتراكبة
يبدو أن الطبقية المصرية ليست بتلك البساطة التي صورها الأبنودي في الأبيات السابقة، فالطبقية المصرية معقدة متشابكة مركبة، ونحاول اليوم في هذا التقرير استكشاف انعكاس الطبقية المصرية المركبة على القاهرة، وكيف تعزز تلك الانفصالية المجتمعية شكل المدينة الحاليّ.
من المعروف أن المدينة بعمرانها ونسيجها تعكس تكوينها الطبقى، فالفقير لن يعيش في الأحياء الراقية، وبيئته لن ترقى في بنيتها لما ترقى إليه المجمعات المسورة، والغنى يبتعد عن المركز بما لديه من موارد لينعم بحياة أكثر رفاهة وراحة في مجمعات سكنية ذات مساحات خضراء أوسع ومجالات أكثر خصوصية، وبالطبع يريدون عندما يخرجون إلى الشارع ألا يروا الفقراء في طريقهم، ليس لأنهم يكرهونهم، بل كما يذكر أحد إعلانات المجمعات السكنية، لأنهم يريدون رؤية “أناس تُشبههم”!
ومع الأسف فإن نمط العمران الحضري الذي حلم به الكثير بعد وعود الاشتراكية والقضاء على الإقطاعية وما بعدها من وعود الانفتاح والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كانت كسراب بقيعة حسبناه ماءً في أثناء ظمأنا لتقليل تلك الفجوة المجتمعية التي وصلت أعلى ما وصلت له في العقود الأخيرة.
إن الطبقات في مصر معقدة ولا يمكن تعريفها من خلال ثنائية الأغنياء والفقراء فقط، ولا مع التصنيف الغربي الحديث إلى ثلاثة أقسام رئيسية للطبقة الاجتماعية: الطبقة العليا والطبقة الوسطى والطبقة الدنيا. ومع ذلك فإن الشكل الأكثر هيمنة للطبقات في مصر خاصة منذ عام 1952 هو الطبقة الحاكمة العسكرية، فمصر لديها نظام عسكري يحكمه الجيش منذ 70 عامًا تقريبًا، في مثل هذه الدولة البوليسية يتمتع الجيش وقوات الشرطة والقضاة والهيئة التشريعية بامتيازات فائقة لا يتمتع بها المواطنون “العاديون”.
وبديهيًا، يجب أن يكون لهذه السلطة دعم مالي، لهذا السبب يمكن إضافة رجال أعمال أقوياء إلى هذه القائمة وهم يظهرون شكلًا آخر من الطبقية كطبقة النخبة، من ناحية أخرى، هناك شكل قوي آخر هو الحالة المالية، فلا يهم الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها طالما لديك المال.
أحد أشكال التصنيف الأخرى التي لا يمكن تجاهلها في المجتمع المصري هو الدين، ومصر لديها أقلية مسيحية تمثل نحو 8% إلى 10% من السكان، ورغم أن المسيحيين المصريين يشتركون في الكثير من الجوانب مع الثقافة الإسلامية، فإن تلك الطبقية لها دور ملحوظ في صراع الهويات في مصر فيما سنفصله لاحقًا.
في دراسة بعنوان “الخريطة الطبقية ومسارات العدالة الاجتماعية في مصر” الصادرة عن المركز العربي للبحوث والدراسات، نرى أن التركيب الطبقى في مصر يتكون من ست طبقات: الطبقة المركزية المتحكمة والطبقة الوسطى العليا والطبقة الوسطى المستقرة والطبقة الوسطى الفقيرة والطبقة العاملة والفئات اللاطبقية الكادحة، ونجد أن نسبة الطبقة المركزية المتحكمة فقط 2%، بينما الطبقة العاملة والفئات اللاطبقية تبلغ نسبتهما معًا 62%، وتلك الحالة بالطبع مرتبطة بالفقر، الذي هو مشكل رئيسي لشكل المدينة في يومنا هذا.
الانفصال التدريجي أدى إلى الشقاق والشرخ المجتمعي بدلًا من أن تكون العلاقة بين الطبقات علاقة تفاعلية مبنية على الإخاء أو حتى المصالح المشتركة
الفجوة المجتمعية والشقاق العمراني
بدلًا من مساهمة النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي فى تقليل تلك الفجوة، زاد الانشقاق وأصبح مركز القاهرة طاردًا لا جاذبًا، وأصبحت أحياء كانت بالأمس رمزًا للطبقة العليا فاقدة لرونقها القديم، وأدى ذلك الهروب إلى تمدد القاهرة بشكل جنوني متزايد بداية من الستينيات قبل انحدار أحوالها إلى القاع وظهور فكرة المدن الجديدة بعهد السادات ثم مبارك التي فشل معظمها في تحقيق أهدافه المنشودة.
ومن ثم انتشار نموذج المجمعات السكنية المسورة البعيدة عن المركز التي جذبت العديد من سكان الطبقة فوق المتوسطة والطبقات العليا وساكني أحياء القاهرة الراقية مثل الزمالك ومصر الجديدة وغيرها التي لا تبعد كثيرًا عن أحياء الطبقة الوسطى مثل بولاق وعين شمس وغيرها، فتحولت المعادلة من المدن المتضادة المتداخلة إلى المركز الطارد والأجسام المتناثرة.
يقولون إن الأجنبي يستطيع رؤية الخفي عن المواطن المعتاد على مشاهد الحياة اليومية، يقول أحد زائري القاهرة في الفترة الأخيرة إنه لم يكن يعلم أي شيء عن مصر بخلاف الأهرامات وأبو الهول والحضارة المصرية القديمة وأوراق البردي! ولكن عندما خطا خطواته الأولى في القاهرة وجد أن العاصمة المصرية مختلفة تمامًا عما تخيله، وعلى الرغم من سحرها الخاص الذي غمره واستحوذ على قلبه، فإنه انزعج من الفوضوية والعشوائية، والبيوت التي تبدو كأنقاض دولة محطمة، ومشهد المباني غير المطلية والطوب الذي ظن أنه سيتطاير هواءً فوق رؤوسهم!
تلك الفوضوية القاهرية تُمثل جزءًا من المدينة لا يعكس حقيقتها الكُلية، فالجانب الآخر من القاهرة المتمثل فى المجمعات السكنية الفاخرة، الحدائق والمتنزهات غير متوفر لمعظم سكان القاهرة. ولكن انتقال تلك الطبقات ذات القوة والتأثير لتلك المناطق الطبقية المنعزلة أفقد القاهرة الكثير من جاهها ورونقها السابق.
فالقيمة الاجتماعية السابقة للعديد من الأحياء بدأت في التقلص مما اضطر الطبقات الأعلى للهرب من مركزها إلى الضواحي الجديدة والمجمعات المسيجة خارج حدود المركز للابتعاد عن الساعين خلف قوت يومهم من المهاجرين وأهل القاهرة.
هذا الانفصال التدريجي أدى إلى الشقاق والشرخ المجتمعي بدلًا من أن تكون العلاقة بين الطبقات علاقة تفاعلية مبنية على الإخاء أو حتى المصالح المشتركة.
فالطبقة العُليا تُنادى في إعلانات التلفاز بالابتعاد عن القاهرة والذهاب الى تلك المدينة الفاضلة التي من مزاياها أن الجميع يشبهون بعضهم البعض فيها! فمن هم هؤلاء الذين ستشبههم اذا انتقلت لتلك المدينة؟ بالنظر إلى الإعلان نجد أن ساكني هذا المنتجع السكني تقل بينهم المحجبات – وإن كان هذا لا يعني بالفعل كون تلك الفئة المُمثلة تمامًا مثل من يظهرون على الاعلانات ولكنها الرسائل الضمنية التسويقية- ،ويقضي كبارها أوقاتهم في الحدائق، ويرتدون ملابس التريض، وتبدو عليهم جميعًا مظاهر الصحة والسعادة والرضا بالعيش.
وعلى الجانب الآخر امتلأت شبكات التواصل الاجتماعي بالإعلانات الساخرة المضادة التي تعرض وياللأسف بضعًا من حقائق العيش في الجانب الآخر من القاهرة، فكان لهذا الإعلان دور كبير في توضيح الفارق الطبقي في نسيج القاهرة، أو ما سُمي من قبل بالمدن المتعددة داخل المدينة الواحدة.
الدولة والتخطيط الطبقي
يكشف لنا المهندس حسين صبور في أحد لقاءاته التليفزيونية أن سبب إنشاء القاهرة الجديدة بدأ من التخطيط للطريق الدائري، فيوجد بموقع هذا الطريق العديد من العشوائيات، فاقترح فريق التخطيط الفرنسي آنذاك بموافقة الدولة أن تلك العشوائيات سُتنقل إلى الخارج مما يؤدي إلى إخلاء مناطق ذات قيمة مرتفعة بعضها يقع بالقرب من النيل ويبلغ عدد سكانها نحو مليوني نسمة، وذكر أن السبب الرئيسي لذلك كان اقتصاديًا حيث سيتم إجلاؤهم إلى مساكن “محترمة” على حد قوله، والاستحواذ على أراضي باهظة الثمن يحتلونها في ذلك الوقت، وخططوا لذلك بإنشاء عشرة أماكن حول القاهرة، كل منها يتسع لمئتي ألف نسمة، جزء منها في شرق وجزء منها غرب الطريق الدائري، وسُميت تلك الأماكن بالتجمعات.
ولكي تكون تلك العملية العمرانية ذات سرعة وسهولة، ملك كل تجمع لجزء من الدولة، فتملكت على سبيل المثال مصر الجديدة التجمع الخامس، ومدينة نصر تملكت التجمع الأول وهكذا، وخُطط لتلك التجمعات أن يسكنها الفقراء الراحلون عن العشوائيات، ووجدت الدولة أن تلك التجمعات عالية تحتاج لمصاريف باهظة لتوصيل المياه والكهرباء، وقال الوزير المسؤول إن الدولة لا تملك المال الكافي لإنشائها، فقرر الوزير تغيير الوجهة من الفقراء إلى الأغنياء، مما سبب الكثير من المشاكل كما عرض السيد صبور في اللقاء المذكور بالأعلى.
ما نستطيع استنباطه أن الدولة لأسباب عدة انهمكت في التخطيط للأغنياء لا الفقراء، وهدفت الحكومة إلى بيع الأراضي للشركات الاستثمارية التي تسابقت في بناء المجتمعات المسورة ذات الأسماء اللامعة، لكن المشكلة أن الدولة لم تراع أو تصحح أخطاء المدن الجديدة التي أُنشئت في العصور السابقة وأن فشلها كان بجزء كبير بسبب ضعف بنية المواصلات التي تربطها وتربط بين أعمال سكانها في القاهرة، مما أدى لزيادة الازدحام وتكدسه في مناطق أخرى فكانت النتيجة نقل الازدحام بدلًا من تخفيفه.
جوجل إيرث غلاف الكتاب
إذا نظرت للقاهرة من أعلى وتجولت إلكترونيًا في أجوائها عن طريق برنامج جوجل إيرث أو ما شابهه، فسوف تجد الكثير من الصور التي تحكي حال هذا المجتمع الطبقي المعقد، دعونا نُنهي مقالنا بتلك الصور التي تتحدث عن نفسها، ولنستكمل في مقالنا القادم الحديث عن العاصمة الإدارية الجديدة، هل هي حل فعال لمشاكل القاهرة أم هي يوتوبيا غير مرغوب بها في وسط الصحراء؟
حي مدينة نصر
حي روض الفرج
حي امبابة
التجمع الخامس
المعادي ودار السلام… عالمين مختلفين